عقد الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، جلسة مباحثات رسمية مع لورانس وونغ، رئيس وزراء سنغافورة، في مقر البرلمان السنغافوري، وذلك مع مستهل زيارته.
تعد تجربة سنغافورة واحدة من أبرز قصص النجاح التنموي في العصر الحديث، حيث استطاعت هذه الدولة الصغيرة، أن تتحول من دولة تعاني الفقر والمشاكل السياسية إلى نموذج عالمي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
أسباب النجاح
يُعزى هذا النجاح بشكل كبير إلى سياسات المؤسس “لي كوان يو”، الذي استطاع عبر رؤية استراتيجية شاملة أن ينقل بلاده من العالم الثالث إلى العالم الأول.
ولكن المعرفة السطحية لهذه التجربة لا تكفي؛ فالغوص في تفاصيل التحديات والنجاحات، وتحليل الأساليب التي تم تبنيها، يقدم دروساً قيمة يمكن أن يستفيد منها الشباب العربي الطموح.
نموذج تنموي فريد
غالباً ما ينظر الشباب العربي المعاصر إلى سنغافورة كدولة ناجحة تمثل نموذجاً تنموياً فريداً، لكن معرفة الكثيرين تتوقف عند هذا الحد، وهو أمر لا يعكس الفائدة الكاملة ولا يشجع على التفكير العميق، إن استيعاب هذه التجربة يحتاج إلى قراءة متأنية وتحليل مقارن؛ فالنماذج التنموية الناجحة لا يمكن استيعابها من خلال الاطلاع السريع، بل عبر فهم التحديات التي واجهتها، والقرارات الاستراتيجية التي اتخذتها، والنجاحات التي حققتها.
والنظريات وحدها ليست كافية لتشكيل الأفكار وتوجيه الأولويات، فهي تحتاج إلى أمثلة حقيقية يمكن دراستها وتحليلها. حين تتجسد الأفكار في تجربة إنسان أو مجتمع، فإنها تمنح معنى أعمق للتاريخ وتقدم دروساً يمكن استخلاص الحكمة منها. سنغافورة قدمت نموذجاً حقيقياً يجسد هذا الفهم من خلال التجربة العملية.
من العالم الثالث إلى الأول
من الكتب التي تلخص هذه التجربة كتاب «من العالم الثالث إلى الأول»، الذي ألفه باني نهضة سنغافورة الحديثة “لي كوان يو”. يروي الكتاب “قصة سنغافورة 1965-2000″، حيث يقدم رؤية شاملة وحكيمة حول كيفية تحويل الدولة من حالة من الفقر والاضطرابات إلى نموذج اقتصادي متقدم. يستعرض الكتاب أكثر من ألف صفحة من الرؤية العميقة والتفكير الاستراتيجي والقدرة على استشراف المستقبل.
وافتُتح الكتاب بمقتطفات من شهادات قادة عالميين، مثل كوفي عنان وجورج بوش ومارغريت تاتشر وجاك شيراك، الذين أثنوا على التجربة وصانعها. مثل هذه الشهادات تعزز من قيمة الكتاب وتدعم الفكرة التي يعبر عنها، وتؤكد فرادة التجربة السنغافورية وصانعها، مما يجعلها مرجعاً قيماً لأي قارئ مهتم بالنماذج التنموية الملهمة.
التحديات التي واجهتها سنغافورة
قدّم الدبلوماسي والمفكر المعروف، هنري كيسنجر، الكتاب بوضعه في سياقه التاريخي، من خلال النظر إليه عبر المنظور الحضاري الغربي، مما يعكس تقديراً عالمياً للتجربة، ويمكن لكل قارئ أن يجد زاويته الخاصة التي ينظر منها إلى التجربة، ويستخلص منها دروساً قيمة يمكن تطبيقها في منطقتنا العربية، ليس عبر محاكاة حرفية بل عبر استيعاب الحكمة وتحليلها وتطبيقها بما يتناسب مع ظروفنا المحلية.
واستعرض “لي كوان يو” في كتابه التحديات الكبرى التي واجهت سنغافورة عند استقلالها عام 1965. كانت دولة صغيرة وفقيرة بالموارد الطبيعية، قليلة السكان، ومختلفة عرقياً ولغوياً وثقافياً، وتقع بين دولتين كبيرتين هما إندونيسيا وماليزيا. واجهت سنغافورة في ذلك الوقت العديد من التحديات، من بينها الاعتراف الدولي، تكوين الجيش، وبناء اقتصاد قوي ومستدام.
تحديات وتفاصيل
استهل “لي كوان يو” كتابه بكلمات موجهة للشباب، إذ قال: “كتبت هذا المؤلف من أجل الجيل الشاب من السنغافوريين الذين اعتبروا الاستقرار والنمو والرخاء قضايا مسلماً بها”. مضيفًا: “لا نستطيع تجاهل حقيقة أن النظام العام، والأمن الشخصي، والتقدم الاقتصادي-الاجتماعي، والرخاء والازدهار، ليست من النظام الطبيعي للأشياء”، وهذه الرسائل تتطلب قراءة متأنية من الشباب العربي الطموح، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها دولهم في مسارها نحو المستقبل.
تولى “لي كوان يو” قيادة سنغافورة في سن الثانية والأربعين، وكان أمامه ثلاث تحديات أساسية: الحصول على الاعتراف الدولي، تكوين جيش قوي، وبناء اقتصاد متين. كان واعياً بدوافع شعبه وخلفياته التاريخية والثقافية، مما ساعده في قيادة البلاد بحكمة نحو استقرار وتنمية مستدامة.
وتمثل تجربة سنغافورة بداية قصة نهضة ملهمة يجب دراستها بتمعن، وخاصة في العالم العربي الذي ما زال يبحث عن النماذج التنموية القادرة على تحقيق تغيير حقيقي. هذه القصة تمنح أمثلة حية وملهمة يمكن من خلالها فهم كيفية تجاوز التحديات وتحقيق الرؤية المستقبلية، وهي دليل حي على أن النجاح ممكن عندما تتوفر القيادة الحكيمة والرؤية الاستراتيجية.
رابط مختصر : https://roayahnews.com/?p=2027160