نجمت عن الحرب الروسية الأوكرانية عواقب عالمية، من بينها المخاوف المتزايدة بشأن انعدام الأمن الغذائي، وأزمة الطاقة الحادة في أوروبا، مع زيادة التدهور الاقتصادي والتضخم، وخاصة في أفريقيا والشرق الأوسط.
وتظل إحدى العواقب الخطيرة لهذه الحرب لم تأخذ نصيبها من الاهتمام العالمي، والتي تتمثل في تأثيرها على الجهود الرامية إلى منع الانتشار النووي، وهي أزمة جعلت العديد من المحللين يرجعون إلى مذكرة بودابست بشأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا لتخليها عن أسلحتها النووية في 1994.
أوكرانيا والردع النووي
أوضحت مجلة أوراسيا ريفيو، في تقرير نشرته أمس السبت 7 ديسمبر 2024، أن فهم هذه القضية يعتمد على دراسة التاريخ الحديث للأسلحة النووية في الاتحاد السوفيتي السابق، فعندما انهار في 1991، ظهرت 15 دولة مستقلة حديثًا، استحوذت 3 منها، أوكرانيا وكازاخستان وبيلاروسيا، على أعداد كبيرة من الأسلحة النووية السوفيتية، وبينما نقلت كازاخستان وبيلاروسيا السيطرة على ترساناتهما النووية إلى موسكو، كان وضع أوكرانيا مختلفًا.
وأصبحت أوكرانيا، بشكل غير متوقع، ثالث أكبر قوة نووية في العالم، ما أثار جدلاً داخليًا حول مستقبل البلاد النووي، ومن ناحية أخرى، كانت العديد من هذه الأسلحة تقترب من نهاية عمرها التشغيلي، وكانت أوكرانيا تفتقر إلى الموارد اللازمة لتحديثها وصيانتها، بينما كان هناك دعم كبير للاحتفاظ برادع نووي لضمان أمن الأمة ودفاعها.
وفي النهاية، وبعد ضغوط دولية كبيرة، وافقت أوكرانيا على التخلي عن جميع أسلحتها النووية الموروثة في مقابل دعم اقتصادي كبير وضمانات أمنية من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا، وتوج هذا الاتفاق بتوقيع “مذكرة بودابست” بشأن الضمانات الأمنية في 5 ديسمبر 1994.
مذكرة بودابست
يصادف هذا الأسبوع الذكرى السنوية الـ30 للاتفاقية، ووفقًا للمذكرة، وافقت روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة على “إعادة تأكيد التزامها بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضي أوكرانيا أو استقلالها السياسي، وأنه لن يتم استخدام أي من أسلحتها ضد أوكرانيا إلا للدفاع عن النفس أو خلاف ذلك وفقًا لميثاق الأمم المتحدة”.
ولكن مع مرور الوقت، أصبحت مذكرة بودابست محفوفة بالغموض، فكل طرف يفسرها وفق مصالحه، ومنذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 وغزوها الكامل لأوكرانيا في 2022، اتهم الأوكرانيون شركاءهم الغربيين بالفشل في احترام الضمانات الأمنية للمذكرة.
وكانت مذكرة بودابست من المنظور الأمريكي، مجرد مذكرة، وليست معاهدة ملزمة قانونًا، والتي لكي تحمل قوة القانون تتطلب تصديق مجلس الشيوخ، وهذا الأسبوع، خلال اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو في بروكسل، رفع وزير خارجية أوكرانيا، “أندريه سيبيا”، النسخة الأصلية من مذكرة بودابست، تذكيرًا رمزيًّا للعالم بالالتزامات التي قُطعت قبل 30 عامًا.
3 عواقب
في ضوء الحرب الروسية الأوكرانية، ظهرت 3 عواقب مهمة للجهود العالمية لمنع انتشار الأسلحة النووية، أولها أنه لن تتخلى أي دولة تمتلك أسلحة نووية حاليا عن هذه الأسلحة طوعا، فقد أبرزت تجربة أوكرانيا المخاطر المترتبة على نزع السلاح، فلو احتفظت أوكرانيا بردع نووي محدود، فمن غير المرجح أن تغزوها روسيا في 2014 أو 2022.
وثانيًا: ساهمت الحرب في أوكرانيا في تعزيز القدرات النووية لإيران وكوريا الشمالية، وفي مواجهة انتكاسات غير متوقعة في حملتها، اعتمدت روسيا على الدعم المادي والبشري من هؤلاء الحلفاء، فزودت كوريا الشمالية روسيا بقذائف المدفعية والصواريخ الباليستية، وتشير التقارير الأخيرة إلى أن كوريا الشمالية أرسلت آلاف الجنود للقتال إلى جانب القوات الروسية.
أما ثالثًا، فلا يمكن استبعاد احتمال سعي أوكرانيا إلى برنامج للأسلحة النووية، ومع انهيار مذكرة بودابست واحتمال عضوية حلف الناتو لا يزال بعيدًا، ألمح الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى أن بلاده لن يكون لديها خيار سوى إعادة النظر في خياراتها النووية، ورغم عدم وجود دليل على سعيها للحصول على أسلحة نووية، يتفق الخبراء على أن لديها الخبرة الفنية والموارد للقيام بذلك في المستقبل.
مفارقات مأساوية
أوضحت المجلة أن من المفارقات المأساوية أن تؤدي مذكرة بودابست، المصممة لتقليص عدد الدول المسلحة نوويًّا، إلى تسريع انتشار الأسلحة النووية، مشيرة إلى أن انهيار المذكرة يسلط الضوء حاليًا على الكيفية التي ستؤدي بها الحلول الجزئية للمشاكل الأمنية المعقدة إلى عواقب غير مقصودة وبعيدة المدى.
وأضافت أن بعض المحللين يرى أن مذكرة بودابست باعتبارها اللحظة التي بدأ فيها نظام منع الانتشار العالمي في التفكك، وفي غياب الالتزامات الموثوقة وآليات التنفيذ، قد تثبت الجهود الرامية إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية أنها عقيمة، ما يجعل العالم مكانا أكثر خطورة، مشيرةً إلى ضرورة أن تكون مذكرة بودابست بمثابة قصة تحذيرية، فالاتفاقيات الأمنية الشاملة والقابلة للتنفيذ وحدها هي القادرة على منع حدوث أزمة الثقة مرة أخرى مستقبلًا.
رابط مختصر : https://roayahnews.com/?p=2068682