أشلاء البراءة.. وحشية الاحتلال تسلب «طفولة غزة»

محمد النحاس

"بعد الضربة الجوية، وفي فناء المشرحة حيث كانت عشرات الجثث مكفنة ومرصوصة على الأرض، ودّع الطفل خالد، بينما كان حافي القدمين ويبكي، والديه وأشقاءه بقبلة أخيرة على وجوههم".


مع بداية العدوان على غزة واجه الطفل خالد جودة، البالغ من العمر 9 سنوات، خسارة لا يمكن تصورها.

فقد قُتلت والدته ووالده وشقيقه الأكبر وشقيقته الرضيعة، بالإضافة إلى عشرات من أقاربه، جميعهم في غارة جوية إسرائيلية على منزلهم، وفق ما نقل تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في 17 أغسطس 2024 والذي نقل تفاصيل مروّعة عن قصة طفل في غزة فقد العشرات من أفراد عائلته، وهي حكاية تعكس الواقع المروّع لأطفال غزة في ظل العداون الإسرائيلي الوحشي على القطاع.

مأساة طفل

في الأشهر التي تلت استشهاد أفراد عائلته، حاول خالد أن يكون شجاعًا فقد كان يواسي شقيقه الأصغر تامر، الذي نجا من الضربة الجوية في 22 أكتوبر التي قتلت عائلتهم.

لكن تامر، البالغ من العمر 7 سنوات، تعرض لإصابات خطيرة بكسر في الظهر والساق وكان يعاني من ألم مستمر.

قال السيد فارس -وهو عم الطفل خالد- لـ “نيويورك تايمز” “كان دائمًا يُهدئ شقيقه عندما يبكي”. ويقول له: “ماما وبابا في الجنة، وسيحزنان إذا عرفا أننا نبكي بسببهم”.

الأطفال يدفعون الثمن

في أتون الليل، عندما تبدأ الغارات الجوية الإسرائيلية الوحشية على غزة، كان خالد يستيقظ مرتجفًا ويصرخ، وأحيانًا يركض إلى عمه ليطمأنه.

للأسف كانت حياة قصيرة ومرعبة للإخوة الصغار وانتهت عندما ضربت غارة جوية أخرى المنزل الذي كانوا يحتمون فيه في 9 يناير، ما أدى إلى مقتل خالد وتامر وابنة عمهما البالغة من العمر عامين، ندى، وثلاثة أقارب آخرين، قصتهم تجسد كيف أن الحرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ 10 أشهر على غزة قد دفع ثمنها الأطفال، الذين وجدوا أنفسهم أمام عدوان مروّع لا يرحم.

5055

العدوان المستمر منذ 10 أشهر هو واحد من أعنف حملات القصف الجوي الذي شهده العالم في هذا القرن على القطاع المكتظ بالسكان.

أطفال بلا طفولة

حسب خبراء القانون الدولي فإن إسرائيل -كقوة احتلال- لديها مسؤولية حماية المدنيين، حتى لو استغلتهم حماس بالطريقة يزعم الاحتلال أن الحركة الفلسطينية تفعلها.

12shamallah cwfk superJumbo v2

ويزعم الاحتلال الذي قتل خلال عدوانه نحو 40 ألف فلسطيني أكثرهم من النساء والأطفال أنه يتخذ “كل الاحتياطات الممكنة” لتقليل الأضرار على المدنيين، وينقل التقرير عن المتحدث باسم اليونيسف  جوناثان كريكس أن “غزة هي أخطر مكان في العالم للأطفال”.

الأطفال في غزة عانوا بطرق لا حصر لها، من بين عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قتلوا في الحرب، يُقدر أن 15.000 كانوا دون سن 18، وفقًا لمسؤولي الصحة في غزة. وتقدر الأمم المتحدة أن ما لا يقل عن 19.000 طفل آخرين قد أصبحوا أيتامًا وجرى تهجير ما يقرب من مليون طفل، وفقًا لمنظمة اليونيسف، وكالة الأطفال التابعة للأمم المتحدة.

ظروف مروعة

معظم الأطفال يعيشون في منازل مكتظة حيث تحتمي عدة عائلات معًا، أو في خيام مؤقتة يمكن أن تشعر وكأنها أفران في حرارة الصيف، والتي تفتقر إلى المياه الجارية والصرف الصحي، الآلاف يعانون من سوء التغذية الحاد وهم معرضون لخطر الموت جوعًا.

ودعت الأمم المتحدة يوم الجمعة إلى وقف إطلاق نار لمدة أسبوع في غزة للسماح بالتطعيمات لمنع تفشي شلل الأطفال، قائلة إن العديد من الأطفال كانوا في خطر.

وفي نفس اليوم، جرى تأكيد أول حالة إصابة بشلل الأطفال في القطاع منذ سنوات من قبل وزارة الصحة في غزة.

الخوف سيد الموقف

عندما زار عن المتحدث باسم اليونيسف جوناثان كريكس غزة قبل بضعة أشهر، قال إنه نادرًا ما رأى الأطفال يلعبون أو يضحكون، بل كان يراهم يساعدون عائلاتهم، يحملون أباريق الماء من محطات التعبئة، يحاولون العثور على الطعام، ويساعدون في نقل القليل من ممتلكاتهم مع حدوث التهجير، كما رأى ولدًا في الشارع يبدو أنه لم يتجاوز 5 سنوات، يدفع كرسيًا متحركًا وعلى مقعده جركانين مملوءين بالماء، وكانت مقابض الكرسي المتحرك أعلى من رأس الصبي.

452185178 690

وكتبت االمتحدثة باسم الوكالة الرئيسية للأمم المتحدة التي تساعد الفلسطينيين، الأونروا، لويز واتريدج: “لا توجد طفولة في غزة.. سوء تغذية، إرهاق، النوم بين الأنقاض أو تحت أغطية بلاستيكية، نفس الملابس لمدة 9 أشهر. التعليم استُبدل بالخوف والخسارة والحسرة والترقب”.

محاولات يائسة

في خضم العدوان، ذهب الآباء إلى أمور غير متوقعة في محاولة يائسة لحماية أطفالهم أو على الأقل التعرف عليهم بعد مقتلهم، فقد كانوا يكتبون أسماء أطفالهم مباشرة على جلودهم لتحديدهم إذا ما فُقدوا أو تيتموا أو قُتلوا.

وفي المشارح، يتم تقطيع الأكفان إلى قطع أصغر لتغليف الضحايا الأصغر سنًا، وفي بعض الأحيان، يتم لف جثث الأطفال في نفس الكفن مع والديهم، لدفنهم على صدر والدتهم أو والدهم.

بعض الآباء يقولون بصوت خافت إنه إذا قُتل طفلهم، فإنهم يأملون على الأقل أن يموتوا “قطعة واحدة” أي لا يتحولوا إلى أشلاء وأن يكون لديهم من يدفنهم.

عائلة الطفل خالد

في الأسابيع الأولى من الصراع، بدأت العائلات في التخطيط للأسوأ، أخبر والد خالد أقاربه أنه إذا قُتل أي منهم، فإن الناجين يجب أن يحافظوا على حماية وتعليم الأطفال، كما قال السيد فارس لنيويورك تايمز.

لم يمر وقت طويل بعد ذلك، في 22 أكتوبر، حتى دمرت غارة جوية إسرائيلية مبنيين كان يسكنهما أفراد عائلة خالد في بلدة دير البلح وسط غزة والتي أدت إلى مقتل العشرات من أفراد العائلة.

نجا الطفلين خالد وتامر من أفراد أسرتهم، أما ندى، ابنة عمهما البالغة من العمر عامين، كانت الوحيدة التي نجت من تلك الضربة الأولى من أسرتها.

ماذا بعد؟

بعد الضربة الجوية، وفي فناء المشرحة حيث كانت عشرات الجثث مكفنة ومرصوصة على الأرض، ودّع الطفل خالد بينما كان حافي القدمين ويبكي والديه وأشقاءه بقبلة أخيرة على وجوههم.

وقُتل ما مجموعه 68 فردًا من عائلة خالد في ذلك اليوم أثناء نومهم في أسرتهم، ودُفنوا معًا، جنبًا إلى جنب، في قبر جماعي.

لمدة شهر تقريبًا بعد مقتل والديهم، بقي خالد وتامر مع خالهما، السيد فارس، في مبنى آخر للعائلة في دير البلح. كان خالد وتامر وندى يخرجون أحيانًا للعب في الشارع المغطى بالأنقاض.

هجوم جديد

قال السيد فارس: “إنهم أطفال وكانوا يحاولون التمسك بطفولتهم”، مضيفًا، “كانوا يلعبون في الخارج في بعض فترات الهدوء،ولكن بعد ذلك كانت الغارات الجوية ترسلهم غالبًا إلى الداخل وهم يصرخون”. وقال عن خالد: “كان يأتي بسرعة ويختبئ بالقرب مني”.

وفي 9 يناير، انتهت حياة خالد القصيرة للغاية، حوالي الساعة 2 صباحًا، بينما كانت العائلة نائمة، ضربت غارة جوية إسرائيلية المنزل الذي كانوا يحتمون فيه، وفقًا للسيد فارس وأحد أقاربهم قُتل خالد وتامر وندى، بالإضافة إلى اثنين من أعمامهم وجدهم ليحلقوا بمن سبقوهم من أفراد العائلة.

وُجدت جثة الجد، الذي عاد للعيش معهم مؤخرًا، في الشارع فقد نجا من الضربة الأولى وخرج حاملاً جثة ندى لكن ضربة أخرى الرجل الطاعن في السن.

أسئلة بلا إجابات

سألت صحيفة نيويورك تايمز الجيش الإسرائيلي عن أسباب استهداف هذه العائلة، لكنه لم يقدم بطبيعة الحال أي جواب.

وقال السيد فارس إن عائلته لم تكن مرتبطة بأي من الجماعات المسلحة الفلسطينية التي تقول إسرائيل إنها تستهدفها في الحرب على غزة.

مأساة الطفل خالد وعائلته ليست سوى قصة واحدة وسط عشرات الآلاف من القصص الأخرى، وفي ذات التوقيت تواصل آلة القتل الإسرائيلية عدوانها الوحشي على الأبرياء، ويظل السؤال مطروحًا: متى تنتهي الحرب؟ وهل سيدفع المسؤولون عنها الثمن؟

ربما يعجبك أيضا