كيف أصبحت سياسات ترامب هدية لبوتين؟

منذ تولي الرئيس دونالد ترامب منصبه، شهدت السياسات الأمريكية تحوّلات كبيرة صبت في مصلحة روسيا، بين قرارات إدارية تؤدي لإضعاف القوة الناعمة الأمريكية، والتراجع عن جهود مكافحة الهجمات السيبرانية، والتوتر المُتزايد مع الحلفاء التقليديين في الناتو، وكلها خطوات تصب في صالح الكرملين.

كما أن تصريحات ترامب عن “استعادة” قناة بنما، وضم كندا كـ”ولاية أمريكية” جديدة، والاستحواذ على جزيرة جرينلاند بأي وسيلة، تثير المخاوف بشأن انحرافه عن قواعد النظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يتماشى مع نهج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفق صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.

تنازلات كبيرة في ملف أوكرانيا

قبل حتى بدء محادثات السلام، رفضت إدارة ترامب مطالب كييف الأساسية مثل عضوية الناتو، والإبقاء على الأراضي المحتلة ضمن المفاوضات، لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد ذهب المبعوث الأمريكي الخاص، ستيف ويتكوف، إلى حد اعتبار الأقاليم الأوكرانية التي ضمتها روسيا جزءًا من أراضيها “دائمًا”.

كما وعد ترامب بعقد اتفاقات اقتصادية مع موسكو فور توقيع اتفاق سلام، ما سيسهم في إنعاش الاقتصاد الروسي، وبالتوازي، تراجعت الوكالات الأمنية الأمريكية عن مواجهة الهجمات السيبرانية الروسية، حيث أُمرت القيادة الإلكترونية للولايات المتحدة بوقف التخطيط لأي عمليات هجومية ضد موسكو.

أما المحادثات الجزئية بشأن وقف إطلاق النار في البحر الأسود، فقد تشمل إعادة روسيا إلى نظام “SWIFT” المالي العالمي بحجة بيع الحبوب، وهو أمر طالما سعت إليه روسيا، وفق تقرير “واشنطن بوست” المنشور الأربعاء 26 مارس 2025.

بوتين: “صديق موثوق” في نظر ترامب

لم يعد بوتين يُنظر إليه في واشنطن كخصم يسعى لإنهاء الهيمنة الأمريكية، بل كزعيم “ذكي” و”ودود”، بحسب تصريحات ويتكوف، الذي أضاف: “لا أعتقد أن بوتين شخص سيئ”.

ترامب نفسه تبنى سردية الكرملين، متهمًا أوكرانيا بأنها “المسؤولة عن اندلاع الحرب”، ووصف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنه “ديكتاتور”.

هذه التحوّلات منحت بوتين فرصة للعودة إلى الساحة الدولية، حيث لم يعد منبوذًا، بل بات يُنظر إليه كشريك أساسي في تحقيق الاستقرار بالشرق الأوسط، وحتى في تصدير الغاز الروسي من القطب الشمالي إلى أوروبا.

وقف التحقيقات في جرائم الحرب

في 2023، وجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لبوتين بارتكاب جرائم حرب، بعد تورطه في اختطاف آلاف الأطفال الأوكرانيين، إلا أن إدارة ترامب أوقفت تمويل مشروع بحثي بجامعة ييل كان يتتبع مصير هؤلاء الأطفال، كما منعت إرسال الأدلة إلى المحكمة.

كما أوقفت واشنطن تعاونها مع “المركز الدولي لملاحقة جريمة العدوان”، وهو هيئة أوروبية تحقق في مسؤولية روسيا عن الحرب ضد أوكرانيا، هذه القرارات أضعفت الجهود الدولية لمحاسبة موسكو، مما أتاح للكرملين الإفلات من العقاب.

القضاء على القوة الناعمة الأمريكية

لطالما عارض الكرملين الوكالات الأمريكية التي تدعم الديمقراطية، مثل وكالة التنمية الدولية (USAID)، وإذاعة أوروبا الحرة (RFE/RL)، وصوت أمريكا (VOA).

وتعمل حاليًّا إدارة ترامب تعمل حاليًا على تقليص تمويل هذه الجهات أو إغلاقها تمامًا، مما قد يحقق لموسكو هدفًا طالما سعت إليه، إذاعة أوروبا الحرة، التي فرضت روسيا عليها غرامات حتى الإفلاس، استمرت في تغطيتها من الخارج، لكن قرار ترامب بإغلاقها قد ينجح فيما فشلت فيه موسكو.

المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، هاجمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “USAID”، ووصفتها بأنها “أداة للتلاعب السام”، مضيفة أن روسيا ستواصل “قمع أي محاولات خارجية لزعزعة استقرارنا تحت ستار الدفاع عن الديمقراطية”.

تصدع العلاقات مع الناتو

أحد أهم أهداف بوتين الاستراتيجية كان دائمًا إضعاف حلف الناتو، وتقويض العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ ويبدو ترامب وكأنه يُسرّع هذا المسار؛ فهو لم يكتفِ بتجميد المساعدات العسكرية لأوكرانيا، بل هدد بعدم الدفاع عن أعضاء الناتو الذين لا يلتزمون بالإنفاق الدفاعي المستهدف، واقترح رفع هذا الحد إلى 5% من الناتج المحلي، ما أثار توترًا داخل الحلف.

كما وجه نائب الرئيس، جي دي فانس، توبيخًا لحلفاء الناتو في مؤتمر ميونيخ الأمني، مطالبًا أوروبا “بتحمل مسؤولية أمنها بنفسها”، بينما صرح وزير الدفاع، بيت هيجسيث، بأن “بقاء القوات الأمريكية في أوروبا ليس مضمونًا”، وهو ما أثار تساؤلات بشأن مستقبل الحضور العسكري الأمريكي هناك.

فضيحة أخرى كشفت مدى ازدراء بعض المسؤولين في إدارة ترامب لأوروبا، عندما تم تسريب دردشة جماعية على تطبيق “سيجنال” بين مسؤولين أمريكيين، حيث كتب أحدهم: “أنا أكره أن ننقذ أوروبا مرة أخرى”، فرد آخر: “نعم، الاعتماد الأوروبي علينا مثير للاشمئزاز”، ويخلص التقرير إلى أن كل ما سلف يشير إلى أن التوجه الأمريكي الجديد يعيد رسم خرائط النفوذ العالمي على نحوٍ يتوافق مع تطلعات الكرملين.