مع تصاعد الأزمات الدولية وتغيّر خريطة التحالفات العالمية، يزداد الحديث في العواصم الأوروبية بشأن مستقبل القارة في حال اضطرت يومًا إلى التصرف من دون الاعتماد على الولايات المتحدة، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
هذا التساؤل بات أكثر إلحاحًا في ضوء تصاعد النزعات الانعزالية في واشنطن، خاصة في ظل الإدارة الحالية التي أعادت إلى الواجهة شعارات “أمريكا أولًا”، مما دفع الأوروبيين لإعادة تقييم اعتمادهم الطويل على الحليف الأمريكي.
حلف الناتو والنفقات الدفاعية
حسبما ذكرت صحيفة “الجارديان” البريطانية، في تقرير نشر الأحد 23 مارس 2025، فأنه لطالما كان الحلف الأطلسي (الناتو) ركيزة الأمن الأوروبي لعقود، حيث تولت الولايات المتحدة العبء الأكبر في تأمين الحماية العسكرية للدول الأوروبية، سواء من تهديدات الحرب الباردة أو النزاعات الحديثة مثل الحرب في أوكرانيا، كذلك أيضًا الجانب الاقتصادي والنفقات التي تتحملها أمريكا أكثر من أي دولة في الناتو.
لكن مع التغيّرات الجيوسياسية وتذبذب الالتزام الأمريكي تجاه الحلفاء، أصبح على الأوروبيين التفكير بجدية في قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم وتأمين مصالحهم دون واشنطن.
أوروبا أمام لحظة حاسمة
يرى مراقبون أن أوروبا تجد نفسها اليوم أمام مفترق طرق، إذ أصبح عليها تقوية بنيتها الدفاعية والاستراتيجية والاقتصادية، وربما السعي لبناء منظومة أكثر استقلالية.
وتقول الباحثة في العلاقات الدولية، ماريان دوبريه: “لم يعد بإمكان القارة الاعتماد بشكل أعمى على المظلة الأمريكية”، مضيفة أن أوروبا مطالبة اليوم بمراجعة خياراتها الأمنية بشكل جذري.
ورغم أن بعض الدول الأوروبية الكبرى، مثل فرنسا وألمانيا، تدعو منذ سنوات إلى تعزيز “الاستقلالية الاستراتيجية” للاتحاد الأوروبي، إلا أن الخطوات العملية نحو تحقيق ذلك لا تزال بطيئة مقارنة بالتحديات المتزايدة في الساحة الدولية.
حرب أوكرانيا كمثال صارخ
شكلت الحرب في أوكرانيا درسًا قاسيًا للأوروبيين، فبينما لعبت واشنطن دورًا رئيسيًا في دعم كييف عسكريًا واقتصاديًا، ظهرت الحاجة الملحة داخل الاتحاد الأوروبي لتقليل الاعتماد على الحليف الأمريكي، خاصة مع تخوف الأوروبيين من سيناريو قد تنسحب فيه واشنطن مستقبلاً من قيادة الاستجابات للأزمات الكبرى.
ويقول المحلل السياسي، كريستوف مولر: “لولا المساعدات العسكرية الأمريكية الضخمة لأوكرانيا، لكانت أوروبا اليوم أمام وضع جيوسياسي مختلف تمامًا”، ويضيف: “لكن هذا يسلط الضوء على افتقار القارة للقدرة الذاتية على التدخل والحسم في الأزمات القريبة من حدودها”.
التحديات الداخلية أمام أوروبا
الحديث عن قدرة أوروبا على “الاعتماد على نفسها” يصطدم بمجموعة من التحديات البنيوية، فهناك انقسامات واضحة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن قضايا الدفاع والعلاقات التجارية، بالإضافة إلى تفاوت كبير في مستويات الإنفاق العسكري بين دول القارة.
وفي الوقت الذي تنفق فيه فرنسا وألمانيا مبالغ ضخمة على التحديث العسكري، لا تزال بعض الدول الصغيرة تعتمد بشكل شبه كلي على الناتو، من جانب آخر، يعاني الاتحاد الأوروبي من غياب قيادة موحدة في الملفات الأمنية الحساسة، حيث تختلف مصالح العواصم الأوروبية عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع قوى مثل روسيا أو الصين، ما يصعب مهمة بناء جبهة دفاعية أوروبية خالصة.
فرص الاستقلالية.. هل هي واقعية؟
رغم هذه التحديات، يرى بعض المحللين أن أوروبا تمتلك مقومات التحرك نحو مزيد من الاستقلالية، خاصة مع وجود صناعات دفاعية متقدمة، وتجارب في العمليات العسكرية المشتركة، مثل تدخلات فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي.
كما أن تعاظم المخاطر الأمنية يدفع المزيد من القادة الأوروبيين لتأييد فكرة إنشاء “قوة دفاع أوروبية” تكون قادرة على التعامل مع الأزمات بعيدًا عن واشنطن.
لكن مع ذلك، فإن بناء ثقة كاملة بقدرة أوروبا على إدارة أمنها دون شريكها الأمريكي لا يزال أمرًا بعيد المدى، فالعلاقة التاريخية والاستراتيجية بين ضفتي الأطلسي، رغم توترها أحيانًا، تبقى جزءًا من معادلة يصعب تجاوزها سريعًا.
رابط مختصر : https://roayahnews.com/?p=2172827