الأراجوز.. صانع الحكايات الذي جسد حياة المصريين اليومية

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

لم تكن تلك الدمية الصغيرة بعيونها السوداء الحادة وقبعتها الحمراء، بحركاتها السريعة وصوتها الرفيع، بضحكاتها وسخريتها اللاذعة؛ مجرد وسيلة للتسلية والمرح، بل استطاع “الأراجوز” عبر سنوات بعيدة أن يجسد الحياة اليومية للمصريين بطريقته الخاصة، حيث أصبح مرآة حقيقية لحياة الإنسان الريفي والشعبي في المحروسة.

قبل أيام أدرجت منظمة اليونيسكو ملف “الأراجوز”، على قائمة الصون العاجل للتراث غير المادي بمنظمة اليونسكو، وهو ما اعتبرته د. إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة، إنجازا جديداً للجهود الرامية إلى الحفاظ على الموروثات الشعبية غير الملموسة، ويعد نصرا غاليا فى ميدان حماية الهوية، ويأتي بعد عامين من تسجيل فنون التحطيب الفرعونية بذات القائمة.

وقالت “اليونسكو”: إن عروض الأراجوز تعد شكلا من أشكال عروض الدمى المسرحية التقليدية في مصر، معتمدة على استخدام دمية يدوية تقليدية تعرف باسم “عروسة الأراجوز”، واستمد هذا النوع من العروض المسرحية اسمه من هذه الدمية أو “العروسة” التي تعتبر العنصر الرئيسي فيه.

وينتشر الأراجوز في المناطق الريفية والشعبية، وتقام عروضه في المواسم والأعياد والموالد، ويتم صنعه من الخشب والقماش، فهو عبارة عن قفاز على شكل دمية ويتم تحريكه باليد، وتصنع رأسه من خامة خفيفة وصلبة كالخشب، يتم رسم ملامح الوجه عليها، يعلوه “طرطور” ويتم إلباس بقية الجسم جلبابا طويلا.

وكلمة “الأراجوز”، لها أصل فرعوني بمعنى “صانع الحكايات”، وهو عادة يتميز بملابسه الحمراء وطرطوره الطويل، وهو يجمع بين الرجولة والشجاعة والقوة والإيمان، والقدرة أيضاً على المكر والتفكير. ويعتقد البعض أن كلمة أراجوز تركية الأصل، مشتقة من كلمة “قرّه قوز”، والتى تتكون من مقطعين هما”قره” بمعنى سوداء، و”قوز” بمعنى عين، أي أن “قره قوز” هو”ذو العين السوداء”، وترمز إلى النظرة السوداوية للحياة.

وتقول الأسطورة: إن السلطان “أوخان” العثماني الذي تولى العرش في العام 1236 أمر ببناء جامع في مدينة “بورصة” بعد فتحها، وكان بين العمال الذين يعملون في البناء عاملان يدعى أحدهما “قره قوز” والثاني “حاجي واد” وكلاهما يملك من خفة الدم والمرح والفكاهة ما يجعلهما يقومان بحركات طريفة وفكاهات هزلية جعلت العمال يلتفون حولهما لمشاهدة ما يقومان به من ألعاب مسلية تاركين العمل، مما جعل حركة البناء بطيئة. ولما سأل السلطان عن ذلك أخبروه فأمر بحضورهما ورأى منهما ما أسعده بعد أن مثلا أمامه، ولكنه أمرهما أن يقلعا عن هذا حتى لا يتعطل البناء، إلا أنه بعد فترة لاحظ بطء العمل بسببهما، فقام بإعدامهما، وإن كان ندم بعد ذلك وحزن، كما تشير الرواية.

وكان في مدينة بورصة بتركيا رجل يدعى “الكُشتري” أراد أن يُسري عن السلطان ويذهب عنه حزنه، فعكس خيال كل من “القره قوز” و”حاجي واد” على ستارة بيضاء، ونجح في تسلية السلطان، وهكذا قام أرباب هذا الفن بتشخيص هاتين الشخصيتين.

والأراجواز جزء من الحياة المصرية منذ زمن بعيد، حيث أشار الرحّالة التركي أولياجيلي في كتابه “سياحت نامة مصر” إلى أحد الفنانين في القرن العاشر الهجري الذين كانوا يلاطفون المرضى بدمى خشبية فتتحسن حالتهم.

والأراجوز عبارة عن دمية “قفاز”، رأسه مصنوعة من خامة خفيفة وصلبة كالخشب، مرسوم عليها وجه ذو تعبيرات حادة، وتنتهي من أعلى بـ”طرطور أحمر اللون”، أما وسط الدمية وصدره فهما عبارة عن جلباب أحمر طويل، ويداه قطعتان من الخشب، ويجري التحكم فيه بتحريكها باليد حيث يستطيع اللاعب أن يحرك رأسه بأصبع السبابة، وتختفي يد اللاعب كاملة داخل جلباب الأراجوز الأحمر.

ويقوم الفنان المؤدي بالغناء وتحريك الدمى والتمثيل وارتجال النص في وقت واحد، واستحضار نبرات صوتية مختلفة، ويعتمد لاعب الأراجوز بشكل كبير على مهاراته الصوتية في تلوين الأداء وتفرد الشخصيات بما يناسب كل شخصية، ويقلد الحيوانات في الوقت نفسه بحيث تشعر أن هناك العديد من الشخصيات خلف الستارة، إلا أنه في الحقيقة غالباً ما يكون مجرد شخص واحد يلعب كل هذه الأدوار.

ووصف علماء الحملة الفرنسية الأراجواز بقولهم: “وقد شاهدنا في شوارع القاهرة عدة مرات رجالاً يلعبون الدُّمى، ويلقى هذا العرض الصغير إقبالاً كبيراً، والمسرح الذي يستخدم لذلك بالغ الصغر، يستطيع شخص واحد أن يحمله بسهولة، ويقف الممثل في المربع الخشبي الذي يمده بطريقة تمكّنه من رؤية المتفرجين من خلال فتحات صُنعت لهذا الغرض دون أن يراه أحد ويمرر عرائسه عن طريق فتحات أخرى”.

وارتبطت عروض الأراجوز بشكل أساسي بالشارع، كما يقول د. نبيل بهجت مدير مركز إبداع بيت السحيمي وأستاذ المسرح بجامعة حلوان، في كتابه ” الأراجوز المصري”، أن دورة الحياة هي أحد أهم الروافد التي شكلت موضوعات عروض الأراجوز، وكان هذا من العناصر الأساسية لجذب جمهور الشارع، فالموضوعات المطروحة تشكل جزءا من حياته، كما ترتبط صناعة العروض بخلق مساحات تسمح للجمهور بالتدخل فيها.

ربما يعجبك أيضا