المؤتمر العالمي الخامس للإفتاء.. الاختلاف الإنساني قَدَر وسنة حضارية

إبراهيم جابر

رؤية – إبراهيم جابر:

القاهرة – خرج المؤتمر العالمي الخامس للإفتاء، في القاهرة، الذي تعقده الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم تحت عنوان “الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي”، بمجموعةٍ مِنَ التوصياتِ والقراراتِ لضبط الخلاف الفقهي بين المذاهب المختلفة، وأهمية نشر وعي التسامح بين الناس، مؤكدا أن الاختلافَ الإنسانيَّ قَدَرٌ وسنةٌ حضاريةٌ.

“محاور المؤتمر”

المشاركون في المؤتمر ركزوا خلال مناقشاتهم على 4 محاور رئيسية؛ ترسخ لفكرة إدارة واستثمار الخلاف الفقهى بشكل إيجابى، الأول بعنوان “الإطار التنظيري للإدارة الحضارية للخلاف الفقهي”، والثانى تحت عنوان “تاريخ إدارة الخلاف الفقهي: عرض ونقد”، بينما يناقش الثالث موضوع “مراعاة المقاصد والقواعد وإدارة الخلاف الفقهى.. الإطار المنهجي”، أما الرابع وعنوانه “إدارة الخلاف الفقهى.. الواقع والمأمول”.

وأوضح مستشار مفتي الجمهورية الأمين العام لدور وهيئات الإفتاء فى العالم إبراهيم نجم، أن الأمانة تبعث من خلال مؤتمرها رسالة لدعم التماسك الاجتماعي المعاصر، والمشاركة في عمليات العمران والمساهمة في الحضارة الإنسانية المعاصرة، فضلا عن التأكيد على تبني أمانة الإفتاء العالمية هدفا استراتيجيا مرحليا يتبنى تجديد الخطاب الديني وفق آليات حديثة، وتجفيف منابع التطرف.

وقال الدكتور محمد مصطفى الياقوتي، وزير الأوقاف السوداني الأسبق، إن خاتمية الرسالة وتمامها يقتضيان وفاءها بكل تطلعات الناس لذلك جاءت خطاباتها عامة متسامية على قيد الأمكنة والأزمان، مضيفا أنه “لا بد من قراءة الحكم الشرعي التلكيفي مع الحكم الوضعي، وإذا لم نفعل ذلك تكون هنالك إشكالات قد تصل حد استحالة التطبيق”، وأن عموم الخطابات الشرعية في غالبها عمومات قابلة للاستثناءات، وقراءات تنسقها مع كليات الشريعة الاسلامية بحيث لا نجد مطلوبًا تفصيليًا يتقاطع مع الأهداف الرئيسة للشريعة الإسلامية”.

وأكمل: “كم هو جميلٌ مَهْيَع أَرْبابِ المستويات من علماء هذه الأمة الحاضرين والسابقين، حيث لم يجعلوا من الاختلاف الفقهي سببًا لتسعير جُذية العصبية فيهم، وتضييق برحات الحب التي عمرت قلوبهم الواسعة والنقية، فقد فهموا وما زالوا حقيقة التدين لذلك تراهم يستفيد بعضهم من بعض، لإدراكهم أن كل الفقه الذي أتقنوه ثروةٌ واسعة تسهم في غناء حصائل هذا العطاء الحضاري لذلك تراهم يأخذ بعضهم من بعض وحل إشكال الناس بأيسر الوجوه فور ما وجدوا فقهًا متقاربًا يصدر عن مشارع النضرة والوسع في هذا الدين”.

من جانبه، قال الدكتور محمد عبدالغفار الشريف جامعة الكويت الاستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية – في كلمته أمام المؤتمر والتي جاءت تحت عنوان “المؤتمرات الإسلامية وأثرها في إدارة الخلاف الفقهي” أن أهم طرق التعارف والتوافق بين المذاهب هو عقد المؤتمرات بين علماء الإسلام، وعرض قضايا المسلمين، والمسائل العلمية؛ خصوصا المستجدات، والقضايا الشائكة التي تحتاج إلى تبادل الخبرات، ووجهات النظر؛ مؤكدا أنها سنة قديمة.. فقد كان الخلفاء الراشدون إذا نزلت نازلة جمعوا فقهاء الصحابة لاستشارتهم في المسألة، وقد يقع خلاف يستمر لعدة أيام، بل وأسابيع.

وأكد أن اجتماع علماء المسلمين وقادة الفكر معا؛ يؤدي إلى تعارفهم، وزيادة الثقة بينهم؛ وتبادل الخبرات والمعلومات في المسائل المستجدة، والوصول إلى نقاط اتفاق في المسائل المختلف فيها، مؤكدا أهمية نشر وعي التسامح بين الناس نتيجة لما تصدره هذه المؤتمرات من قرارات وتوصيات، ولما لها من إحياء سنة الشورى الشرعية في الأمة، ومواكبة الأحداث والمستجدات، والاستعداد لها برأي شرعي جماعي رصين.

“توصيات المؤتمر”

المؤتمر خرج بعدد من التوصيات، أهمها التأكيد أن الاختلافَ الإنسانيَّ قَدَرٌ وسنةٌ حضاريةٌ، وأن محاولةَ إنكارِه إنكارٌ للإرادةِ الإلهيةِ في الخلقِ، وأنَّ الإدارةَ الحضاريةَ للخلافِ الفقهيِّ هي الأسلوبُ الأمثلُ لاستثمارِه للصالحِ الإنسانيِّ، مشددا على أنَّ تاريخَ الاختلافِ الفقهيِّ قد مرَّ بفتراتٍ متفاوتةٍ منَ الصعودِ والهبوطِ وأنه يمكنُ التعلمُ واستلهامُ الخبرةِ والانتقاءُ من كافةِ مراحلِه التاريخيةِ.

وأشار المؤتمر إلى أن المذاهبُ الفقهيةُ الإسلاميةُ تمثل في مجموعِها وتفاعلِها العلميِّ فيما بينها تجربةً إنسانيةً يجبُ استثمارُها والإفادةُ منها، لافتين على وجوبِ احترامِ الاختلافِ المذهبيِّ والعملِ على نَشْرِ هذه الثقافةِ، انطلاقًا من أن احترامَ الرأيِّ المخالفِ حجرُ الأساسِ في التماسك الاجتماعي وتحقيقِ الاستقرارِ، وندعمُ هذا الأمرَ بكافة الوسائل في مجال التعليم بمراحلِه المختلفة.

ودعا المؤتمر إلى اعتبارِ الحفاظِ على منظومةِ المقاصدِ الشرعية الميزانَ الأهمَّ للاختيارِ من المذاهبِ والترجيح بينها، مطالبا جميعَ الدول الأعضاء بالأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم والمجامعَ الفقهيةَ والهيئاتِ الدينيةَ إلى تبادلِ الخبراتِ في مجالِ إدارةِ الخلافِ الفقهيِّ، واعتبارِ إستراتيجيةِ الأمانةِ خارطةَ طريقٍ لذلك، وهي ما تعبرُ عنها “وثيقةُ التسامحِ الفقهيِّ والإفتائيِّ”.

وحثت الأمانةُ دُورَ الفتوى وهيئاتِها ومؤسساتِها على الاستفادةِ مِنَ الوسائلِ التكنولوجيةِ الحديثةِ وتطبيقاتِها الذكيةِ في دَلالةِ المستفتينَ على الاختيارِ الفقهي الرشيدِ المبنيِّ على الأصولِ العلميةِ، وعدمِ تركهم نهبًا للأفكارِ المتطرفةِ أو الاضطرابِ في معرفةِ الحكمِ الشرعيِّ، موصيا الباحثينَ وطلابَ الدراسات العليا في الدراساتِ الشرعية والاجتماعية والإنسانية بتقويمِ تجاربِ التحاورِ المذهبي للابتعادِ عن المثالبِ والتمسك بالمزايا، وكذلك دراسة أثرِ التجربةِ المذهبيةِ في مراحلِها وأحوالها على المجتمعات المسلمة إيجابًا وسلبًا.

وأعلن المؤتمر رفضه كلَّ محاولات الاستغلالِ المذهبيِّ التي تمارسها بعضُ الجماعاتِ التي لا ينتجُ عنها إلا الصراعُ الذي يشوِّه صورةَ المذاهبِ ويخرجُ بها عن قيمِها ومقاصدِها، داعيا إلى مراجعة المذاهبِ المختلفةِ ومؤسساتِها إلى دمجِ برامج تربية فقهية رشيدة مقرونةٍ ببرامج تدريس المذاهب لكافةِ مراحلِ التعليم.

وطالب المؤتمرُ علماءَ المذاهب إلى العناية بتجديد المذهب عن طريق الإجابة عن الأسئلة العصرية حول المذهب أصولًا وفروعًا، وخاصةً تلك التي يتناولها الشبابُ، وإرشادهم إلى الطريقةِ المثلى للتعاملِ مع أربابِ المذاهبِ المختلفة بلا تعصبٍ ولا تفريطٍ، والعناية ببرامجِ التدريب على الاختيار الفقهي والإفتائي الرشيد، بما يوازنُ بينَ المحافظةِ على التراثِ الفقهيِّ والإفتائي والوفاء بمتطلبات الواقع الوطني والإنساني.

وأشاد المؤتمرُ بالمبادرات والجهود التي سعت إلى الوحدة ولم الشمل ونبذ التعصب على نحو ما كان في وثيقةِ الأخوة الإنسانيةِ من أجل السلام العالمي والعيشِ المشترك، ووثيقةِ مكةَ المكرمةِ، ويدعو إلى التمسك بما توصلتْ إليه هذه الجهودُ والعملِ على تحويلِها إلى برنامجِ عملٍ على أرضِ الواقعِ، إضافة إلى الجهود المبذولة من قِبَلِ الدولِ والمؤسسات للتقارب والأخوة.

واستنكر المؤتمرُ التصرفاتِ العنصريةَ المقيتةَ وجرائمَ الكراهيةِ التي يرتكبُها بعضُ الأشخاصِ ضدَّ المسلمينَ حول العالمِ بما باتَ يُعرفُ بالإسلاموفوبيا، ويدعو الجهاتِ والمؤسساتِ المعنيةَ إلى تحمُّل مسئوليتِها الإنسانيةِ لوقفِ هذه التصرفاتِ والجرائمِ، داعيا الجهاتِ والمؤسساتِ المعنيةَ إلى النظرِ بشكل جِدِّيٍّ لما يحدثُ في مناطقِ الصراعِ في العالمِ والسعيِ الجادِّ إلى اجتثاثِ جذورِ التصارعِ والاحترابِ، ووقفِها، وبالأخصِّ ما يتذرَّع بحججٍ دينية أو مذهبية ليس لها أساسٌ من الصحةِ.

وأثنى المؤتمرُ على جهودِ التكاملِ الإفتائي على أساسٍ علميٍّ سليمٍ مع التأكيدِ على نبذِ الاستغلالِ المذهبيِّ أوِ السياسي لمجالِ الإفتاءِ بما يفسدُه ويذهبُ بمقاصدِه، مطالبا إلى إخراجِ تصنيفٍ علميٍّ رصين يبرز أخطاءَ المتطرفين تجاهَ الفقه الإسلامي ومذاهبِه أصولًا وفروعًا، والإفادة المتبادلة من جهودِ الحوارِ المذهبي والحوارِ الديني والحضاري الرشيدِ، والتواصلِ بين الدوائر المختلفة العاملة في الحقول المذهبية والدينية والحضارية.

ربما يعجبك أيضا