“التكية المصرية”.. 150 عامًا من السخاء على أرض الحجاز

هدى اسماعيل

هدى إسماعيل

لعباس مولانا الخديوي فضائل.. عليها دليل كل يوم مجدد، رأيناه قد أحيا تكية جده.. فقلنا أعباس بنى أو محمد” كانت هذه الكلمات على أبواب التكية المصرية بأرض الحجاز، كرم وسخاء اختلط برائحة المسك والعنبر، كرم دارت أحداثه في مكة والمدينة أقدس مدينتين على سطح الكرة الأرضية، “التكية المصرية” مضرب الأمثال في العطاء على مدار 150 عامًا.

يعتقد الكثير منا أن كلمة “التكية” ما هي إلا كلمة تعبر عن المال الذي يُنهب منه دون أي رقيب لمتابعته، ولكن في الحقيقة عبرت تلك الكلمة عن أهم المؤسسات الخيرية المصرية التي أنشأها ولاة مصر في السعودية منذ القرن الـ19 الميلادي والتي خصصت لمساعدة الفقراء.

التكية 

اختلفت الأقاويل حول كلمة “تكية”؛ فبعضهم يرجعها إلى الفعل العربي “اتكأ”، بمعنى استند أو اعتمد، وكأنها وضعت لمن يتكئ فلا يعمل ولا يطلب رزقًا حتى إذا حان وقت الوجبة اتجه إليها ليحصل على الطعام، ومنهم من يرى أنها تركية الأصل وهي الاتكاء والتوكؤ والاستناد إلى شيء للراحة والاسترخاء. والبعض يرى أن الكلمة أتت من تكية الفارسية، بمعنى الجِلْد، فشيوخ الزوايا الصوفية كانوا يجعلون جلد الخروف أو غيره من الحيوانات شعارًا لهم.

إطعام الحجاج

تأسست التكية المصرية مع دخول جيوش محمد علي، أراضى الحجاز في بداية عام 1811 ميلاديًا، وعلى الرغم من انتهاء حكم  مصر لشبه الجزيرة العربية عام 1840، إلا أنها استمرت بنفس عملها التي بنيت من أجله وهو إطعام ومساعدة الفقراء المسلمين المتواجدين في مكة والمدينة القادمين من جميع الدول الإسلامية وليس المصريين فقط.

بدأ إنشاء أول تكية بمدينة مكة المكرمة بأمر من محمد علي، ومن ثَمَّ ذهبت إلى المدينة المنورة على يد ابنه إبراهيم باشا بحيث تتمكن مصر من المساعدة في إطعام حجاج بيت الله من المصريين وكل الجنسيات.

 ظلت أرض الحجاز طوال القرون الماضية معتمدة على ما ترسله مصر سنويًّا من مخصصات لخدمة الحرمين الشريفين بكل الجنسيات المتوافدة عليه فيما عرف باسم “مخصصات الحرمين والصرة الشريفة”، حيث بدأ زوارها يوميًّا حوالي  أكثر من 400 فقير يومياَ ويزيد هذا العدد إلى 4000 فقير خلال شهر رمضان، فعندما يصل الحاج إلى الأراضي الحجازية يتوجه إلى التكية المصرية يأكل ويشرب وينام ويحظى بالرعاية الطبية على حساب الدولة المصرية، فلم يقتصر إطعام الفقراء في التكية على المصريين فقط، بل كانت مفتوحة أمام جميع المسلمين على اختلاف جنسياتهم، أما المصريون فقد تمتعوا دون غيرهم بميزة الإقامة والسكن داخل التكية طوال مدة أداء الشعائر المقدسة.

تصميم فريد

وبالنسبة للتكية المصرية فيبلغ طولها 89 مترًا وعرضها 50، وعلى الرغم أنها مبنية من دور واحد، إلا أنها متقنة التصميم بحيث ضمت طاحونة لطحن القمح ومطبخًا واسعًا ومخزنًا وحجرات للزوار، تضم التكية طاحونة يتناوب إدارتها أربعة بغال لطحن القمح، وفيها مطبخ واسع فيه ثمانية أماكن توضع عليها أوان ثمان من ذات الحجم الكبير، وفيها مخبز ذو بابين يُخبز به العيش ومخزن وحجرات للمستخدمين.
وفي مدة الحج يسكنها بعض عمال المحمل كالطبيب والصيدلي وكاتب القسم العسكري والسقائين، وتوضع فيها أمتعة الأمير والأمين، وفي التكية دورات مياه وصنابير ماء ومكان جميل مفروش في وسط بركة ماء صناعية، ويجلس فيه أمير الحج وأمير الصرة وكاتب حينما يصرفون المرتبات.

تكية محمد علي

لم تدخر الحكومة المصرية قديمًا وقتًا أو جهدًا في الحفاظ على نظام التكية في بلاد الحجاز، فلم يحدث أن أغلقت أبوابها إلا مرة واحدة وذلك في العهد الملكي حيث ذكر “إبراهيم باشا رفعت” المسؤول عن بعثة الحج أنه في حجة عام 1325 هجرية، وجد ناظر التكية لم يصرف للفقراء شيئًا لمدة 17 يومًا، وذهب إلى هناك في الصباح، فوجد الباب مغلقًا، فأمر الفقراء بالدخول، وبعث إلى الناظر فأوقظه من نومه وقال له: “هذه تكية محمد علي جُعلت للفقراء، فكيف توصد الأبواب من دونهم؟”، وأمره بشراء خبز من السوق وصرفه لهم، ثم سأله عن السبب في ما فعله، فأخبره أن في البلد وباءً وأنه ينتظر حتى يسافر المحمل والحجاج، فقال له: “إن ترك الصرف يزيد الوباء؛ لأن الفقراء يموتون جوعًا فتزداد الوفيات” وأمره بفتح التكية.

الملك فؤاد في التكية

للملك فؤاد حكاية عجيبة مع التكية المصرية، فقد نصحه المقربون منه بالسفر إلى الأراضي الحجازية، تكفيرًا لذنوبه، لكنه اعتذر لكثرة مشاغله ومسؤولياته، فاقترحوا عليه أن يعين أحد الأفراد في التكية يقوم بأداء الصلوات الخمس، ويقوم بإطعامه مقابل أن يقوم بالدعاء له، ويتقاضى نظير ذلك راتبًا شهريًّا يقدر بـ25 جنيهًا، فكان الرجل المنوط به القيام بذلك يدعى الشيخ “علي الغزالي”، يجلس على أريكته في التكية في مكة، بينما يجلس “فؤاد” على عرش مصر، وهو مطمئن البال أنه يؤدي فرائضه على الوجه الأكمل”.

آخر صور الفقر

في عام 1983 تم هدم التكية المصرية من أجل توسيع الحرم المكي لتكتب الصحف السعودية في هذا اليوم تقول: “اليوم نسقط آخر صورة من صور الفقر في المملكة”، وعلى الرغم أن الأمر له دلالة دينية ومكانة خاصة، إلا أنه تم هدم التكية المملوكة لوزارة الأوقاف المصرية أمام أعين الجميع، وكأنها وصمة عار تمحى من التاريخ.

“التكية المصرية من الآثار الجليلة ذات الخيرات العميمة، وأنها نعمت صدقة جارية لمسديها ثواب جزيل وأجر عظيم، وقد أنشأها ساكن الجنان محمد علي باشا رأس الأسرة الخديوية في سنة 1238 هجرية… يرد إليها من الفقراء في الصباح والمساء، فيتناول الفقير في كل مرة رغيفين وشيئا من “الشُربة” والأرز واللحوم والسمن، وربما أعُطي أكثر من ذلك إن كان فقره مدقعًا، وكثير من نساء مكة الفقراء يتعيشن بما يأخذن ويكتفين بذلك عن مسألة الناس… ولو سمعت الأدعية المتصاعدة من قلوب الفقراء لرب هذه النعمة لأكبرت هذا العمل، وانساقت نفسك إلى أمثاله إن كان لديك سعة في المال وبسطة، أما التكايا الأخرى فلم أزرها، لأنه لا يأوى إليها فقير”. من كتاب “مرآة الحرمين” لإبراهيم باشا رفعت كومندان بعثة الحج المصرية.

ربما يعجبك أيضا