البتراء.. مدينة الأساطير الوردية

أسماء حمدي

كتبت – أسماء حمدي

“البتراء” مدينة وردية عتيقة، فرضت نفسها على أنظار العالم، حجارتها ومبانيها تحكي عن مقدرة تبدو لنا اليوم خارقة وعصية على التفسير، هذا الإنجاز الإنساني هيمن على خيال الكثير من الباحثين والمستكشفين الذين حجّوا إلى البتراء على ّمر السنين والقرون، حاول كل منهم أن يكون له السبق في شرح كيفية بناء الأنباط هذه المدينة الساحرة ونحتهم لمعالمها التي وضعتها على قائمة عجائب الدنيا.

تعد مدينة البتراء أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، وواحدة من عجائب الدنيا السبعة الجديدة، وهي مدينة ضخمة من المقابر والآثار والنصب التذكارية والهياكل الدينية التي نحتت مباشرة في الصخور، وأسست تقريبًا في عام 312 قبل الميلاد، وتحولت المدينة المزدهرة فيما بعد إلى عاصمة للمملكة النبطية، وقد تبوأت مكانةً مرموقةً لسنوات طويلة، حيث كان لموقعها على طريق الحرير، والمتوسط لحضارات بلاد ما بين النهرين وفلسطين ومصر، دورًا كبيرًا جعل من دولة الأنباط تمسك بزمام التجارة بين حضارات هذه المناطق وسكانها.

حكمت هذه الثقافة الشرق أوسطية، الأردن لوقت طويل، من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الأول الميلادي، لكن عندما تعاظم نفوذ روما، بعد الفتح الروماني وتحولت طرق التجارة، تراجعت المدينة في الأهمية حتى تم التخلي عنها.

 لم يضع الأوروبيون عيونهم على جدرانها ذات اللون الوردي منذ قرون، حتى أوائل القرن التاسع عشر عندما تسلل مسافر أوروبي إلى المدينة الغامضة مرتديًا زي البدو.

مستكشف في زي التنكر

في عام 1812 وجد الباحث السويسري يوهان لودفيغ بوركهارت نفسه يقف عند مدخل وادي نهرٍ جافٍّ، حيث قاده دليله البدوي، وأثناء سيره فوق أرضية الوادي الصخرية، لاحظ  كيف أن الجدران الكهفية ترتفع إلى درجة عالية بحيث تحجب السماء تقريبًا.

ولكن هناك مشهد غير عادي ينتظر بوركهارت -بعد دراسة لتاريخ المنطقة دامت لأكثر من أربعة أعوام في سوريا- حيث ظهر في الهواء الطلق على الجانب الآخر: مبنى رائع، منحوت من الصخور الصلبة بالإضافة إلى مجرى مائي قديم، والتي كانت تتصدر المشهد على ارتفاع ما يقرب من 150 قدما، حينها عرف بوركهارت أنه وجد مدينة مفقودة غامضة، وكان أول أوروبي دخل البتراء.

مدينة أساطير

كانت أساطير الثروات المفقودة تدور حول نفس النصب التذكاري الذي كان قد رأىه بوركهارت، وفي اللغة العربية، يعرف هذا المبنى باسم الخزنة بسبب القصص التي أخبرتها القبائل المحلية عن مخبأ الكنز المودعة هناك من قبل اللصوص منذ فترة طويلة.

يُعتبر مبنى الخزنة المنحوت في الصخر، أشهر معالم البتراء وأكثرها أهمية، حيث اختار الأنباط موقعه بعناية كأول معلم يواجه الزائر بعد دخول المدينة، وقد سُمي بهذا الاسم لاعتقاد البدو المحليين سابقًا بأن الجرة الموجودة في أعلى الواجهة تحوي كنزًا، ولكنها في الواقع ضريح ملكي.

اليوم، يعتقد المؤرخون أن هذا الضريح يعود للملك النبطي أريتا الرابع، ويوجد داخل غرفة الجنائزية، خالية من أي تفاصيل زخرفية.

ومن الممكن أن يكون بوركهارت قد سمع في سفره أيضا قبائل بدوية تحكي قصة عجائب البتراء الأخرى، وهي قصة  قصر البنت -قصر ابنة فرعون- حيث تقول الأسطورة إنه يعود إلى أميرة تعهدت بالزواج من أي رجل يستطيع أن يوجه المياه إلى قصرها،  وهو معبد نبطي من القرن الأول قبل الميلاد.
 

واحة النبطيين

من المرجح أن الوادي الضيق المعروف باسم السيق، الذي وصل إليه بوركهارت نفسه في البتراء، تم تشكيله بواسطة سيل الماء الذي فجرته عصى النبي موسى عليه السلام.

و”السيق” هو الطريق الرئيس المؤدي لمدينة البتراء، وهو عبارة عن شق صخري يتلوى بطول حوالي 1200 متر وبعرض يتراوح من 3- 12 مترًا، ويصل ارتفاعه إلى حوالي 80 مترًا، يُعتبر الجزء الأكبر منه طبيعي، بالإضافة إلى جزء آخر نحته الأنباط، وينتهي السيق في الجهة المقابلة للخزنة.

على مدى قرون، كانت القوافل التجارية المحملة بالتوابل والحرير والبخور تسير في الصحراء المتعرجة، وصولا إلى البتراء، لتشهد على عظمة هذه المدينة وتاريخها.

من المحور إلى المعزل

بنيت العديد من المعالم الأثرية في البتراء في عهد الملك أريتاس بين القرن الرابع والثامن قبل الميلاد، وعلى مدى ما يقرب من قرن من الزمان، كان مجد البتراء مشرقًا، إلى أن حوصرت من قبل إمبراطورية “روما”.

وفي عام 106، ضم الإمبراطور تراجان الأراضي النبطية، وأصبحت المنطقة تعرف بالمقاطعة الرومانية في الجزيرة العربية”بتريا”، المعروفة اليوم باسم بسرة الشام، وأصبحت عاصمة المقاطعة الرومانية الجديدة.

في وقت لاحق، بعد تفكك الإمبراطورية الرومانية، أصبحت البتراء مقاطعة ضمن الإمبراطورية البيزنطية، ولكن البتراء اختفت في القرن السابع الميلادي، إذ دمرتها سلسلة من الزلازل، وأصبحت تعرف باسم وادي موسى.

خلال الحروب الصليبية، كانت المنطقة معروفة باسم دير القديس هارون أكثر من البتراء نفسها، وكان الدير يقع على جبل يسمى “جبل هارون”، ويقال أنه مكان كان يستريح فيه شقيق النبي موسى عليه السلام “هارون”.

في القرن التاسع عشر، كان الاستعمار الأوروبي مدفوعًا بمفاهيم تجارية لاستكشاف الشرق الأوسط، وأثار احتمال العثور على أنقاض الحضارات المفقودة خيال العلماء، من بينهم يوهان لودفيغ بوركهارت.

ربما يعجبك أيضا