الصين.. حتمية تغيير السياسة الخارجية والتوجه نحو العالمية

يوسف بنده

رؤية

رفع الحزب الشيوعي الحاكم رسميًا، الرئيس الصيني شي جينبينج إلى مصاف أبرز زعيم للصين منذ عقود، ممهداً لتعزيز قبضته على السلطة ومتابعة سياسة خارجية قوية وتوسّع عسكري.

وبات شي جينبينج -الذي اُنتخب أميناً عاماً للحزب لولاية ثانية من 5 سنوات- في مرتبة مؤسس النظام ماو تسي تونج، بعد إدراج فكره السياسي في ميثاق الحزب، إضافة إلى مبادرته �الحزام والطريق� لمشاريع التنمية في العالم.

ويعلن الحزب اليوم اللجنة الدائمة الجديدة لمكتبه السياسي، وهي هيئة تضمّ 7 أعضاء وتقود الصين، بقيادة شي جينبينج الذي سيحتفظ بمنصبه أميناً عاماً للحزب، إضافة إلى رئاسة الجمهورية. وسيبقى في منصبه أيضاً رئيس الوزراء لي كيكيانج، لكن الأعضاء الخمسة الآخرين سيتخلّون عن مناصبهم، لبلوغهم سنّ التقاعد غير الرسمي، أي 68 سنة.

وقال شي جينبينج -لحوالى 2300 مندوب، مجتمعين منذ الأسبوع الماضي في مؤتمر عام للحزب يُعقد كل 5 سنوات في مقرّ البرلمان- إن لـ”الشعب والأمّة في الصين مستقبلاً عظيماً ومشرقاً”، مضيفاً: “كوننا نحيا في مثل هذه الحقبة العظيمة، إننا جميعاً أكثر ثقة وفخراً، ونشعر أيضاً بحمل ثقيل للمسؤولية علينا”.

أتى ذلك بعدما وافق المندوبون على إضافة أيديولوجية شي جينبينج في شأن “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعهد جديد”، على ميثاق الحزب، بحيث تشكّل “دليل عمل” لأضخم حزب في العالم يضمّ 89 مليون عضو.

كما أدرج الحزب مبادرة الرئيس الصيني “الحزام والطريق” لمشاريع التنمية في ميثاقه، متعهداً تنفيذها، وذلك في إشارة أخرى إلى اتساع نفوذ شي جينبينج وإلى أن مبادرته الطموحة المشابهة لـ”طريق الحرير”، ستستمر حتى بعد انتهاء ولايته الثانية عام 2022.

والخطة التي ذكرها الرئيس للمرة الأولى في كلمة ألقاها أمام طلاب في كازاخستان عام 2013، تُعدّ وسيلة تضطلع من خلالها الصين بدور أكبر على الساحة الدولية، من خلال تمويل وتشييد شبكات مواصلات وتجارة عالمية في أكثر من 60 دولة. وتعهد شي جينبينج تخصيص 124 بليون دولار لتمويل الخطة.

ويعتبر محللون أن ذلك يؤكد أيضاً تنامي اهتمام الحزب الشيوعي بالسياسة الخارجية، كما يعكس رغبة متزايدة لدى شي جينبينج (64 سنة) في اضطلاع بكين بدور قيادي عالمي.

حتمية تغيير السياسة

في خضم المخاض العسير الذي يعيشه العالم العربي، وفي مواجهة المقاربة الأميركية لها، تبدو الصين مقتنعة بأنها أمام الاختبار المصيري لسلبيات وتحديات أن تكون قوة اقتصادية عالمية. ويتسم الموقف الصيني في المرحلة الراهنة، كما عرف دائماً، بالتردد الحذر والحياد في الانخراط في الشأن الداخلي للدول، حتى وإن تعلق الأمر بالملفات الأكثر حساسية في سياساتها.

ويعزو الكثيرون أسباب التردد الصيني إلى معضلة متفاقمة في أروقة صنع القرار في بكين، وهي كيفية المواءمة بين ما تفرضه مصالح البلاد الاقتصادية والاستراتيجية المتنامية من جهة، والمبادئ المتجذرة في السياسة الخارجية، وعلى رأسها “مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد الأخرى” من جهة أخرى، وهو المبدأ الذي وضعه رئيس الحكومة الأسبق “شو إين لاي” ضمن مبادئه الخمسة للتعايش السلمي.

وللمرة الأولى، ترتفع أصوات عديدة تطالب بضرورة أن تلعب بكين دورا ضاغطا في رسم السياسات الداخلية للدول التي لها فيها مصالح استراتيجية، حتى وإن استدعى الأمر التلويح بالقوة العسكرية.

ويمكن القول: إن الترجمة العملية لهذه التوجهات، تجلت في مشاركة البحرية الصينية في عمليات حماية بضائعها من القرصنة في خليج عدن، والتي تعد أحد المؤشرات المهمة لتفسير الطموحات الصينية. فبوادر السياسة الجديدة التي تنحو الصين باتجاهها، يفسرها مدير الاستراتيجيات في “مركز آسيا” فرانسوا جودمو، في مقال نشره في “لوموند”، بالقول إن “توسيع مصالح الصين الاستراتيجية يتطلب بالضرورة تعديل قدراتها العسكريّة”، مضيفاً أن “ليبيا تعد خير مثال على أن أي وجود اقتصادي أو إنساني في بلد ما أو منطقة ما على مستوى واسع، يتطلب توفير سياسة أمنية لحمايته”.

وتستورد الصين نحو 47% من النفط الخام من دول الشرق الأوسط، بحسب وكالة الطاقة الدولية. وتستورد النفط الخام من أفريقيا (أنجولا والسودان) ودول وسط آسيا وروسيا وأميركا اللاتينية. أما الاستثمارات العربية في الأسواق الصينية فهدفها ولوج هذه السوق الضخمة وضمان تزويدها بالنفط العربي.

طموحاتت قيادية

أخبر الرئيس الصيني شي جينبينج المؤتمر العام الـ19 للحزب الشيوعي الحاكم بأن جمهورية الصين الشعبية أصبحت الآن على استعداد للسعي نحو الاضطلاع بدور أكثر نشاطاً على الساحة الدولية.

يقول المحلل، أمير طاهري، في صحيفة الشرق الأوسط، إن ثمة عوامل ثلاثة أسهمت في اتخاذ شي جينبينج هذا القرار.

العامل الأول:

يرتبط الأول برغبة شين جينبينج نفسه في بناء مكانة رفيعة له داخل النظام السياسي الصيني، فهو يرغب في أن يحظى بأكثر مما حصل عليه سابقوه هو جينتاو وهو ياوبانج ولي شيان نيان وهوا جيو فينج. ويطمح شي جينبينج، من ناحيته، إلى التفوق على حتى دينغ شياو بينج، الملقب بـ”الرجل القوي” والذي ينسب إليه الكثيرون الفضل وراء بناء الصين الجديدة. ومع هذا، ربما يكون من المتعذر على الرئيس شي جينبينج السعي وراء الوصول لمكانة ماو تسي تونغ، الأب الروحي للجمهورية الشعبية، لكنه بالتأكيد يأمل في الوصول إلى أقرب نقطة ممكنة منه.

من ناحية أخرى، فإن وضع القائد فوق مستوى المشاحنات والخصام أمر يحمل أهمية جوهرية داخل نظام يقوم على هيكل قيادة وسيطرة شديد المركزية. والملاحظ أنه في أعقاب وفاة ماو، فإن هوا جيو فينج، رغم كونه رجلاً مهذباً، لم يتمكن قط من الارتقاء بنفسه فوق مستوى المشاحنات.

وكان من شأن ذلك تمكين دينغ شياو بينج، الذي صعد نجمه أثناء “الثورة الثقافية”، من العودة على نحو غير متوقع إلى السلطة والسيطرة على زمامها عبر الاعتماد على المؤسسة العسكرية. وأثناء حياة دينغ، لم تكن مسألة من يضطلع بدور رئيس الجمهورية الشعبية تحمل أهمية كبيرة.

وفي أعقاب وفاة دينج، لم يتمكن أي ممن تولوا الرئاسة بعده من الارتقاء بمكانتهم على نحو لافت داخل صفوف الحزب وعبر أطيافه المختلفة. ونظراً لأن الطبقة العليا من النخبة الصينية الحاكمة تتألف من بضع مئات من العائلات التي تتمتع بسجل ثوري، فإن النظام يتطلب شخصية تحمل مقومات الأب الروحي بحيث تكون لها الكلمة النهائية فيما يتعلق بجميع القضايا المحورية. وفي أعقاب وفاة دينج، اتفقت هذه “العائلات الثورية” على صيغة يسيطر في إطارها كل جيل على السلطة على امتداد عقد، ثم يتنحى عن الساحة. وسمحت هذه الصيغة القائمة على التدوير بتولد طموحات داخل نفوس مزيد من الأفراد أثناء انتظارهم دورهم في ممارسة السلطة.

وللمرة الأولى، يخالج شي جينبينج الآن الشعور بأن باستطاعته الاضطلاع بدور الأب الروحي مع عدم وجود حد زمني واضح لنهاية دوره في السلطة. وقد تجلى هذا الأمر عندما قرر المؤتمر العام للحزب الشيوعي ضرورة أن تتحول “أفكار وتعاليم” شي جينبينج إلى جزء لا يتجزأ من ميثاق الحزب الشيوعي الصيني وعقيدته، ما يعد تكريماً نادر الحدوث. يذكر أنه قبل شي جينبينج، نال ماو تسي تونغ مثل هذا التكريم في حياته، بينما ناله دينغ شياو بينغ بعد وفاته.

الأهم من ذلك، أن شي جينبينج يعتقد أن مثل هذا الدور حيوي للحفاظ على الهياكل الحالية للسلطة؛ ولذلك، لا يتحدث عن السنوات الخمس التالية فحسب، والتي تبعاً للصيغة القديمة تقع خارج فترة رئاسته، وإنما يطرح رؤيته لعقود مقبلة. ويعتقد شي جينبينج أن مثل هذه الرؤية تضمن الاستقرار الذي تحتاج إليه الصين كي تمارس دورها بصفتها قوةً جديدةً على الساحة العالمية.

أما العامل الثاني:
فيتمثل في إيمان شي جينبينج بالحاجة إلى إعادة إحياء خطاب الحزب الشيوعي. الملاحظ أنه بين عام 1949 عندما سيطر ماو على السلطة، وسبعينات القرن الماضي عندما أصبح واضحاً أن “الماوية” مُنيت بالفشل، جرى الاعتماد على خطاب يقوم على الصراع بين الطبقات والنضال ضد الإمبريالية والتخلص من “الإذلال” الذي تتعرض له الصين على أيدي قوى غربية، بهدف إضفاء شرعية على حكم الحزب.

ومع الإصلاحات التي أقرها دينج، تبدل الخطاب إلى ضرورة الاهتمام بتحسين الأوضاع المعيشية للجماهير. ولا شك أنه على هذا الصعيد تحديداً، حققت الصين نجاحاً مذهلاً.

وتحول شعار “زيادة إجمالي الناتج الداخلي” إلى واقع مع إحراز الصين معدلات نمو هائلة على امتداد ما يقرب من عقدين. ومع إجمالي ناتج داخلي سنوي يبلغ ما يقرب من 12 تريليون دولار، تشكل الصين حالياً أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تتجاوز الأخيرة بحلول عام 2023. وبالفعل، تبدو مسألة تحديث البنية التحتية الصينية، أو في الكثير من الحالات غيابها، أمراً مذهلاً حقاً. في الوقت الراهن، تحظى الصين بأسرع قطارات على مستوى العالم، وتعكف على بناء 80 مطاراً جديداً. والأهم من ذلك، أن ثلث السكان على الأقل، قرابة 400 مليون نسمة، جرى إنقاذهم من هوة الفقر المدقع للمرة الأولى في التاريخ.

ومع ذلك، ورغم ما تثيره “المعجزة” الاقتصادية الصينية من إبهار، فإنها ليست فريدة من نوعها، فقد سبق أن حققت فرنسا “معجزة” في ظل الحكم الاستبدادي إلى حد ما لنابليون الثالث. وأحرزت ألمانيا الحديثة إنجازاً مشابهاً في ظل قيادة “المستشار الحديدي”، بسمارك. كما أن حقبة مييجي الاستبدادية هي التي دفعت اليابان إلى أحضان العالم الحديث. كما أثبت ستالين وموسوليني، بل وأسرة كيم في كوريا الشمالية أنه من خلال حشد الموارد، مهما كانت ضآلتها، نحو أهداف بعينها، بمقدور نظام استبدادي تحقيق أهداف نبيلة.

ومع ذلك، اكتشفت الأنظمة الاستبدادية أن النمو الاقتصادي السريع يحمل جانباً سلبياً يتمثل في ظهور طبقة وسطى سرعان ما تطالب بحريات سياسية، وكذلك نمط من الفساد يمكن أن يخرج عن نطاق السيطرة.

وعليه، يشعر شي جينبينج بأن الحزب الشيوعي لم يعد بمقدوره تبرير احتكاره السلطة عبر الاعتماد على النجاحات الاقتصادية فحسب. وعليه، هداه تفكيره إلى ضرورة الاضطلاع بدور قيادي عالمي لدغدغة مشاعر الجماهير الصينية وإقناعها بالبقاء بعيداً عن القضايا السياسية والاكتفاء بجني ثمار النجاح الاقتصادي.

واللافت، أن الرئيس شي جينبينج أخبر المؤتمر العام للحزب الشيوعي بأن الصين باستطاعتها الترويج لـ”نموذج الحكم الذي تتبعه” بديلاً للديمقراطية الغربية. والمؤكد أن غالبية النخب الحاكمة في عالمنا اليوم ستشعر بارتياح أكبر إزاء “النموذج الصيني” القائم على السيطرة المركزية عن النموذج الأميركي الذي يتسم بحالة مستمرة من التشاحنات الداخلية وحرب أهلية ثقافية – سياسية.

أما العامل الثالث:
الذي يحمله شي جينبينج في ذهنه، فيتمثل في الفراغ المتنامي الذي خلفه عجز الولايات المتحدة أو عدم استعدادها للاضطلاع بدورها القيادي التقليدي على الساحة العالمية على امتداد العقد الماضي تقريباً.

وفي ظل قيادة الرئيس باراك أوباما، الذي رأى أن الولايات المتحدة لم تكن دوماً قوة خير على الصعيد العالمي، انحسر النفوذ الاستراتيجي لواشنطن. واستمر الانحسار ذاته في ظل رئاسة دونالد ترمب تحت شعار جديد – “أميركا أولاً”.

إلا أن سد الفراغ الذي خلفه تراجع الدور الأميركي ليس بالأمر الهين، فالاتحاد الأوروبي منغمس في تشاحناته الداخلية التي تجلت بقرار بريطانيا الانسحاب منه. أما روسيا، فإنها تود بالتأكيد الاضطلاع بقيادة العالم، لكنها تفتقر إلى القوة الاقتصادية والنفوذ الثقافي الذي يؤهلها لذلك خارج الدائرة الجغرافية الضيقة المحيطة بها. ويوفر كل هذا للصين فرصة ذهبية تبدو عاقدة العزم على عدم إهدارها.

ومع ذلك، فإن القيادة العالمية تتطلب كاريزما ثقافية وقوة ناعمة وإبداعاً تكنولوجياً وعلمياً وشبكات من الاتصالات السياسية والاجتماعية وقوة عسكرية متينة ذات نطاق عالمي ـ أمور ربما ليس بإمكان الصين توفيرها جميعاً.

ربما يعجبك أيضا