لطالما ارتبطت شخصية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في الوعي العام بالثروة، والصفقات الضخمة، والحضور الطاغي في عالم المال والأعمال.
رجلٌ خرج من قلب نيويورك، وتربّى في بيئة تجارية، وتخرّج من كلية وارتون المرموقة، وهذه الخلفية جعلت وول ستريت تفترض، عند كل محطة من مسيرته السياسية، أن الرئيس الأمريكي سيكون حليفًا طبيعيًا لها، ولكن ما حدث في بداية ولايته الثانية أثبت أن الرهان على هذا الافتراض كان في غير محله.

دونالد ترامب
بداية الوهم
بحسب “فاينانشال تايمز” البريطانية، الثلاثاء 15 أبريل 2025، فإن رجال المال الذين اصطفوا لساعات في مؤتمر ميامي لسماع ترامب، والذين استقبلوه بالتصفيق الحار، بدأوا الآن يدركون أنهم أخطأوا في قراءة أولوياته، وبينما كانوا يأملون في تخفيضات ضريبية جديدة ومزيد من تخفيف القوانين، فوجئوا بإدارةٍ تضعهم في الهامش، وتُعلن صراحةً أن زمن خدمة مصالح وول ستريت قد ولّى.
وفي فبراير، وفي مشهد أقرب إلى حفل موسيقي صاخب، انتظر كبار المستثمرين والمديرين التنفيذيين خطاب ترامب في مؤتمر اقتصادي مدعوم من السعودية،وضم الحضور ضم أسماء ثقيلة مثل روبرت سميث، نير بار ديا، وجوش هاريس، بدا المشهد وكأنه احتفاء بعودة نجم وول ستريت الأول.
وألقى ترامب خطابًا استعراضيًا مفعمًا بالحماسة، شدد فيه على أن أمريكا في عهده ستكون الأفضل لمن يسعى إلى الثروة والاختراقات الاقتصادية، وبدا أن الأسواق تتجاوب، وتحركت “غرائز” المستثمرين مع وعود إنهاء الرقابة الحكومية والقيود التي فرضتها إدارة بايدن.
حرب تجارية غير متوقعة
لكن بعد أسابيع قليلة فقط، اهتز هذا التفاؤل، ففي أبريل، أعلن ترامب عن فرض رسوم جمركية واسعة النطاق، مثيرًا موجة من الاضطراب في الأسواق المالية، خلال يومين فقط، تبخّرت أكثر من 5 تريليونات دولار من مؤشر ستاندرد آند بورز 500.
ولم يكن التدهور وليد اللحظة فقط، فقد بدأت بوادر التراجع تظهر في أداء الشركات، وانخفضت صفقات الدمج والاستحواذ إلى أدنى مستوياتها منذ عقد، وتعرّضت شركات المحاماة والاستشارات المالية الكبرى إلى ضغوط سياسية وإعلامية من البيت الأبيض. كل ذلك وسط إشارات متزايدة إلى ركود محتمل يلوح في الأفق.
الشعب أولًا.. وليس وول ستريت
ما غاب عن أذهان كثيرين هو أن ترامب لم يأتِ في ولايته الثانية بنفس الأجندة. هذه المرة، حسبما شدد جيه دي فانس، مرشحه لمنصب نائب الرئيس، فإن الإدارة الجديدة “انتهت من تلبية احتياجات وول ستريت” وستركز على “دعم العمال”.
وزير الخزانة الجديد، سكوت بيسنت، قالها صراحةً: “شعار اجعل عمليات الدمج والاستحواذ عظيمة مجددًا لا يعني ما تظنونه”، وكانت الرسوم الجمركية بمثابة نقطة التحوّل، هذه السياسات لم تُصمم لتُرضي كبار المستثمرين، بل جاءت كجزء من استراتيجية اقتصادية تهدف إلى تفكيك النظام التجاري العالمي، وإعادة تركيز المصالح الاقتصادية إلى الداخل الأمريكي.
ردة فعل الأسواق
مع تصاعد الخسائر في أسهم شركات ضخمة مثل بلاك روك وجي بي مورجان، بدأ بعض المستثمرين يُعبرون عن قلقهم، فيما التزم آخرون الصمت، وتغيّر خطاب البيت الأبيض، حيث صرّحت السكرتيرة الصحفية: “ثقوا بالرئيس ترامب”.
الرسالة كانت واضحة فلم تعد وول ستريت في موقع القيادة، ومن خلف الكواليس، بدأ كبار المستثمرين والمحامين والمديرين التنفيذيين يشعرون بأنهم غير مرحب بهم في هذه الإدارة.
الخوف من الانتقام
سادت أجواء من الترقب والقلق، وألمح مايكل سيمباليست من جي بي مورجان إلى “مناخ يُحاسب فيه الناس على آرائهم”، ورفض لاري فينك من بلاك روك التعليق على الهجمات التي طالت المستشارين القانونيين لشركته، وحتى مكاتب المحاماة الكبرى لم تسلم، إذ تشير التقديرات إلى أنها تعرضت لضغوط لتقديم ما يقارب مليار دولار من الخدمات المجانية لقضايا تدعمها الإدارة، وسط تحذيرات من تداعيات عدم الالتزام.
وأدركت وول ستريت متأخرةً أن ترامب لا يتصرف وفق منطق الأسواق، فمن يعرفونه عن قرب يقولون إنه يسعى لإعادة توجيه الاقتصاد لخدمة قاعدته الشعبية، وليس المستثمرين في مانهاتن، وعندما بدأ السوق في الانهيار فعليًا، لم يكن تدخل ترامب ناجمًا عن ضغوط داخلية، بل لأن الأسواق نفسها، لا كبار التنفيذيين، فرضت عليه التراجع جزئيًا.
نهاية الوهم.. وبداية واقع جديد
حقيقة أن الأسواق هي التي أجبرت ترامب على التراجع تؤكد أن مصيره لا يزال مرتبطًا بثروات النخبة المالية، وإن استمر في تهميشها، ولكنه أظهر أن بإمكانه تجاهلهم حين يشاء، ومعاقبتهم إن أراد دون أن يتردد ولم تكن وول ستريت مستعدة لرئيس بهذه الجرأة، ولا بهذا القدر من اللامبالاة بمصالحها، والمفارقة أن هذا الرئيس هو نفسه الذي كانوا يرونه يومًا ابنهم البار.
وأخطأت وول ستريت في قراءة ترامب لأنه لم يعد يتحدث بلغتها، ولا يتحرك ضمن أولوياتها، ولا يرى في قادتها شركاءً له في صياغة السياسات، إن ترامب 2025 ليس ترامب في 2016، وتقف وول ستريت اليوم على حافة واقع سياسي جديد، فيه الحسابات القديمة لم تعد صالحة، أما الاستثمار في المستقبل، فلم يعد يشبه المراهنة على الماضي.
رابط مختصر : https://roayahnews.com/?p=2194639