الصحافة الموجهة في إسرائيل.. يسرائيل هايوم ودعم نتنياهو

محمد عبد الدايم

كتب – محمد عبدالدايم

في أواخر مارس الماضي ظهر بحث جديد، بإعداد كل من جاي جروسمان الأستاذ بقسم العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا، ويوتام مارجليت بقسم العلوم السياسية بجامعة تل أبيب وأحد الباحثين البارزين بالمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وتامار ميتس أستاذ الشئون السياسية والدولية بجامعة كولومبيا، وجاء البحث بعنوان: “ملكية وسائل الإعلام كاستثمار سياسي، دراسة حالة يسرائيل هايوم”.

البحث الذي وصلت صفحاته إلى نحو 70 صفحة، ينهض بدراسة تأثير رجال الأعمال الأثرياء في الساحة السياسية عبر سيطرتهم على وسائل الإعلام، ومن خلال الصحيفة الإسرائيلية “يسرائيل هايوم” (إسرائيل اليوم) كعينة بحث.

ملكية الصحيفة

يسرائيل هايوم هي صحيفة عبرية إسرائيلية يومية مجانية، أي أنها تُوزع مجانًا في إسرائيل، ولها موقع إلكتروني، ظهرت للمرة الأولى في 30 يوليو 2007، على يد الزوج الأمريكي مريم وشيلدون أدلسون.

مريم أدلسون تحمل الجنسية الإسرائيلية -بحكم الميلاد في تل أبيب- والجنسية الأمريكية بعد زواجها من شيلدون أديلسون، رجل الأعمال الأمريكي المعروف بانتمائه للحزب الجمهوري الأمريكي، وأحد أهم المتبرعين للحزب، وقطب من أقطاب اقتصاد الكازينوهات في الولايات المتحدة، والذي صنفته مجلة فوربس كأحد أغنياء العالم، واشترك الزوجان في إصدار صحيفة يسرائيل هايوم وملكيتها، فيما تولت مريم منصب الناشر، وذلك إضافة إلى نشاط الزوجين في دعم إسرائيل علانية من خلال مؤسسات وجمعيات مثل “أديلسون فاونديشن” التي تعتبر واحدة من أكبر الجمعيات “الخيرية” الداعمة لإسرائيل في العالم.

ظهرت يسرائيل هايوم للنور حديثًا، مقارنة بصحف أخرى سبقتها، مثل يديعوت أحرونوت (آخر الأخبار) وهآرتس (الأرض/ الوطن)، ولكنها أصبحت مؤخرًا محط انتباه كبير في إسرائيل بعد اتهام نتنياهو رسميًّا بالفساد، فيما يتعلق باتفاقه مع أرنون (نوني) موزيس مالك صحيفة يديعوت أحرونوت، حيث وُجه الاتهام لنتنياهو بعد اشتباه وحدة التحقيق في الاحتيال التابعة للشرطة الإسرائيلية، وتركز الاتهام في أن نتنياهو قد اتفق موزيس مع نتنياهو على تلميع رئيس الوزراء وأسرته في صحيفته يديعوت أحرونوت، في مقابل تحرك بيبي لتحجيم توزيع صحيفة يسرائيل هايوم المنافسة، والتي تُوزع يوميًّا، وتلقى رواجًا خصوصًا لدى جمهور اليمين الإسرائيلي.

منذ صدورها في 2007 حققت يسرائيل هايوم أرقام توزيع كبيرة، ففي بداية صدورها كانت تحقق توزيعًا كسرت به سيطرة يديعوت أحرونوت التي كانت الصحيفة الأكثر توزيعًا في إسرائيل، ورغم أن صحيفة هاآرتس تعتبر واحدة من أهم المنصات الصحفية في إسرائيل؛ فإن جمهورها من الإسرائيليين اليساريين والليبراليين، استنادًا إلى توجهها، بخلاف يديعوت أحرونوت ويسرائيل هايوم اللتين يقبل عليهما الجمهور الإسرائيلي من أنصار اليمين.

منصة إعلامية تجارية توجيهية

من البداية، ظهرت يسرائيل هايوم كوسيلة إعلامية تجارية، تُوزع مجانًا، في مقابل تحقيق هامش ربح من نشر الإعلانات، ولكنها بمرور الوقت أصبحت بمثابة هدية مجانية ترويجية لصالح اليمين الإسرائيلي، ولصالح بنيامين نتنياهو تحديدًا، رغم تراجع توزيعها بشكل كبير، وبدأت الصحيفة تحقق خسائر كبيرة ابتداءً من 2010، حتى بدأت توزع بعض نسخها بمقابل، وقُدرت خسائر عائلة أديلسون من الصحيفة في عام 2020 بنحو مليار شيقل.

في هذا البحث الجديد يتتبع الثلاثي جروسمان ومارجليت وميتس كيف ساعدت يسرائيل هايوم بنيامين نتنياهو حزبه هاليكود في الفوز بأصوات الناخبين الإسرائيليين، حيث قدّر البحث أن تأثير يسرائيل هايوم على جمهور القراء ساهم في فوز هاليكود بنحو 2- 3 مقاعد أكثر من أحزاب يمينية أخرى، ما ساهم في تحسين صورة نتنياهو وموقعه أمام الناخبين من اليمين، بفضل السياسة الصحفية “الموجهة” لفصيل من القراء، مما دفع البروفيسور يوتام مارجليت للقول بأن “نتنياهو وحزبه مدينان -بشكل كبير- بسلطتهما لصحيفة يسرائيل هايوم”.

خلافًا لأوراق بحثية أخرى أجريت باستطلاع توجهات قراء بالولايات المتحدة مثلا؛ فإن هذا البحث قد نهض على دراسة أنماط التصويت وقوة الكتل الانتخابية، وفوق ذلك دراسة التأثير الإيجابي المباشر لسياسة الصحيفة وتوزيعها على حزب هاليكود دون غيره.

تأثير الصحيفة على الناخبين لصالح هاليكود كان واضحًا، رغم أن الصحيفة معروف توجهها اليميني، ومُعلن منذ بداية صدورها، وبالتالي فتحيزها لصالح اليمين أمر طبيعي ومفهوم، ومن الطبيعي أن تُحرك وسائل الإعلام المتحيزة جمهورها التي تنتهج أيدولوجيته، ولكن يُضاف إلى ذلك أن تجربة يسرائيل هايوم القائمة على التوزيع المجاني نجحت بشكل كبير في استقطاب شريحة كبيرة من جمهور القراء الذي لن يقبل عليها طواعية، أي أن هؤلاء لن يُقْدِموا على قراءة الصحيفة عبر دفع اشتراك أو شراء أعدادها طالما لا تمثل أيديولوجيتهم، أو تعكس توجههم، أو تُوائم ميولهم، ولكن في حالة انتشار صحيفة مجانية، تمكنت يسرائيل هايوم من الوصول إلى قواعد عريضة من القراء، وذلك بفضل ضخ استثمارات مالية هائلة من أسرة أديلسون اليهودية الأمريكية.

المال والسياسة في الإعلام

المسألة مرتبطة إذن بضخ أموال كبيرة لصالح توجه بعينه، فعلى سبيل المثال إذا استثمر رجل أعمال في منتج ما، بعد انتهاجه سياسة التوزيع المجاني لهذا المنتج، سعيًا لجذب الجمهور لشرائه بعد ذلك، وخسر استثماره هذا ملايين الدولارات في سنة واحدة، فإن الأمر هنا يتعلق بخسارة استثمار مالي كبير، لكنه بالقطع لا يؤثر على مسار سياسي ديمقراطي، لكن لأن الصحافة ليست مجرد استثمار مالي “عادي”؛ فإن هذا التدفق الكبير للأموال من أجل توزيع مجاني لصحيفة لابد أن يؤثر في جمهور القراء والناخبين؛ لأنه يقلل التنوع في الصحافة، ويقدم دعاية مكثفة “مغلفة” بغطاء صحفي يستند إلى تدفق رهيب للأموال، بصورة أكثر اختصارًا: استهدفت أموال آل أديلسون السيطرة على جمهور كبير من القراء الإسرائيليين، باجتذابهم عبر توزيع مجاني كثيف للصحيفة التي توجه قراؤها نحو معسكر يميني بعينه، وهذا يعني أن يسرائيل هايوم دأبت منذ صدورها على تقديم مساهمة سياسية، تشكلت في نوع من الدعاية الحزبية “المحظورة” وفقًا لقوانين الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية.

المثير هنا، أن أحد المشاركين في البحث، وهو يوتام مارجليت يعمل باحثًا في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وهو أحد المراكز البحثية المعروفة في إسرائيل، ويتلقى تمويلًا كبيرًا من أفراد بالولايات المتحدة؛ فالمعهد تأسس بدعم من الملياردير اليهودي الأمريكي برنارد ماركوس، المحسوب على الحزب الجمهوري الأمريكي، لكن تختلف سياسة صحيفة يسرائيل هايوم في أن تحركها لتوجيه القراء والناخبين بشكل مفرط وبأسلوب الإغراق الفكري الكثيف، على خلاف المعهد الإسرائيلي للديمقراطية الذي يبدو –ظاهريًّا- مركزًا مستقلًّا لبحوث السياسة الإسرائيلية والعلاقات الدولية، إضافة إلى اختلاف واضح بين الصحيفة والمركز، أن الأولى تخاطب الجمهور العادي، وتقدم له خدمة إعلامية مجانية، لا تجبره على دفع مقابل، أو بذل مجهود للوصول إلى المواد المنشورة.

هذا البحث يلقي الضوء على طبيعة العلاقات الفاسدة بين الساسة والصحفيين ورجال الأعمال، وهي علاقات كانت موجودة وستظل، خصوصًا مع استمرار سياسة الاحتكارات في وسائل الإعلام، فصحيفة يسرائيل هايوم -على سبيل المثال- سيطرت عام 2014 على موقع الأخبار الإسرائيلي معاريف nrg، وسبقها عام 2013 بالاستحواذ على مطبعة معاريف.

لم تقم يسرائيل هايوم فقط بتشجيع الناخبين اليمنيين على التصويت بكثافة في الانتخابات، وإعطاء أصواتهم لنتنياهو وهاليكود، لكن الصحيفة الممولة من رجل أعمال يهودي أمريكي استطاعت التأثير على سوق الإعلام في إسرائيل، وعلى شبكة القوى على الساحة السياسية، ومن أهم ما تقوم به هو دورها في صنع بروباجندا كبيرة لصالح نتنياهو، الذي يعتمد عليها في هجومه المستمر على وسائل الإعلام المعارضة، عبر استخدام منصة إعلامية لتوجيه رسائله السياسية، واستفادته من التغطية والدعم غير المحدود.

في المقابل عملت يسرائيل هايوم على تقويض سيطرة المؤسسة الأكبر يديعوت أحرونوت، التي كانت لوقت طويل وسيلة الإعلام الأكبر والمفضلة لليمين الإسرائيلي، واستفادت يسرائيل هايوم كثيرًا من تجربة يديعوت، التي لم تختلف في الفساد، خصوصًا إبان المناسبات السياسية، حيث تتحول الصحيفة إلى كُتيب كامل يركز على الحالة السياسية بأبعادها، ويوجه القارئ لتوجه بعينه، وفي غير المناسبات السياسية تصبح مجرد صحيفة عادية غير ناجحة، ولا تطمح في تقديم خدمة صحفية راقية للجمهور، لكن من السهل على ممولها أن يخسر مليار شيقل لإنجاح نتنياهو وحزبه، من خلال التوزيع المجاني، وخفض مقابل الإعلانات بشكل كبير لتدمير المنافس الأكبر يديعوت أحرونوت.

البحث يسلط الضوء على دور رجال الأعمال اليهود بالولايات المتحدة، الداعمين الكبار للحزب الجمهوري الأمريكي، والذين يمثلون لوبي يهودي يتحرك في أروقة الإدارة الأمريكية لدعم إسرائيل علنًا وفي السر، إلى جانب تقديم تمويل غير محدود لأطراف اليمين في السياسة الإسرائيلية.

ربما يعجبك أيضا