«أصبحتُ أنتَ».. قراءة في رواية أحلام مستغانمي

رؤية

مهما تغيرت الأماكن ومهما تبدلت الشخصيات لن ننسى أبدا من تركوا في حياتنا بصمة بارزة، فماضينا جميل بجمال من عاشوا فيه.


كتبت  – الدكتورة  عقيلة دبيشي

كاتبة وباحثة

بينما أنت جالس في شرفة منزلك ترتشف فنجانا من القهوة،  يأتيك “زائر المساء” الحنين حيث السعادة والألم والشجون والحزن،  معهم كثير من المشاعر المختلطة التي تدغدغك، فقط لأنك ذهبت في رحلة للزمن البعيد.

فنجانا تلو الآخر، ولا تزال تتحدث لنفسك عن الماضي حيث الأمان النفسي والراحة والاطمئنان بالعيش في الأيام الخوالي، مع أناس لن يتكرروا ولن يعودوا، فقط لأنهم أصحاب قلوب بيضاء مليئة بالحب والعطاء.

كانت الطيبة عنوانا لمن تعلقنا بهم ، ولمن كانوا يمتلكون تفاصيل لا يمتلكها آخرين، مهما تغيرت الأماكن وتبدلت الشخصيات لن ننسى أبدا من تركوا في حياتنا بصمة بارزة، فهذا ماضينا جميل بجمال من عاشوا فيه وساطع بنقاء أرواحهم التي كانت في القرب منها راحة.

عزيزي القارئ.. لن أتركك وحدك تقلب في دفاتر الماضي، تطوي صفحاته واحدة تلو الأخرى، لكن أهديك “أًصبحت أنت” واحدة من أروع ما كتبت الروائية الجزائرية «أحلام مستغانمي» فيها خطفت أضواء الإبداع ، وذهبت لتسرد سيرتها وحنينها للماضي، رحلة ممتعة ودافئة لسيرتها الشخصية، وكيف كانت مرتبطة بأسرتها.

4444

العنوان والغلاف الأمامي والخلفي:

جاءت الرواية في طباعة أنيقة، وغلاف مصممٌ بعناية تزيّنه صورة مستغانمي على الغلاف الأمامي، وصورة والدها محمد، على الغلاف الخلفي، مع استشهاد (على الغلاف الخلفي كذلك) بكلمات الرئيس الجزائري أحمد بن بلة (1916 ــ 2012) الذي مدح مستغانمي كعروبية و”كشمسٍ جزائرية أضاءت الأدب العربي ورفعت بإنتاجها الأدب الجزائري إلى قامة تليق بتاريخ نضالها”.

بدءًا من اختيار العنوان وتقديم الكتاب، يظهر تأثر الكاتبة بوالدها وهي تهديه الكتاب بحزن بالغ: “ما جدوى ما أكتب ما دام ليس في المقابر مكتباتٌ ليقرأني أبي”. في الوقت نفسه، هي تهدي والدتها الكتاب على شكل صراع وإن كان خفيًّا: “أمي، أهديك هذا الكتاب، مطمئنةً أنكِ لن تقرئيه، ولن تحاسبيني عما جاء فيه، اعتبريه هدية متأخرة من أبي، فلا تواصلي معاتبته (هناك). برغم كل شيء، لقد أحبّك…”.

أجزاء الرواية:

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، كل جزءٍ يأتي على فصول عدة. تروي مستغانمي حياتها على طريقتها. تحاول الغوص أكثر في عالمها الداخلي، فتحكي في الفصل الأوّل من الجزء الأول: “بعدك أصبحتُ أنت. أعدت اقتراف كل حماقاتك، خسرت بسخاء، وبسخاءٍ تهكمتُ على خساراتي. أكرمت أعدائي لأنّ لا قصاص أكبر من الكرم. أحببت كما لو كنتُ أنت، كذبت لأختلق لمواعيدي العاطفية ذرائع وهمية كما فعلت”. تصلح هذه الجمل لنشرها كصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إنّها أقرب إلى الحكم منها إلى نصّ أدبي بحت. لكن مستغانمي نجحت – منذ روايتها الأولى– في تكوين تلك الصورة حول ذاتها بأنها تكتب هكذا. فمن هنا يخلق هذا النص نوعًا من الارتباط مع “جمهور” يحب هذا النوع من الكتابة.

تتناول التاريخ الجزائري المليء بالحكايات والأحداث وتربطها بحياتها الخاصة: “حدث ذلك من قبل، في زمن الأمير عبد القادر (الأمير عبد القادر الجزائري)، الذي كان منذ شبابه يسافر إلى الحج، متبوعًا بقافلةٍ محملة بمكتبته، ولا يقصد أرض المعركة إلا مصحوبًا بكتبه، وحين أرغم على الهجرة، حمل مكتبته بحرًا وبرًّا من الجزائر إلى فرنسا ومن فرنسا إلى الشام.. لا أدري كيف استطعتُ إقناع جدتي باستقبال ثمانية مجلدات ما كان البيت ولا الظرف مهيأين لاستقبالها في زمن الأوبئة والمجاعة. ربما تقبّلت الأمر لأجلك، فقد كنت كل ما استطاعت إنقاذه من براثن الحرب والأمراض”.

في الجزء الثاني، تسير الكاتبة الجزائرية ذات المسير، وتبدأ بالفصل الأول مازجةً بين التاريخ والشخصي على عادتها: “كان التاريخ جارنا المهيب، بيننا وبينه مسافة رصيف، لكنني لم أعِ ذلك إلا عندما أصبحت أشاهد حيّنا في نشرات الأخبار المسائية”. وتربط بين الأحداث التي عصفت بالجزائر في مواجهة المحتل الفرنسي، ولا تنسى أن تورد شخصياتٍ ذات ثقلٍ ملحمي من نوع الثائرة الجزائرية المعروفة جميلة بوحيرد، فقالت عنها: “فقد صنعت صبية جزائرية تدعى جميلة بوحيرد الحدث، وهي تدخل المقهى بأناقة أوروبية وتترك حقيبتها تحت الطاولة، فيسقط إثرها روّاد المقهى بين موتى وجرحى”، في إشارة إلى عملية مقهى Milk bar الشهير الواقع في الجزائر العاصمة. ولا تنسى أن تمزج كل شيء، بتعليقاتها ذات البعد الشخصي: “في عجلة رحيلهم، تمنّى الفرنسيون لو أخذوا معهم موتاهم، أو حتى أسماء قتلاهم المحفورة على النصب التذكارية، فقد كان لهم إحساس بأن الحجر أيضًا سيتنكر لهم”.

أسلوبًا، تحاول “أحلام مستغانمي” استنساخ تجربة “ذاكرة الجسد”، فتستخدم “أقوال مشهورة” لكتابٍ معروفين لتجعل ما تكتبه قريبًا من القرّاء. تأخذ من أسماء معروفة، غربية وعربية مثل فولتير، دوستويفسكي، وغسان كنفاني، ومريد البرغوثي، ورسول حمزاتوف، وأدونيس، وناظم حكمت، ومالك حداد… تستخدم هذه الأقوال بمثابة “قواطع” بين ما تكتبه وكنوعٍ من العناوين الداخلية لما تكتبه. لكن في رواية «أصبحتُ أنت»، نجد ما ابتعدت عنه الكاتبة الجزائرية في أعمالها السابقة، إذ نعثر على قصص قصيرة للغاية مدموجة داخل نصٍ مسبوك بجمالية خاصة يستحق القراءة بنظر البعض، فيما قد يراه آخرون ثقيلاً بدون أي تقنيات كتابية.

بعد الفصل الأوّل، يغدو الكتاب مكررًا معادًا، فيصبح مجرد سرد لأحداث تاريخية مع بعض التعليقات ذات البعد الحِكمي الطفولي.

قراءة في ثنايا الرواية

تمثل النصوص الإبداعية جانبا من حياة صاحبها وتعكس رؤيته للمعطيات الواقعية وما يعاينه في عصره من حركة محتدمة تلقي بتأثيرها العميق على الوعي، وتساهم في نضج الإدراك بتركيبة بيئته الاجتماعية والسياسية والثقافية. غير أن ما يتم تقديمه من خلال الأعمال الأدبية قد لا يكشف النقاب عن كل شيء، لذلك فإن البحث عن صورة الكاتب سيكون مستمرا خارج مضامين إصداراته. ومن هنا تحظى الحوارات المنشورة مع المبدعين باهتمام المتلقي، لأنها تفسح المجال المعرفة وجه آخر من تكوينهم المعرفي وحيثيات المكابدات الناجمة عن الاصطدام المضني بالأنساق التقليدية، وما يمكن أن يكلف القفز فوق الأسيجة من الأثمان الباهظة.

إن تغطية المحطات الإبداعية والتحديات الحياتية تتخذ بعدا أوسع في المواد السيرية بشقيها الذاتي والغيري. إذ ينشر المتكلم أوراقه على حبل السرد محددا ما يناسب السياق من الضمائر. وفي هذا الإطار أرادت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي الإيحاء بما ينبسط في سيرتها من عتبة العنوان “أصبحت أنت”، إذ يكون أفق التوقع مستنفرا لرصد محتويات خطاب ثيمته هي رؤية الكاتبة لحياتها الشخصية وللمرحلة التي عاصرتها في آن واحد.

صورة الأب وما يتبادر إلى الذهن بمجرد مقابلة تلك العبارة المكونة لعنوان الكتاب الصادر عن دار “هاشيت أنطوان” من الجملة الفعلية المضمرة لدلالة الصيرورة، هو أن حياة الكاتبة كانت حافلة بالمواقف المفصلية. وعلى غير ما هو سائد في المؤلفات السيرية، إذ تحتل ملفوظات حياتي” أو “السنون” أو “ذكرياتي” موقع العنوان، فإن مؤلفة “ذاكرة الجسد” تثبت على الغلاف مفردة لا تخلو من الرغبة في كسر التقليد. كما أن العلامة التجنيسية تبدو مراوغة سيرة روائية، كأن الغرض من ذلك هو التحرك بالرشاقة على أرضية التخييل مع أن أحلام مستغانمي لا تتوانى عن التوثيق للأحداث التي تسردها بالتاريخ والتفصيل في ذكر المشاركين في تشكيل المصائر.

تتشابك سيرة الكاتبة مع الوقائع الفارقة التي عاشتها الجزائر إبان عهد الاستقلال، ومن المعلوم أن حركات التحرر الوطني قد شهدت مرحلة العنفوان عقب الحرب العالمية الثانية. وكانت الجزائر ملهمة بنضالها البطولي للشعوب المقهورة، وسخية بتضحياتها لدحر الاستعمار الجاثم على ترابها. إذن فمن الطبيعي أن تستعيد مستغانمي مشاهد من صميم الواقع الثوري لأنها واكبت الآمال الفتية التي لولاها لما استجاب القدر لإرادة الشعب، كما طالتها تبعات أخطاء كبيرة، باتت عرفا متجذرا في المشاريع الثورية، إلى أن أصبحت الأخطاء الكبيرة صنوا لثورات كبرى.

تترأس بدايات كل فصل من المادة السيرية جملة، تستشف منها ما تبوح به الراوية بالضمير الأول في الحزمة السردية. وما إن تقص الكاتبة شريط السرد حتى تستحضر الأب محيلة إلى الشخصية التي كانت تتقمصها إذ تتخيل وهي بصدد استنهاض الذاكرة أنها قد انساقت إلى محاكاة “شهرزاد” عندما كانت تروي مساء تفاصيل يومها.

لم يعد هناك ما هو طي الكتمان بين الاثنين الأب وابنته سوى ما كتبته الابنة وذلك لحاجز اللغة لأن الأب كان مقيمًا في لغة المحتل الفرنسية. تعود أحلام إلى لحظة رحيل الأب مسترسلة بأسلوب مشحون بالعاطفة في الإبانة عن قساوة الغياب. والمؤثر في هذا الإطار هو اعتراف الكاتبة بأنها تعمدت إخفاء كتاباتها عن الأب حين كان الأخير على قيد الحياة والآن في غيابه ما عاد لديها أمل في أن يقرأ ما ينشر لها، وهذا ما يعمق الشعور بالأسى هنا تقع على قولة لامارتين: “شخص واحد ينقصك وإذا بالدنيا مقفرة لا أحد فيها”، وعلى منوال ذلك تكتب مستغانمي مخاطبة الأب: “كل كتاباتي تنقصها دهشتك. كل نجاحاتي ينقصها زهوك”، وتكشف في ذات السياق عن أواصر بين بطل روايتها “ذاكرة الجسد والأب الغائب، معلنة أن كل الدموع والأحزان على خالد وعلى قسنطينة كانت الرسالة والغاية منها إبلاغه بما حل بعده.

تعلن الكاتبة أنها تمنت لو تصادف بين من بادلتهم الحب شخصا تمكن من تصحيح الأخطاء في رسائلها كما كان يفعل الأب، إذ لم يتغافل عن تصحيح أخطاء إملائية في رسائلها وهو راقد في المستشفى بباريس. ومن ثم يعيد إرسالها إلى الابنة. إذن اليتم برأي أحلام هو أن تخطئ ولا يصحح لك أحد. وفي هذا المفصل تشير الكاتبة إلى الخوف من الكتابة وإلى أنها توجست في البداية من أن الكاتب تشي به كتاباته إلى أن تتأكد بأن الحقيقة تكمن فيما يمحى لا فيما يكتب.

لا يوازي تغلغل صوت الكاتبة في النص سوى حضور طيف الأب وذلك ما يستدل به من العنوان فتسلل أسماء مشاهير الأدب أمثال فيكتور هيغو ولامارتين وفولتير إلى أجواء السيرة يكون عبر ذكرى محمد شريف المستغانمي لا ينفصل الزمن الذاتي في المروية السيرية عن الأحداث التي طبعت العهد الجديد في الجزائر وبالتالي يتقاطع الزمن الذاتي مع الأزمنة المجتمعية، وأحد أسباب هذا التشابك الزمني يعود إلى انخراط الأب في الحركة الثورية، كما أن بعض اللحظات في حياة أحلام كانت متزامنة مع تحولات مؤثرة على المستوى السياسي.

شاء القدر أن تزور الراوية لأول مرة مستشفى مايو العسكري حيث يعالج الأب في نفس الوقت مع الانقلاب على أحمد بن بلة، وهكذا ينتقل الأخير من سدة الرئاسة إلى السجن، غير أنه هذه المرة يكون سجينا في عهدة أصدقاء الدرب ويعني ذلك أن الثورة بدأت تأكل أبناءها، وما أنقذ الأب من هذه الموجة التي أودت بحياة عدد من رفاقه هو وجوده في المستشفى بعدما افترسه القلق وأثقلت الكوابيس حياته إلى أن تبدت أعراض الجنون جراء محاولة اغتياله بيد جزائرية.

وعلى الرغم من محاصرة الأب في المستشفى وانقطاعه عن العالم، فإن أحلام لا تنقطع عن زيارته مستعيدة تفاصيل الأيام التي كان يمضيها محمد شريف وهو يصارع شبح الانهيار. ويتكتم على حقيقة جرحه بالتظاهر بأن ما يعانيه هو نتيجة الصدمة العاطفية. تزداد في العزلة قيمة أشياء تفتح كوة مع العالم وهذا ما يفسر توق الأب المتابعة الجرائد وانكبابة على الكتابة في دفترين، وبذلك تخف وطأة أشباح الوحدة ويتحول الحصار إلى فرصة للكتابة، ومستنده لهذا الاختيار هو أن معظم الأعمال العظيمة كتب في السجن. كما أن مفعول الكتابة أجدى من الأدوية التي يتعاطاها المريض، هنا يذكره الطبيب الفرنسي بكلام جورج باطاي الذي صرح بأنه يكتب تفاديا للانزلاق نحو الجنون.

إن أحلام تجوس في خفايا شخصية الأب وهو ليس نسخة أحادية بل تراه في صورة المناضل الذي كان يجمع الأموال الدعم الثورة تارة، ويمتهن التدريس في تونس تارة أخرى، ومن ثم يتفرغ للاهتمام بوضع المزارعين ومشروع التسيير الذاتي في عهد الاستقلال، حيث كانت للبعد الثقافي منزلة في حياة الأب وهو يغامر بتكوين مكتبة كبيرة. ويتصاعد الحس الوجداني في المفصل الذي تتناول فيه الابنة مكتبة الأب وما ستؤول إليه بعد مغادرتها إلى باريس ذاكرة في ذات المنحى أن العلاقة بالكتب تضاهي العلاقة العاطفية، فقد تقرأ عناوين كثيرة لكن لا يستهويك إلا كتاب واحد وتغرم أحلام برواية “زوربا” التي تجدها في مكتبة الأب بين لفيف من الكتب الفرنسية.

لا شك أن ما يضفي قيمة كبيرة على سيرة المبدع هو المفاصل التي يسرد فيها بداية مرحلة التكوين، لأن المستقبل الابداعي هو امتداد للنواة الأولى من العناوين التي يتعرف من خلالها على عوالم موازية ويتم القبض على مفاتيح لفضاء مغر بالاكتشاف تتوارد في طيات هذا النص السيري خطابات رديفة بصيغة المقتبسات لكبار الأدباء العرب والأجانب، الأمر الذي يؤكد وجود خلفية معرفية زاخرة في شخصية الكاتبة. لكن لا تفرد أحلام مساحة للحديث عن العناوين والكتب التي تغذت منها الذائقة الإبداعية وانشات حسها المعرفي على غرار ما تلاحظ ذلك لدى “فرانسواز ساجان” أو “لطفية الدليمي” أو “سحر خليفة”. جل ما يسجل في هذه الحلقة ليس أكثر من تلميح إلى أحد أصدقاء الأب الذي أقنعها بأن تغدو روائية لا يشق على المتلقي إدراك أن أحلام تحن إلى بداياتها الشعرية وهي كانت في التاسعة عشرة من العمر عندما نشرت مجموعتها الشعرية الأولى “على مرفأ الأيام”، وقد تكون هذه العودة إلى الشعر محاولة للتماهي أكثر مع شخصية الأب لأنه كان شغوفًا بهذا الفن.

وفقت صاحبة “الأسود يليق بك” في استجلاء بداية انطلاقتها الشعرية بايجاد بنية متجاورة بينها وبين الشاعر الداغستاني “رسول حمزاتوف” فكلاهما كان متأرجحًا بين الولاء للشعر والانحياز للأم.

ويستمد النص عناصر التشويق من حيويته ومخالفته لتوقعات القارئ والمألوف من السيرة الذاتية أن تدور حول التجارب والمشاهدات المسرودة من زاوية “أنا” الفاعلة في الحدث، ولا يخرج ما كتبته أحلام مستغانمي عن هذا الخط غير أن ما يكسب مرويتها السيرية خصوصية ونغمة غير تقليدية.

هو التمكن من استبطان روح العصر عبر رموزه وأيقوناته.

وحين ترتد بالذاكرة إلى أول عيد للاستقلال تدير العدسة نحو ثلاث شخصيات كانت بصماتها ماثلة على خارطة القرن العشرين؛ جيفارا بثوريته المتجددة وبن بلة بتلويحة النصر وعبد الحليم حافظ بصوته الخلاب. وقد احتفل هؤلاء مع الشعب. وتؤكد أحلام على هذا التفرد الزمنى لأنه لم يحدث أن اجتمع كبار بهذا العدد في زمن واحد فالعالم قد دخل إلى حالة حب جماعية لأيقونات الحرية والثورة، لذلك كانت العاطفة متأججة بمزاج ثوري.

وتعتقد أن الأب قد وقع في غرام ناتاليا لأنه قد وجد فيها صورة للبطلة لیبا رادتيش مثلما أحب العرب كل جزائرية كما لو كانت نسخة لجميلة بوحيرد. ويتكرر هذا النفس العاطفي في تجربتها الشخصية فأحبت المدرس المصري لأن ملامحه تجمع بين صورة عبد الحليم وعبد الناصر وما إن ينتهي الزمن المصري حتى تبدأ الحقبة العراقية مع مجيء أستاذ الرياضيات، والطريف أنه حاول مغازلة أحلام بعدما فقد الأمل في صديقتها. طبعا هذا يقودنا إلى دور الأنموذج المثالي في التوجيه الذهني والنفسي للأجيال.

وما يشد الانتباه أكثر أن الكاتبة في متابعتها لمعاناة الجزائر مع الاستعمار والتنكيل بالشعب لا تتجاهل مواقف فرنسيين كانوا مؤازرين الحرية الجزائر ودفعوا ثمنا باهظا، ومنهم موريس أودان الذي لفظ أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب، كما تم التمثيل بجثة “هنري مايو” لأنه هرب بالأسلحة إلى الثوار. وأعدم “فيرناند إيفتون”، ومن جانبه نشر سارتر “جميعنا قتلة”، وهم من الصفوة المناهضة للإرادة الاستعمارية.

ولا تصرف أحلام مستغانمي النظر عن المظاهر المخيبة للأمل في مرحلة الاستقلال، ولعل ما يشير إلى الملمح النقدي هو كلامها الصريح بأنها انتظرت ثلاثة عقود لتصليح مصعد المبنى الذي أقامت فيه فإذا بها تتفاجأ بأن جميلة بوحيرد تسكن أيضًا في الطابق الحادي عشر في أحد المباني ومصعدها معطل.

قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا النص سيرة لحياة أحلام مستغانمي غير أن ما ينجلي عنه الغموض الذي يبثه العنوان أن الكاتبة تروي مسيرة الأب وهي تعلن أنها قد حذت حذو الغائب، وبهذا تنحو حركة الكتابة منحى دائريًّا.

محاور الرواية:

“أصبحت أنت” هي سيرة روائية للكاتبة الجزائرية الكبيرة (أحلام مستغانمي)، وفيها تسرد بصيغةٍ روائية جذابة، مقتطفات من سيرتها ومذكراتها، تكشف أحلام في مذكراتها “أصبحت أنت” سنوات تفتحها واكتشافها حب المراهقة البريء، بداياتها مع الشعر وبرنامجها الإذاعي الذي أطلقها في الجزائر، علاقتها بوالدها المناضل الجزائري، وبوالدتها، وباللغة العربية التي كانت من أولى دفعات الشباب الجزائري الذي اعتمدها وتخرّج من جامعاتها، وعيها على القضايا الوطنية في الجزائر الفتية التي حققت استقلالها وما تلا ذلك من قضايا نشوة الاستقلال.

ولأن معظم الرواية تخاطب فيها والدها تحكي له ما حدث بعد رحيله، فإنه يمكن اختزال الرواية بالمثل العربي: (كلّ فتاةٍ بأبيها معجبة)، إذ إن مجمل الرواية تداعياتٍ لذكريات الكاتبة مع أبيها.

ويمكن تقسيم الرواية إلى عدة محاور: 

محور الطفولة:

وتبدأ سرد روايتها أثناء طفولتها ونشأتها في الجزائر، حيث تعيش تحت ظلال علاقات عائلية معقدة وتجارب حياة صعبة.

تكشف أحلام في الكتاب عن مدى ارتباطها بوالدها وأثره عليها والذي ظهر من بداية الكتاب وتشعر أن الكتاب هو رثاء لوالدها الذي عرف سجون الاحتلال الفرنسي عام 1945م و حياته في تونس، و عودته إلى الجزائر عشيّة عيد الاستقلال، ثم انهياره العصبي ودخوله المستشفى على إثر محاولة اغتياله، بعد أن دخلت الجزائر مرحلة تصفية الحسابات بين رفقاء السلاح، حتى رحيله عام 1992م وتوضح سيرة والدها الشاعر المثقف التقدمي. الذي منعه الاستعمار الفرنسي من تعلم اللغة العربية فأدخل ابنته مدرسة  عائشة الثانوية والتي كانت أول مدرسة تدرس اللغة العربية في الجزائر لتثأر له ابنته وكان مصدر إلهامها وقد دعمها في أول أمسية شعرية لها ومن خلال سيرتها نعرف أن هناك أماكن في العاصمة الجزائرية لفتت إليها وجعلت لتلك الاماكن ذاكرة وتاريخ وقيمة معنوية مثل حديقة قصر الحكومة التي كانت تلقي نظرة على أزهارها، ومصحة مايو بباب الواد التي رقد فيها والدها، وثانوية عائشة التي تخرجت منها، وسيرتها تؤرخ تاريخ الجزائر فهنا نلتقي مع بن بله، وبومدين، وجميلة بوحيرد، وهنري مايو، وهنري علاق، وفرانس فانون، وغيرهم من المناضلين وأصحاب المبادئ، الذين ساهموا في صناعة قدر الجزائر.

محور التحولات الشخصية:

أحلام تواجه تحولات كبيرة في حياتها، تبدأ بالبحث عن هويتها ومعنى وجودها. ومثل هذه التحولات كانت أن لجارها ببغاء حفظ اسمها فعندما كانت في زيارة لجارها ردد الببغاء اسمها فتجمع حوله الكبار والصغار ليردد أسماءهم وكلما زادوا إلحاحًا زاد الببغاء عنادا فكانت الصدمة أن الببغاء بعد يومين انتحر بغرس مخالبه في عنقه، وحزنت احلام حزناً شديداً لأنها اعتقدت أنها السبب، وحدث أيضًا أن جاءها خالها من الصحراء بغزالة صغيرة أطلقها في الحديقة كانت سعيدة معهم  فكانوا يلاعبونها ولكن حاجتها للحرية تزداد يومًا بعد يوم إلى أن قفزت ذات يوم من مكان مرتفع الي الشارع فكسرت قوائمها ولم تعش بعدها إلا أيام معدودة، فتعلمت احلام أن الحرية تحتاج إلى خفة لا يمتلكها الإنسان، وتعلمت أيضًا أنه لا يمكن تغيير فطرة الكائنات الحية.

محور البحث عن الحب:

تعيش احلام تجارب عاطفية معقدة، تتناول الرواية مفهوم الحب وتأثيره على تكوين شخصيتها.

حيث كان حبها الأول لمدرس مصري يدرسهم اللغة العربية في المدرسة وكان أيضًا يحبها، وكأنها عاشت معه فيلم معبودة الجماهير (شادية وعبدالحليم حافظ)، وكانت أم كلثوم رفيقتها في سهرها،  إلا أن المدرس ترك المدرسة وسافر، مما أحزنها كثيرًا وأثر عليها. وكان لها مدرس عراقي يدرسهم الرياضيات وقع في حب تلميذة زميلة لها فذهب لخطبتها فرفض والدها ومنعها من الذهاب إلى المدرسة فكانت احلام توصل لها الرسائل منه، ولكنه وقع في حبها، وكان ينوي خطبتها، ولكن تركت المدرسة قبل ذلك ولا تدري كيف انتهت حكاية العاشق الولهان.

محور التحديات الاجتماعية: تظهر كشخصية نسائية تواجه التحديات الاجتماعية وتسعى لتحقيق حريتها في مجتمع تتغير قيمه.

تظهر أحلام كشخصية نسائية تواجه التحديات الاجتماعية وتسعى لتحقيق حريتها في مجتمع تتغير قيمه. ومن التحديات أن كان لها أستاذ له برنامج إذاعي فاطلعت عليه شعرها فطلب منها الحضور إلى البرنامج، وعرضوا عليها أن تقدم برنامج شعريًّا، وعرضت الأمر على والدها فأقنعته وقال لها (أنا أثق بك) ظلت تلك الكلمات الثلاث ترافقها حتى بعد رحيل والدها.

أما أمها فقد استبدلت بالكلمات الثلاث ثلاثة أحرف: «عيب»، وكان تفكير أحلام أن (عيب) لا تعني نظرتي إلى نفسي، بل نظرة الآخرين لي. وهي ما أكدته بقولها: “كلمة رافقتني إلى ما بعد زواجي”. فالعمل بالإذاعة عيب، ووضع قليل من الزينة قبل الزواج عيب والزواج بمن تختارين عيب.

واكتشفت أحلام أن الأنوثة ضعف، وخوف، وشبهة، وخطأ، وخطيئة، وأن الأنثى وحدها المسؤولة عن شرف العائلة، وأن حياتها في كل الأعمار تتحكم فيها ثلاثة أحرف: «عيب»، وهو حكم مختلف بالنظر إلى أنها على مدى عصور كانت تولد باسم من ثلاثة أحرف أخرى: «عار»، وبسبب هذا العار كانت تدفن حيةً فور ولادتها، حتى قبل أن تحمل اسمًا أو تقترف إثمًا.

ربما يعجبك أيضا