ما جدوى الحديث عن أهلية خامنئي فيما البحث جار عن خليفته!

يوسف بنده

رؤية

حين توفي الخميني وطرح اسم الرئيس علي خامنئي بديلًا من بين عدّة بدائل محتملة لم يعتقد المتابعون أنه سيكون الأوفر حظا. إذ كان خامنئي يفتقد إلى كاريزما الخميني ومكانته. لكن خلال اجتماع في 4 يونيو 1989، اليوم الذي أعقب وفاة الخميني، أخبر رئيس البرلمان حينذاك علي أكبر هاشمي رفسنجاني مجلس الخبراء بأنّ الخميني كان يعتبر خامنئي مؤهّلا للمنصب.

والرواية بحسب ما تناقلتها المراجع أن رفسنجاني قال خلال اجتماع المجلس “سمعت من آية الله شبستري نقلا عن آية الله طاهري عن حديث دار بينهما وبين الإمام الخميني بخصوص القيادة من بعده بأنه طالما أن خامنئي بينكم لا تبحثوا عن أحد”، ليرقى بذلك خامنئي خلال دقائق إلى آية الله خامنئي بـ60 صوتا مقابل 14.

وكان انتخابه مخالفا للدستور الإيراني. لا تخفى هذه الحقائق على أي متابع للشأن الإيراني، وهي معلومة متداولة منذ سنوات طويلة، الأمر الذي يقلل من أهمية التسريب الذي شكل الحدث في اليومين الماضيين ونال الاهتمام باعتبار أنه يؤكد صحة الرواية عما جرى خلف الستار لوصول خامنئي إلى منصب المرشد الأعلى رغم افتقاره إلى المواصفات الدستورية والشرعية الأساسية.

يثبت التسجيل مجهول المصدر ما حدث قبل 28 سنة لكنه لا يمثل فارقا كبيرا وتوقّعُ أنه سيكون أداة جديدة لتهديد النظام في إيران أمر عبثي في وقت يجري فيه الاستعداد لاختيار مرشد أعلى جديد خلفا لخامنئي، المريض والمتقدم في السن، والذي نجح على مدى سنوات حكمه في أن يرسخ نظاما خاصا به ودولة عميقة، من بين أركانها الحرس الثوري ورجال الدين المتنفّذين والمقربين من خامنئي منهم ابنه مجتبى أحد المرشحين لخلافته.

في خضم التصعيد الداخلي الذي يعيش على وقعه النظام الإيراني واتساع رقعة الاحتجاجات وتجاوز المظاهرات للخطوط الحمراء بمناداتها بالموت للمرشد الأعلى وسقوط النظام، مدعومة بموقف دولي متصاعد ضد سياسات إيران في الشرق الأوسط، ظهر على سطح الأحداث تسريب يتحدث عن عملية اختيار المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي ويشكك في أهليته بعد قبل 28 سنة على خلافته للخميني.

كشف عن التسريب عشية الذكرى الأولى لوفاة الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وقيل إن مجهولين سرّبوا فيديو من 19 دقيقة سجل داخل الجلسة الأولى لمجلس خبراء القيادة عقب وفاة المرشد الأول روح الله الخميني يوم وفاة الخميني في 4 يونيو 1989.

لم يحمل التسريب معلومة جديدة حول تفاصيل تولي خامنئي المنصب، وإن كانت بعض التفاصيل مهمة خصوصًا اعتراف خامنئي نفسه بأنه غير مؤهل للقيادة، وأيضا تفاصيل اجتماع مجلس خبراء القيادة وتفاصيل اختيار الرئيس علي خامنئي ليدير أمور القيادة بشكل مؤقت لفترة شهرين فقط، حتى يتم تعديل الدستور الإيراني.

لا يكتسب التسريب أهميته من المعلوم الذي جاء فيه لكن من التوقيت الذي صدر به وطريقة التعامل معه، ففي الوقت الذي تقف فيه إيران على بركان بصدد الانفجار لا فقط بسبب المظاهرات التي هزت أركان الدولة العميقة التي بناها خامنئي على مدى 28 سنة بل أيضا بسبب ما يتردد منذ حوالي سنة بشأن مرض المرشد الأعلى والجدل الدائر في أعماق هذه الدولة عن خليفته.

هنا، يبدو الاهتمام، العربي والدولي، بما جاء في هذا التسريب أمرا عبثيا، وفق المراقبين، فالنظام يحكم منذ أربعة عقود، كما أن الحديث عن أهلية خامنئي، في وقت يبحث فيه عن خليفة له، جعجعة لن تكون لها أهمية إلا إذا كان لغاية استيعاب الوضع من جهة أنه يعكس عمق الأزمة داخل النظام الإيراني الراهن، ومن جهة التنبّه إلى ما يجري خلف أسوار بيت ولاية الفقيه وما تقوم به اللجنة السرّية التي تم إنشاؤها لتقييم أهلية الشخصيات المرشحة لخلافة المرشد، دون إغفال الدور الذي يلعبه الحرس الثوري للتأثير في الاختيار في ظل تدهور صحة المرشد الأعلى آية الله وغيابه الذي يمكن أن يُفجّر صراعا بين أجنحة السلطة، لا أحد بإمكانه التكهن بمدى تأثيره على البلاد.

ويقلل بعض المراقبين من شأن هذا التسريب ويعتبرون أن مضمونه بات متقادما بعد مرور 28 عاما، وأن الجدل حول الأمر حُمّل أكثر من حجمه. وما قاله خامنئي في ذلك الحين أثناء تلك الجلسة لا يعدو كونه تواضعا أراد الرجل إبرازه في لحظة رحيل الخميني ومداولات اختيار البديل، وأن التصريح بالعجز من قبل من كان رئيسا للجمهورية آنذاك لا يعني العجز الفعلي عن تبوء تلك المسؤولية.

ويضيف هؤلاء أن أمر التسريب هو تفصيل في تاريخ إيران لا وقع كبيرا له على راهن البلد ومستقبله، لا سيما في أمر التعامل مع أزمته الحالية المتعددة الأوجه، داخليا وخارجيا.

أزمة النظام

لا شك في أن التسريب المتعلق بعملية انتخاب المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي في منصب الولي الفقيه يأتي ضمن دائرة الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام السياسي في البلاد. ويفصح الكشف عن هذه المداولات في هذا الوقت والظرف عن ورشة تصفية حسابات بين منابر النظام القديمة التي لا تمتّ بالضرورة بصلة مباشرة للجيل التنفيذي المتحكم بمفاصل الدولة في إيران في هذه الأيام.

ويأتي حراك المدن الذي انفجر مؤخرا، لا سيما داخل تلك التي تدين بالولاء للتيار المحافظ والدوائر الدينية في البلاد، ليُفرج عن علة خبيثة تنخر أحشاء نظام الولي الفقيه وعقيدته الفقهية، فيما يستهدف التشكيك بظروف انتخاب المرشد الحالي تجويف هذا المفهوم وإسقاط وهجه وتقويض القدسية التي تحيط بالولي الفقيه المفترض أنه “نائب المهدي حتى عودته في آخر الزمان”.

لكن جهات إيرانية معارضة تعتبر أن حديث خامنئي نفسه، من خلال هذا التسريب، عن عدم أهليته الشرعية لحكم البلاد، يكشف عن الماكيافيلية الخطيرة التي انتهجها ورثة روح الله الخميني لضمان الإمساك التام بمفاصل الحكم في البلد بعد ساعات على وفاة مؤسس الجمهورية الإسلامية، والتي تولى رفسنجاني بدهاء وحنكة رسم خططها ومسالكها.

وتضيف هذه الأوساط أن دوائر الحكم آنذاك كانت مدركة أن الطابع الديني لنظام الحكم هو السبيل الوحيد للحفاظ على هيمنة الملالي على النظام السياسي رغم ركاكة مفهوم ولاية الفقيه الذي أعاد الخميني استخراجه من بطون فقه شيعي لا إجماع حوله، على الأقل بالمفهوم السياسي الحاكم الذي أراده الخميني في إيران.

وتلفت مصادر عايشت تلك الفترة إلى أن اعتبار خامنئي غير كفؤ فقهيا لتولي منصب ولاية الفقيه كان صادقا ربما لجهة إيمانه التام بأن المنصب يمثل مرجعا يعلو فوق كل مراجع الشيعة في العالم بالمعنى الفقهي، مسقطا من حساباته أن المنصب كما أراده الخميني هو منصب سياسي لحكم إيران يلبس لبوسا دينيا يشبه مفهوم الإكليروس في أوروبا في العصور الوسطى.

وربما كان رفسنجاني المعروف بدهائه مدركا لمحدودية كفاءات خامنئي في ذلك الوقت لكنه كان يريد حسم الجدل بشكل سريع في مسألة خلافة الخميني تلافيا لأي فراغ يمثل خطرا على نظام الجمهورية الإسلامية وعلى نفوذه وطموحاته الشخصية داخل هذه الجمهورية.

ويكشف التسجيل أن خامنئي قال إن ترشيحه لخلافة الخميني يعاني من إشكالات، ذلك أنه لا يملك الأهلية. ويتحدث خامنئي لاحقا عن افتقاره إلى المشروعية الشرعية متخوفا من رفض الفقهاء له لأنه ليس مرجع تقليد واجتهاد، ليقول بعد ذلك إنه “يجب أن نبكي دما على حال الأمة الإسلامية لو انتخب شخص مثلي لمنصب القيادة”.

ويقول مهدي خلجي، الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إن النخب السياسية ذات التأثير الكبير في إيران وقتها، ضغطت على المجلس للتصويت لصالح خامنئي، (الذي كان مقرّبا من الخميني)، وعدم الظهور أمام العالم بصورة تعكس الاختلاف الحاد مما قد يؤثر على صورة النظام، الأمر الذي لم يعد متوفرا الآن، فلم يعد بمقدور أحد إدعاء القدرة على الضغط بعد مرور سنوات من التناقض والعزل السياسي مارسها خامنئي نفسه ضد كل من خالفه الرأي، من ذلك المسؤولين الذين تسببوا في أن يكون المرشد الأعلى.

وتؤكد مراجع متابعة للصراع داخل الطبقة السياسية في إيران أن التسريب في هذا التوقيت يعني أن جهة داخل النظام تكشف وهن الأسس التي بني عليها النظام الحالي الحاكم في إيران والذي أدى في الأسابيع الأخيرة إلى انتفاضة الذخيرة الشعبية الموالية للنظام والولي الفقيه ومجتمع رجال الدين ودوائر الحرس الثوري والمؤسسات الرديفة للمرشد الأعلى على كل شخوص النظام ومنابره.

ويضيف هؤلاء أن مقاصد التسريب قد يراد من ورائها تحميل مسؤولية أزمة النظام السياسي لشخص علي خامنئي واستخدامه كبش فداء يبرئ النظام من مسؤوليته في ما وصلت إليه البلاد وإلصاق الأمر بمرشد لا يتمتع بالأهلية والكفاءة بحسب اعترافه شخصيا. ويأتي التسريب في وقت حرج جدا لم تستفق من حدته تيارات النظام و”قبائله”. ولأول مرة يشعر النظام بزلزال يهز أركانه على الرغم من السيطرة الشكلية التي تمت على أمور الشارع في البلاد.

ويدرك أركان النظام، لا سيما داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية وخصوصا داخل الحرس الثوري نفسه، تماما أن الحراك الأخير بيتي داخلي لا شأن لأي دولة في الخارج بالتخطيط له، وأن العلّة باتت متجذرة داخل الشرائح الاجتماعية وبات من المستحيل فك عقدها من خلال خطب المرشد الشعبوية وعظاته الفقهية وسخطه على أعداء الثورة في البلاد.

ولم يعد التيار المحافظ الملتفّ تقليديا حول المرشد الأعلى يرى في التيار الإصلاحي والمعتدل عدوا له، بل إن هذا التناغم العجيب بين التيارين ينم عن شعورهما بالحاجة المشتركة إلى التكاتف درءا لانهيار كامل للنظام يطيح بجناحيه.

ومثير للاستغراب التصويب على عدم أهلية خامنئي بعد مرور حوالي ثلاثة عقود على تبوئه منصب المرشد الأعلى وهو الذي قاد بلاده في مواجهة محن شديدة وأظهر كفاءة عالية في الدفاع عن منظومة إيران السياسية واستقرارها خلال هذه الفترة.

من يقود إيران عليه أن يتمتّع بأهلية سياسية للحكم وليس كفاءة فقهية تركيز التسريب على اعتبار خامنئي نفسه غير مؤهل فقهيا لا ينفي، جدلا، أهلية الرجل السياسية أو تطور كفاءاته في ما بعد، بغض النظر عن تقييم الموالين والمعارضين للنظام الإيراني لنتائج سياساته المعتمدة منذ عام 1989.

أهلية خامنئي

لم يكن روح الله الخميني الذي أسس الجمهورية الإسلامية وقاد الثورة في إيران عام 1979 الأكثر كفاءة على المستوى الفقهي وأن نظريته حول ولاية الفقيه تنم عن محدودية فكرية وليس عن عبقرية في علم السياسة، وأن الرجل اجترح نظرية للحكم تغرف من التاريخ ومن نصوص الفقه والتراث غير معترف بقواعد العمل السياسي الحديث في العالم على الرغم من إقامته الفرنسية.

وبالمقارنة ما بين الخميني وخامنئي، فإن الأخير أظهر كفاءة عالية في تحقيق ما عجز الخميني عن تحقيقه، ذلك أن انغلاق الخميني وتهوره وعناده حجبت عنه رؤية أبعاد استطاع خامنئي إدراكها والتعامل معها ليصبح اللاعب الحقيقي الأول في البلاد. بالمقابل فإن خامنئي أظهر دهاء استطاع من خلاله تحقيق أحلام الخميني نفسه في كامل المنطقة.

التسريب يراد منه محاسبة تاريخ الحكم في إيران وليس الحكم بمعناه الراهن، والتهم تكال فجأة ضد مرشد مريض تبحث إيران عن خليفة له وضد علي أكبر هاشمي رفسنجاني المتوفي في ظروف غامضة يدور جدل كثير حول إمكانات فتح تحقيقات بشأنها.

وفي خضم ما تعيشه إيران اليوم، يأتي التسريب ليحاسب شخصا متوفيا ويحاسب معه دائرة حكم عملت معه، كما يحاسب بدايات المرشد الحالي ليحملها مسؤولية ما آلت إليها الأمور في نهاياته.

ومؤكد أن هذه التطورات المرتبطة بالمرشد الأعلى ستصب داخل الجدل القديم الجديد حول نظرية ولاية الفقيه التي لا تحظى بإجماع فقهي لدى الشيعة في العالم، من حيث أن عدم الكفاءة التي يعترف بها خامنئي نفسه تؤكد عدم أهلية أي شخص لتولي منصب نائب المهدي والتصرف وفق مشروعية دينية إلهية فيما اختيار الشخص يتم وفق حسابات بشرية تدخل فيها أجندات ظرفية تتعلق بشروط الحكم وقواعد النفوذ وأصحابه.

ويسعر تشكيك رفسنجاني نفسه بوجاهة ولاية الفقيه ثم تشكيك مراجع شيعية بشرعية النظرية إضافة إلى تشكيك دوائر سياسية إيرانية، خصوصا داخل التيار الإصلاحي، جدلا سيستفيد من هذا التسريب للانتقال نحو نظام سياسي آخر بعد رحيل المرشد الأعلى الحالي.

المصدر: صحيفة العرب

ربما يعجبك أيضا