تولستوي.. أن تعيش بشرف وتتمزق بقوة!

شيرين صبحي

رؤية

اقترب تولستوي من غرفة ابنته التي أعدت كل شيء فبادرته بقولها: – أبتي.. ألا زلت مصراً على ضرورة ما أنت مقدمٌ عليه؟!.
– ساشا، لن نناقش هذا من جديد، يجب أن نسرع قبل أن تشعر أمك بما يحدث، تعالي ساعديني في حزم الأمتعة.

هذا الموقف ليس مشهدا من مسرحية عبثية ولا دراما روائية.. ولكنها اللحظات الأخيرة للكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي في بيته حيث قرر الرحيل بلا عودة هائما على وجهه لا يعرف إلى أين سيذهب ولا كيف سينتهي به المقام.

وكتب تولستوي لزوجته صوفيا رسالة يخبرها فيها عن قراره بالرحيل قال فيها: “أرجوك يا صوفيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى إيزيانا/ بوليانا، فإن هذا لن يفيد أحداً شيئاً، بل سيزيد تعاستنا جميعاً، كما أنه لن يغيّر من عزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر على الثمانية والأربعين عاماً من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعدِتني بها! وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقك! مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلّقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين”.

في عام 1862، تزوج تولستوي من صوفيا أندريفينا وعاشا حياة سعيدة حيث تزوجا بعد قصة حب وكانت سونيا في السابعة عشرة من عمرها، وتولستوي في الرابعة والثلاثين، وقد أنجبا ثلاثة عشر طفلاً، مات منهم ثلاثة.

كانت صوفيا متعلمة ومثقفة، إذ تخرجت في جامعة مرموقة، إضافة إلى إجادتها عدة لغات غير الروسية، شأنها في ذلك شأن بنات الطبقات الأرستقراطية، فقد كانت تجيد الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية.

وقبل زواجها نشرت بعض الكتب الأدبية من تأليفها، وبعد زواجها استخدمت إمكاناتها الثقافية في مساعدة زوجها، الذي قال عنها إنها “الزوجة المناسبة تماماً للكاتب”. فقد كان يملي عليها مؤلفاته، وكانت تبذل الكثير من الجهد لنسخ مسوداته وإعدادها للنشر، وكان تولستوي يستشيرها في تصويره لبعض شخصياته النسائية، فكانت تقدم له ملاحظاتها الدقيقة التي استفاد منها في رواياته المختلفة.

وعندما بلغ تولستوي السبعين من عمره بدأ يسأم من حياته، فتنازل عن ضيعته لأقاربه، وعن أرباح كتبه لزوجته، وارتدى ثياب الفقراء وعاش في الحقول المحيطة ببلدته يكسب مما تعمل يداه.

وذاع صيت تولستوى باعتباره فيلسوفاً ذا مبادئ جديدة، وبدأ الناس يبحثون عنه لمعرفة مزيد عن رؤيته في الحياة مع الفلاحين والأحياء. ولم تقبل الكنيسة آراءه، فكفرته وأبعدته عنها.

وبدأت صوفيا تكتب مذكراتها الخاصة، تشكو فيها من هذا الزوج المجنون، وأخذت الزوجة تقاتل بكل قوتها لحماية ممتلكات الأسرة، وانتزاع زوجها مما أصبح عليه ومن إصراره على العمل بيديه ولبس الملابس الخشنة، والنوم في أكواخ الفلاحين، ومحاولاته إعطاء كل ما يملكه للآخرين.

واشتدت الخلافات بين تولستوي وزوجته فكتب لها ذات يوم قائلا: “الحق أني بت أبحث عن نفسي فلا أجدها, وأفتقد عقلي فيفر مني, وأهيب بإرادتي فلا أقع إلا على أعصابي الخائرة, وقواي المحطمة, وعزمي المسلوب!.‏

نعم.. إن عدواك سرت إلي.. فأنا اليوم خائف منك وخائف من نفسي.. خائف منك على شخصيتي وعبقريتي وعملي, وخائف من نفسي أن أطاوعك فأجهز بيدي على أحلامي ومستقبلي!.. وهذا الخوف المزدوج هو الذي دفعني إلى الرحيل.. إذ كيف يمكن أن أعيش مع زوجة تأبى إلا أن تمثل طوال حياتها دور العاشقة المفتونة الغيور?..‏ إن الحب يا عزيزتي جميل, ولكنه ليس كل شيء في الحياة.. وأروع ما في الحب هو التضحية!.. فإذا لم تضحي ببعض حبك من أجل أسرتك وأولادك وزوجك, فأية قيمة لهذا الحب وأي نفع منه?.. إنه ليتحول إذن إلى أنانية جنائية لابد أن تقتل الأسرة, وتقضي على الحب نفسه شر قضاء!‏

وخلال المعركة الطاحنة التي دارت بين صوفيا وتلاميذه قرر تولستوي الرحيل وقد تجاوز الثمانين من عمره فاستقل قطارا يركب في عربة الدرجة الثالثة المزدحمة.

ولكن سرعان ما عرفت صوفيا مكانه وأرسلت له تقول: “عد إليّ إذا لم يكن ذلك إلا لتسمعني كلمة وداع قبل افتراقنا الذي لا محيص عنه”.

ورد عليها “لا تظني أني فررت لأني لا أحبك.. إني أحبك وأرثي لك من أعماق قلبي ، ولكني لا أملك غير ما فعلت ، و لقد كتبت كتابك مخلصة كما أحس ولكنك غير خليقة بأن تفعلي ما تقولين.. وداعا يا صوفيا ، يا عزيزتي كان الله لك… ليست الحياة مزحة ، وليس لنا من حق أن نلقي بها حسب أهوائنا … ومن الخطأ أن نقيسها بعدد الأيام، وربما كان ما بقي لنا من أشهر أعظم أهمية من جميع ما عشنا من سنين، ويجب أن نحيا كما ينبغي”.

وحضرت صوفيا إلى المحطة التي اكتظت بعدد كبير من رجال الصحافة والمصورين ورجال السينما، وظلت بالقطار تبكي وتحاول أن تقترب من نافذة الحجرة تارة وتدعو المصورين ليصوروها كما لو كانت خارجة من الحجرة تارة أخرى كي لا يعلم الناس أنها لم تدخل على زوجها الذي لم يعلم بمجيئها حيث منعها الجميع بما فيهم ابنتها من رؤيته.

وأصيب تولستوي بالتهاب رئوي حاد ونقله تلميذه الذي كان يرافقه، وطبيبه الذي أصر على البقاء معه، إلى مكان متواضع في إحدى محطات السكك الحديدية.

وفي مكان متواضع بمحطة قطار “آستابوفو” رحل تولستوي في العشرين من نوفمبر عام 1910م متأثراً بالالتهاب الرئوي الذي أصابه وهو في طريقه إلى بلغاريا.

وقد عاشت زوجته بعده لسنوات طوال، تدافع عن نفسها ضد اتهامات الناس لها، بأنها كانت مصدراً لعذاب تولستوي الكبير الذي تعرض له في آخر حياته.

“كن طيباً، واحرص على أن لا يعرف أحد أنك طيب لئلا يعتريك العجب، وابحث عن الجانب الطيب في كل من تعامل من الناس، وإياك أن تفتش عن الجانب السيئ فيهم، وقل الحق دائماً ولا سيما على نفسك!”.

أخذ تولستوي ينشر مقالاته الداعية للمساواة بين الناس وبلغ عدد ما كتب عشرة آلاف رسالة، حتى لقب ب “محامي مائة مليون من الفلاحين الروس” . وخشيت زوجته أن يوزع ممتلكاته على العاملين بها كما يدعو في مقالاته، فقالت له مهددة : “يبدو أن حياتنا تسير إلى قطيعة مؤكدة. ليكن.. فأنا وأنت على تنافر دائم منذ التقينا.. أتريد أن تقتلني وتقتل أولادك بمقالاتك هذه؟ لن أسمح لك بذلك!”.

ولكن تولستوي مضى فيما يفعل ووضع أفكاره موضع التطبيق ووزَّع جزءًا كبيرًا من أرضه على المزارعين الذين يعملون لديه، وافتتح لأبنائهم مدارس كان يدرس لهم فيها بنفسه، وأنفق معظم ثروته على الفقراء .

وتعمق تولستوي كثيرا في القراءات الدينية، وقاوم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا، ودعا للسلام وعدم الاستغلال، وعارض القوة والعنف في شتى صورهما. ولم تقبل الكنيسة آراء تولستوي فكفرته وأبعدته عنها.

وفي السنوات الأخيرة عاش في الحقول مرتديا الملابس الخشنة يكسب مما يعمل بيديه.

في يناير 1869 كتب بمذكراته: “شيئان هما إكسير حياتي! حبي التعبير عن أفكاري بالكتابة الروائية، وحبي زوجتي الحبيبة صوفيا أندريفنا! ماذا يريد المرء من حياته أكثر من ذلك؟! لقد سعدت بحبي لصوفيا! وسعدت بأبنائي، وسعدت بهذه المزرعة الكبيرة، والشهرة، والثراء، والصحة، والسلامة البدنية والعقلية، ولكنني أحس بأن حياتي قد توقّفت فجأة!

لم تعد لدي رغبة في شيء. والحقيقة أن الرجل العاقل، يجب ألا يرغب في شيء!

إن الحياة نفسها وهم! وقد بلغت الحافة التي لا أجد بعدها إلا الموت! أجل. هذا صحيح. الحياة وهمٌ كبير! وهأنذا المحسود على الثراء، وعلى السعادة والشهرة. وعلى حبي لزوجتي! بتُّ أشعر بأنه لم يعد من حقي أن أعيش أكثر مما عشت!”

وقد رفض تولستوي قبول جائزة نوبل الأدبية مرتين لأنه كان يرى أن النقد الأدبي المجامل، مثله مثل الجوائز والمكافآت الكبيرة، تؤدي إلى فساد الخلق الفني والأدبي للمبدع وابتذاله.

ويقول أحد النقاد عن دور تولستوي في أحداث روسيا ذاك العصر “لو اعتبرنا البلاشفة بداية لانتحار أوروبا، سيكون تولستوي شروع هذا الانتحار، وسيكون لينين نهاية الانتحار”.

ولكن كيف كانت بداياته؟

“على المرء إذا أراد أن يعيش بشرف وكرامة أن يتمزق بقوة، وأن يصارع كل المثبطات، فإذا أخطأ بدأ من جديد، وكلما خسر عاود الكفاح من جديد، موقناً أن الإخلاد إلى الراحة إنما هو دناءة روحية وسقوط!”

في أسرة روسية من كبار النبلاء الإقطاعيين ذات ثراء هائل، ولد أديب روسيا الأول ليو تولستوي في مثل هذا اليوم 9 سبتمبر عام 1828، رحلت والدته وهو لا يزال في الثانية من عمره ، ثم تبعها والده الذي كان مدمناً للكحول، بعد عدة أعوام فتكفل به أقاربه.

وفي السادسة عشرة من عمره التحق بجامعة “كازان” لكنه ضاق بمناهجها الدراسية فقرر أن يكمل دراسته في بيته، معتمداً على نفسه، وخلال سنوات قليلة أتقن عدة لغات، واستوعب العلوم الطبيعية والاجتماعية والرياضيات والموسيقى والفن التشكيلي والطب والزراعة.

نشأ في بيئة مسيحية متدينة وعندما بلغ سن 18 عاما بدأ يشعر بأن إشارات الصليب والصلوات التي يؤديها ليس لها أي مدلول عنده وأنه غير قادر على الاستمرار فيما أطلق عليه “الكذب” فتوقف عن أدائها.

وكان يقول “كان داخلي شعور ما بأني أؤمن بشيء ما، أؤمن بإله أو بمعنى آخر لا أنكر وجوده، ولكن أي إله؟ لم أكن أدرك على وجه التحديد. أذكر أيضا أني لم أكن أنكر تعاليم المسيح؟ لكن ماذا كانت تعني لي هذه التعاليم وقتها؟ لا أستطيع أن أعرف تماما‏”.‏.

تعرف من صغره على الأدب العربي، حيث كان يجلس مع أطفال العائلة على فراش جدتهم يستمعون إلى ما يقصه الفلاح العجوز الأعمى ستيبان من قصص ألف ليلة وليلة. وقد انطبعت هذه الحكايات في ذهنه ولازمه الإعجاب بها.

بدأ حياته الأدبية بثلاثة كتب متتابعات: (الطفولة) ثم (الصبا) ثم (الشباب).. واتبع قواعد صارمة لإصلاح عيوبه أولاً، ثم لإصلاح الآخرين .

وكان دائما يفكر عن الهدف من حياة الإنسان وفي رسالة لأحد أصدقائه قال “على المرء إذا أراد أن يعيش بشرف وكرامة أن يتمزق بقوة، وأن يصارع كل المثبطات، فإذا أخطأ بدأ من جديد، وكلما خسر عاود الكفاح من جديد، موقناً أن الخلود إلى الراحة إنما هو دناءة روحية وسقوط!”. وكان يبكت نفسه بشدة إذا أحس منها تهاوناً أو تراجعاً.. فكتب بمذكراته وهو لا يزال في العشرين من عمره: “لم أفعل شيئاً. كم يعذبني ويرعبني إدراكي لكسلي! إن الحياة، مع الندم، محض عذاب! سأقتل نفسي إذا مرت علي ثلاثة أيام أخرى دون أن أقوم بفعل شيء ينفع الناس!”.

انتقلت إليه ملكية أراض شاسعة وفيرة الإنتاج، وتزوج من “صوفيا” الفتاة الأرستقراطية المرفهة، وعاشا معا لمدة تقارب أربعين عاماً.

ربما يعجبك أيضا