الدينكا.. رحلة سلام وحرب في دروب السودان

أسماء حمدي

كتبت – أسماء حمدي

إذا لمحت أناسا طوال القامة، شديدي السُمرة أكثر من باقي القبائل الأفريقية، ثم رأيتهم يتنقلون بخفة بين المستنقعات، وتعرفت إليهم وهم يرتحلون بأبقارهم في فصل الخريف، موسم الأمطار على امتداد الأراضي الغنية بالسافانا وعلى جوانب نهر النيل وروافده حتى يستقروا في مراحاتهم ومراعيهم فهذا يعني أنك تعرفت على قبيلة الدينكا.

ترجع أصول قبيلة الدينكا إلى الشعوب النيلية التي جاءت من سفوح الهضبة الإثيوبية منذ زمن بعيد واستقرت في جنوب السودان، وتتحدث باللغات النيلية، ويمثلون غالبية السكان في سبع ولايات هي جونقلي وأعالي النيل والوحدة وراب والبحيرات وشمال بحر الغزال وغرب بحر الغزال، أما تواجدهم في الولايات الثلاث المتبقية فيعود إلى هجراتهم أثناء الحرب الأهلية ولا يمثلون سوى نسبة ضئيلة من تعداد تلك الولايات الثلاث.

يتكون جنوب السودان من عشر ولايات يسكنها عدد كبير من القبائل، الكثير منها لها تواجد في دول أفريقية أخرى عدا قبائل الدينكا التي لا تتواجد إلا في السودان، والتي تشكل في مجموعها ما يقارب نصف سكان الجنوب.

وخلال موسم الجفاف في جنوب السودان بين ديسمبر ومايو، ينتقل أفراد قبيلة الدينكا من المرتفعات إلى الأراضي المنخفضة القريبة من نهر النيل، حيث أقاموا معسكرات واسعة للأبقار، مما يضمن أن حيواناتهم قريبة من أراضي الرعي، أما في موسم الأمطار يتم نقلها إلى مناطق مرتفعة لتجنب الفيضانات.

معتقدات دينية

ينعكس نمط معيشة الدينكا على معتقداتهم وممارساتهم الدينية، ويؤمنون بإله واحد يدعى (نيال) أو (نياليك) يعتقدون بان روحه تتقمص الأفراد ليتحدث من خلالهم.

دخلت الغالبية العظمى من قبائل الدينكا في المسيحية الكاثوليكية منذ انتشار الحملات التبشيرية في الجنوب السوداني إبان القرن التاسع عشر، إلى أن ذلك لم يمنعهم من التمسك بالكثير من عاداتهم الأفريقية الموروثة عن أجدادهم، مثل الإكثار من عدد الزوجات، أو اللجوء إلى ساحر القبيلة وكاهنها لممارسة الطقوس التي تتعارض مع المسيحية.

حروب أهلية

أدى الاختلاف في معتقدات ونمط معيشة الدينكا إلى أزمة مع نظام الحكم الإسلامي في الخرطوم، تحت قيادة الراحل الدكتور جون قرنق دي مابيور “دينكاوي” في 1983 م، حمل الجيش الشعبي لتحرير السودان السلاح في مواجهة الحكومة، ونشبت حرب أهلية استمرت 21 عاما، قتلت فيها القوات الحكومية آلاف من الدينكا وغيرهم من قبائل الجنوب، كما أن الدينكا اشتبكو في حرب جانبية ضد قبيلة النوير الجنوبية.

في 15 نوفمبر 1991 وقعت مذبحة بور في الجنوب السوداني، بعد إعلان الانقلاب في 28 أغسطس 1991 ضد زعيم جيش التحرير جون قرنق، من قبل النائب الحالي لحكومة جنوب السودان الدكتور رياك مشار، وقتلت قوات مشار حوالي 500 من المدنيين في مدينة بور، وأصيب ما يقرب من 500 آخرين خلال شهرين من اندلاع القتال، وحلت المجاعة بعد أن نهبت وحرقت قوات مشار العديد من القرى، وأغارت على قطعان الماشية،  ولقي 25.000 نسمة مصرعم نتيجة تلك المجاعة، وفق تقارير لمنظمة العفو الدولية.

ووصف رياك الحادث بأنه “دعاية” و”أسطورة” رغم وجود أدلة مروعة على عمليات القتل الجماعي عند اكتشاف العظام والجثث في أعقاب المجزرة.

الأبقار لدى الدينكا

كتبوا عنها قصائد وأشعار ومن أجل راحتها يسهر الكبير والصغير في قبيلة الدينكا، للأبقار هنا مكانة عالية ومعاملة خاصة، فثمت عادات وتقاليد تمنحها أدوارا في المجتمعات الأفريقية عامة، عنها يرددون الأغاني التي تتغزل بصفاتها، ويتكفل الأطفال بمهام تنظيف الحيوانات والأماكن التي توجد بها.

وتحتل الأبقار مكانة خاصة فهي أكثر من مصدر للحوم والألبان، إذ يمكن إعلان هدنة بين قبيلتين بعدد من الأبقار، ولا تتمّ مراسم الزواج إلا بعد تحديد مهر العروس من الأبقار.

في مجتمعات الدينكا والنوير والشيلوك ومعظم قبائل جنوب السودان، “البقرة” تضحك أحيانا وتبكي أحيانا أخرى، فبسببها تندلع اشتباكات مسلحة بين قبيلتين، وبها تعلن المصالحة بين خصمين، وإلى يومنا هذا يحدد مهر الفتاة بعدد الأبقار وكل ما كانت طويلة كل ما ارتفع العدد.

فلا يتخيل فرد من قبيلة الدينكا حياته دون بقرة أو ثور، وتقلص الماشية بسبب الأمراض يهدد تقاليدهم، تقاليد يخشون من زوالها وهي التي على أساسها، تدلل الأبقار أكثر من البشر أحيانا.

 

ربما يعجبك أيضا