“الخيامية”.. طائر الغورية المُلون يغرد إبداعا

أماني ربيع

أماني ربيع

“إبرة فضية سميكة تقبض عليها بخفة أصابع رشيقة لشيخ ستيني تشع عيناه بوهج لا ينطفئ، وتومض ملامحه فخراً بمهنة توارثها عن أجداده.

تلف الإبرة وتدور بمهارة فيما ينسج ويثبّت بخيوط الزمن الملونة وحدات هندسية زاهية منتظمة ذات طابع إسلامي تطغى عليه الأشكال الهندسية كالمثلث والمسدس والنجمة المثمنة، تتخللها آيات قرآنية أو حكم شعبية ووحدات أخرى عضوية منحنية تغوص في الواقع الشعبي، وتشترك فيها عناصرالطبيعة وشخصيات من الموروث الثقافي العربي.”

بالقرب من باب زويلة في القاهرة الفاطمية العريقة، وسط صخب شوارع الغورية خرج فن الخيامية, ذلك الفن المصري المتفرد الأصيل, خرج ليطير في كل الدنيا، يغازل بألوانه المتداخلة عيون متذوقي الجمال.

شارع هو الأكبر تاريخا بين شوارع تلك المنطقة القديمة، تجمع به قدامى الصناع والتجار، حول حرفة أفنى الكثير منهم حياته في رحابها، وتوارثها معظمهم عن آبائهم وأجدادهم، فكانوا بمثابة حراس لها من الزمن حتى لاتندثر كغيرها، في تلك المنطقة يقع أشهر الأسواق لصناعة وتجارة الخيامية بمصر.

و”الخيامية”، هي فن مصري قديم تفردت به مصر وتعني صناعة الأقمشة الملونة التي تستخدم في عمل السرادقات، وتضرب في عمق التاريخ لدى القدماء المصريين الذين كانوا يستخدمون ألوان الفواكه الطبيعية كالرمان والمانجو والتوت والبصل والبنجر، في صباغة أقمشة الخيامية التي شهد النهر الخالد باكورة صناعتها على ضفافه الشاهدة على التاريخ.

ازدهرت في العصر الإسلامي، وشهد العصران المملوكي والفاطمي قمة ازدهارها، وترتبط الخيامية قديماً بكسوة الكعبة المشرفة، وكانت أقمشة الخيامية الملونة مطعمة بخيوط الذهب والفضة لتزدان بها الكعبة، وظلت مصر ترسلها للحجاز في موكب متفرد مهيب يعرف باسم “المحمل”، وذلك حتى أواخر حقبة الستينيات من القرن الماضي.

وتتطلب هذه المهنة الدقيقة التي تبرز مهارة وموهبة صناعها، توافر الصبر والتدقيق والحرفية العالية حتى يخرج العمل الفني هذا رائعا خاليا من أي أخطاء.

وقديماً كانت هناك طقوس خاصة لاعتماد أى حرفى خيامى جديد ينضم لتلك الطائفة حيث كان يتم اجتماع الخيامية وشيخهم لرؤية وفحص أعمال الخيامى الجديد، فإذا كانت على المستوى المطلوب يقيم الحرفى مأدبة اعتماد لجميع الخيامية للاحتفال بانضمامه للمهنة، أما حالياً فدخول المهنة يتم بشكل تلقائى بعد تعلمها.

يبدأ العمل برسم التصميم الذي يتم بموجبه تنفيذه على القماش المعروف بقماش “التيل” الذي يتميز بأنه قماش طبيعي سميك لونه الطبيعي عاجي، يقوم الحرفي بتخريم الرسم وتنثر بودرة مخصصة لطبع الرسم على القماش حتى يقوم الفنان بعملية التطريز، حيث تقص وحدات القماش وحياكتها مع بعضها البعض وغالبا ما تكون التصميمات عاكسة للأشكال الفرعونية والإسلامية المتمثلة في الخط العربي الذي يعكس آيات قرآنية كريمة، وحديثا أشكالاً هندسية أو زهوراً أو مناظر طبيعية لافتة.

وتعتبر الخيامية من المظاهر الرمضانية الحميمة في مصر، ترحب فوانيس رمضان العملاقة بالزوار والسياح في أجواء يفوح منها زمن محفوظ وملامح من شارع بين القصرين، وفي خلفية الخيم هذه تطل بشموخ مآذن مساجد مصر الفاطمية بكل جماليات وتفرد معمارها.

لكن يؤكد صناع “الخيامية”، أن تلك الأقمشة الرمضانية ليست “خيامية بالمعنى الحرفي”، بل هي مجرد أقمشة عادية مطبوعة عليها رسومات الخيامية وليست مغزولة باليد، يحضرونها لكثرة الطلب عليها في رمضان، ولكونهم مضطرين فالمهنة تصارع من أجل البقاء، وبعد أن كانت كلها أعمال يدوية دخلت الآن فيها الطباعة والماكينات، ما أفقدها جزءا أصيلا من هويتها، كما ضرب صناعها في مقتل.

ورغم ذلك، تطايرت شهرة “الخيامية” من مصر إلى العالم، فهي سفيرة الفنون المصرية القديمة، تقام لها المعارض في كل مكان.

وعندما زارت “مارجريت تاتشر” رئيسة الوزارء البريطانية مصر في القرن الماضي طلبت أن تزور منطقة “الخيامية” وعندما سئلت لماذا هذه المنطقة بالذات؟، أجابت: لديكم عمال مهرة وصناعة خطيرة لو كانت لدينا فى بريطانيا كنا كسبنا منها الملايين.

ربما يعجبك أيضا