سيوة.. أرض البراءة والوحي

أماني ربيع

أماني ربيع

“الصحراء، جنة الأنبياء والشعراء، إليها يفر من ترك وراءه الدنيا، لكي يجد نفسه، وفيها تورق النفس الذابلة، وتزهر الروح.”

–  “واحة الغروب”، بهاء طاهر

عندما تخطو على أرضها لأول مرة، تشعر وكأنك على موعد مع ماكوندو قرية ماركيز الشهيرة في «مائة عام من العزلة»، واحة هادئة يعانقها النخيل في صمت، بينما تحوطها التلال الذهبية في جلال.

بعد رحلة متعبة من القاهرة وصولا إلى سيوة ستشعر بالفرق بين المدينتين بأنفك وجسمك قبل عينيك، فكل ما كان متوترا ومشدودا هناك ينحني في الواحة ويتراخى.

«بنتا» أو «شالي» التي أصبحت بمرور الزمن «سيوة»، تقابلك صحراؤها الممتدة في تراخ مع أول الصباح، تفتح ذراعيها لك لترتاح من سفر طال تهدهدك وتمسح على رأسك من مائها الموصوف شفاء لتلتقط أنفاسك وتكتشف أسرارها على مهل.

يلفح وجهك، نسيم دافئ برائحة العشب ورمل الصحراء، مدينة واضحة ليس بها شوارع خلفية، يفشي الضواء أسرارها، عيناك تضيعان في ارتفاع السماء والفضاء المتسع، سماء لا يشوبها ضباب أو ريح، تكاد تحسبها حديقة زرقاء، فتهفو يديك لقطف سحابها الأبيض كنتف القطن.

مدينة الوحي التي نصبت الإسكندر ابنا للإله دينها التسامح، أو ليست حجارة معبد آمون هي التي بنت الجامع الكبير هناك ومدرسة أيضا تحمل اسم إله الشمس والنور، لا تندهش لذلك فهي مدينة الله رب كل الناس.

مصرية خالصة اسمها بنكهة الفراعنة القدماء «سيخت آم» الذي صار سيوة ويعني أرض النخيل فهي هبة النخيل والتمر.

لا تزال تلك الواحة بكرا لم تفلح أبدا قوافل الزائرين في استلاب عذريتها، خاصة مع المجتمع السيوي المحافظ بطبعه فيفصل تمامًا بين النساء والرجال, وهو ما ستكتشفه عند تجوالك في شوارعها الهادئة الخالية من النساء والفتيات إلا فيما ندر.

البنت الزينة

“بنت بلادي زينة/ محلاها تلبس حرير/ شبه الغزلان والحنة في إيديها..”

 أغنية بدوية تتغنى بجمال البنت السيوية، والنساء في سيوة كائن خفي يختبئ خلف الأبواب والشبابيك تماما كما كانت نساء الشرق يقبعن خلف المشربية في أحياء القاهرة قديما.

أمام الأماكن الأثرية يتناثرن في أرديتهن السوداء يبعن مشغولات يدوية من صنع أيديهن للسواح، لا تسمع لهم صوتا يكتفين بالإشارات الخجول، والهمس الخافت.

 “حنة يا أبلة”

يأتيني النداء على استحياء من إحدى الفتيات، أجلس إليها لترسم بأناملها الماهرة يديّ بالحناء، فأثرثر معها عن أحوال البنات في الواحة.
نعرف من فاطمة (18 سنة) متزوجة ولديها طفل، أن الفتيات هناك يتعلمن حتى الصف الثالث الإعدادي ثم يتركن الدراسة من أجل الزواج، وكل الفتيات بعد ترك المدرسة يرتدين الملابس السوداء وتختبئ وجوههن خلف نقاب.

لكني قابلت زينب، وزينب فتاة سيوية في الصف الثاني الإعدادي سافرة الوجه لأنها لم تبلغ بعد سن الزواج لكنها ترفض إرتداء النقاب حتى في المستقبل وتحلم بارتياد الجامعة وبأن تصبح طبيبة لتوليد نساء الواحة، زينب فتاة سمراء قوية تتكلم عن حلمها بجرأة غريبة على فتيات الواحة المسالمات المستسلمات.

على عسكها كانت أسماء الخجولة التي تركت المدرسة بعد الإعدادية كالعادة، لكنها تحفظ القرآن كاملا، أسماء لا ترى أن المراة السيوية محرومة من شيء وتقول إن المرأة في المجتمع السيوي مكرمة كأنها أميرة، أما عن أحلامها تقول أسماء:” أحب الرسم جدا لكني أعلم أن موهبتي لن تتجاوز المساحة البيضاء في كراستي وأحيانا ما أخرج موهبتي في الرسم علىا لسجاد أو صنع المشغولات اليدوية التقليدية في سيوة”.

تستطيع أن تميز المراة المتزوجة عن الفتاة العذراء بـ «الطرفوطة» وهو عبارة عن رداء أسود يرتدى فوقه رداء أخر باللون السماوي أشبه بـ «الملحفة» أو «الإسدال»، يغطيها بالكامل فلا يستطيع أحد التعرف على ملامحها.

أما رجال سيوة فحرفتهم الزراعة، والواحة مشهورة بالبلح والزيتون خبر فلاحوها أسرار النخيل فأمطرهم بلحا أشكالا وألوانا غزوا به أسواق العالم.

وعلى طريقة زوربا اليوناني، يقابلوك بوجوههم السمراء المبتسمة دوما، رائقي البال، خطواتهم كسولة وحركاتهم هادئة، يمتازون بكرم الأخلاق والانغلاق رغم الترحيب والجدعنة، ويخدموك بعينيهم « لله في لله» أنت لست غريبا هناك، انت صاحب مكان خدمتك واجب ولو “”معكش، خليها علينا”.

وعلى «المكروسة» وسيلة الانتقال الأساسية هناك – عبارة عن جحش صغير يجر عربة بعجلتين أشبه بالكارو عندنا- قابلنا «سيد السيوي» شاب من الواحة أسمر ذهبي العينين جدع كعادة اهل الواحة الطيبين الذي أخذنا في جولة بالبلد ليلا أنهيناها على قهوة بلدي تبعد عشرات الكيلو مترات عن مكان الفندق يحكي لنا سيد عن يومه الذي يبدأ بفلاحة مزرعة لأحد رجال الأعمال منذ السابعة صباحا وحتى العصر وحتى عودته إلى المنزل حيث يعمل أحيانا بالسمسرة وبيع الأراضي وكيف يساعد في بناء البيوت بالحجر الأبيض، سيد الشاب رقيق الحال نقلنا وأعادنا إلى الفندق مجانا، وحاسب على المشاريب بابتسامة قائلا:«عيب أنتم ضيوفي».

وعلى سطح «المكروسة» اكتشفنا جمال الواحة ليلا، النجوم تبدو كقطع من الألماس ترتمي على سطح من المخمل الأسود، لوحة ربانية بديعة تحملك على الهتاف :«سبحان الله»، أصوات كائنات ليلية ضفادع وصرصور الحقل، ربما كلب هنا أو هناك، وفي الواحة تختفي أصوات الآلة لا شئ يعلو على صوت الطبيعة التي تنصت لها بقلبك وتقول: الله.

ومع كل هذا الجمال، يصدمك تهميش الواحة كوجة سياحية، فهي ليست على لا ئحة كثيرين من المصريين كوجهة مقترجة للسفر مثل شرم الشيخ والأقصر وأسوان وغيرها رغم البعد التاريخي لها إلا أن النسيان طواها لفترة لا بأس بها حتى أنها سقطت تحت هجمات البدو وسيطرت عليها ليبيا، لكنها تعود مجددا إلى التراب المصري إثر بعثة للجيش المصري أرسلها الوالي محمد علي باشا عام 1820 لتحريرها وإعادتها لمصر.

ظلت الواحة في عزلة دوما بعيدة عن أعين المسئولين وعن أعين السواح، حتى افتتح أول طريق أسفلت بينها وبين مرسى مطروح قضى على عزلة الواحة عن مصر.

تدهشك سيوة بتنوعها فهي رغم صغر المساحة إلا أنها تضم وجهات سياحية مختلفة تاريخية، وعلاجية وحتى سياحة السافاري، والسياحة الترفيهية.

وإذا كنت هناك فحتما ستمر على عين كليوبترا الشهيرة، التي سبحت فيها الملكة الفاتنة عند عبورها أرض الواحة، تاريخ كليوبترا جعل العين مزارا أساسيا لكل من يصل الواحة، تخلع ملابسك وتخلع معها أوجاعك لتسترخي في مياه دافئة تعانق جسدك من ينابيع مياه طبيعية، تحميك عين جوبا كما كان يطلق عليها قديما نسبة للإله جوبتر.

الشمس تتحكم في حركي حمامك ألمائي فإذا اشتدت تجدها باردة منعشة، وإذا غابت تغوص في الدفئ، وبعيدا عن الاستجمام، تعد هذه العين، المصدر الرئيسي للمياه لأكثر من 840 كيلو مربع من الحدائق والبساتين في الواحة.

وبخلاف عين كليوبترا، تتمتع سيوة بوفرة من عيون المياه الطبيعية الساخنة المشهورة بعلاج الروماتيزم والروماتويد وآلام المفاصل، بالإضافة إلى الدفن في الرمال الساخنة لعلاج الرطوبة في منطقة جبل الدكرور.

حضن الموت

وبعد حمام منعش في العين، يمم وجهك شطر هضبة أجورمي حيث معبد الوحي الذي بني عام 662 قبل الميلاد في عهد الملك أمازيز أحد ملوك الأسرة 26 ليكون مركزا لعبادة الإله آمون.

ما ستجده عندما تصل هو بقايا المعبد الذي يسمى أحيانا بمعبد أمون أو التنبؤات، حيث يثال أن عرافا يونانيا شهير عاش فيه لفترة، وهو العراف الذي ذكر في رحلة الإسكندر الأكبر الشهيرة إلى الواحة عند قدومه إلى مصر عام 331 قبل الميلاد، توجه الإسكندر إلى عراف المعبد لينال البركة، ويزعم أن القائد المقدوني سأل العراف:هل سأحكم العالم؟، فرد الكاهن”نعم، لكن ليس طويلا”.

بإمكانك الصعود إلى قدس الأقداس المخصص للكاهن الأكبر، لوهلة ستتخيل أنك تقتنفي آثار أقدام الإسكندر، الذي خرج من المعبد ابنا للإله آمون وفرعونا على مصر، بعد أن قال إنه تلقى الوحي.

 وعلى جبل الموتى، تصعد فوق رفات الراحلين لسابقين، في تلك الجبانة الآثرية التي تم اكتشافها بالصدفة عام 1944، عندما احتمى أهالي سيوة بالجبل خلال غارات الحرب العالمية الثانية، ليكتشفون مقابر الراحلين التي نحتت في الحجر الجيري على شكل خلية نحل في صفوف منتظمة متتالية، يرجع تاريخها إلى الأسرة 26.

أما أن كنت من هواة المغامرة فبإمكانك التمتع بالطبيعة الصحراوية مع رحلات السافاري وزيارة بحر الرمال الأعظم بسيارات الجيب، هناك تحوطك الصحراء الشاسعة في مهابة، رمال بيضاء ناعمة باردة رغم الشمس الحارقة.

 نغزو البحر الرملي بعربات الجيب في رحلات سفاري تسير كسرب أسود طويل يتمايل في حركات بهلوانية تتلاعب بالرمال وبأجساد الراكبين.
وفي نهاية الرحلة الممتعة المتعبة، يمكنك الاستمتاع بطبق «أم مردم» – فراخ تطهى بالدفن في الرمال – على الطريقة السيوية في الخلاء ومشاهدة الغروب عند البحيرات المتناثرة كقطع الماس وسط الصحراء.

هبة الماء

يقول هيرودوت “إذا كانت مصر هبة النيل، فإن السيويين هبة عيون الماء”، حيث تضم الواحة نحو 220 عينا، إضافة إلى نحو 1200 بئر، وهو ما كان سببا في إقامة عدد من مصانع تعبئة المياه التي تخرج من باطن الأرض. ومن أشهر العيون؛ أبو شروف، التي تتميز ببرودة مياهها طوال العام، وعين قريشت.

وإلى جانب كل ذلك بإمكانك الاستمتاع بهدوء في ظل حدائق النخيل والزيتون ومشاهدة الغروب على أربع بحيرات كبرى بينما تشرب الشاي السيوي الثقيل، وسيكون بانتظارك ليلا حفلات السمر على الأغاني السيوية الشعبية والرقص التقليدي حول النار.

ورغم اختلاف اللغة – يتحدث أهل الواحة العربية التي يتعلمونها في المدرسة مع التمسك بلغتهم الأصلية الأمازيغية – إلا أنها مصرية صميمة وهو ما تثبته بقايا المعابد القديمة التي تنتمي لمصر الفرعونية مثل معبد أم عبيدة ومعبد الوحي الشهير تاريخياً بزيارة الإسكندر الأكبر.

يدين أهالي الواحة بالإسلام الذي يقال أنه انتقل إليهم خلال عبور عقبة بن نافع عليها وهو في طريقه لغزو برقة وإسلامه ذو نزعة صوفية ولهم أعلام وأولياء، أهمهم سيدي سليمان الذي يرجع له الفضل في السلام الذي ساد الواحة بين القبائل، ويقام له احتفال سنوي أسفل جبل الدكرور ويعتبر من أهم الاحتفالات لديهم.

ويعيش أهالي سيوة على الطريقة القبلية أي على هيئة قبيلة لها مضارب ولها شيخ قبيلة، وتنتقل مشيخة القبيلة هناك بالوراثة خاصة إذا كان المرشح للمشيخة متعلما وعلى قدر من الثقافة.

ويودعك أهلها بغنوة شعبية شهيرة : “سيوة سيوة/ بلد الزوار/ مشهورة بالآثار/ فيها رحلة سافاري/ مشهورة بالآمان”.

وآمان بالسيوية تعني مياه أو ليست الواحة هبة الماء الذي يمنحها الحياة ويلون صحرائها بالأخضر..

ورغم جلوسهن في المنزل إلا أن النساء السيويات لسن عاطلات، فالمرأة المتزوجة قد تعمل برسم الحناء للسائحين من النساء والاشتغال بالرسم على السجاد وغزل السلال وصحاف الخوص الملونة، وتتولى الفتيات الصغيرات عملية البيع أمام المزارات السياحية المختلفة هناك، ومؤخرا بدأت الفتيات النزول إلى مصانع البلح للعمل في التعبئة والتغليف في الوقت الذي ينصرف الرجال للفلاحة.

عزلة ونسيان

ربما يعجبك أيضا