الريف العربي.. طبيعة مصرية تتلاشى وتراث يزدهر في الخليج

رنا الجميعي

لماذا لجأ الفلاح المصري إلى البناء الخرساني الذي غير شكل الريف المصري؟ وما الذي تبقى من الريف المصري؟ وكيف تستثمر دول الخليج في المناطق الريفية؟


يختلف الريف من دولة عربية إلى أخرى، وتتجلى مظاهره بقدر  أكبر في مصر، بسبب ارتباطها بنهر النيل، وفيما تختفي معالم الريف منها، تُستثمر في دول عربية أخرى.

اشتهر الريف المصري بالبيوت الطينية ذات الدور الواحد، تحتوي على مكان مخصص فيه لتربية المواشي، وآخر على الفرن البلدي للخبز، تلك المظاهر لم تعد موجودة، وتآكلت الرقعة الزراعية، وتحول المزارع إلى العمل التجاري، كل ذلك أثر على معمار الريف في مصر.

“الخرسانة” بدلًا من الطمي والكرشيف

“اختفى الريف في مصر واندثرت البيوت الريفية”.. بدأ أستاذ العمارة، دكتور محمد عادل الدسوقي، بهذا التعبير لـ”شبكة رؤية الإخبارية”، وقسّم الريف المصري إلى القرى المرتبطة بالزراعة في مناطق الدلتا والصعيد، والريف الصحراوي القائم في الواحات المصرية مثل واحة سيوة،

وأوضح أن الريف المصري فقد شكله بسبب البناء الخرساني، وارتبطت ثقافة المصريين الحالية بالمعمار الخرساني، لاعتقادهم أنها طويلة الأمد، وتمكنهم من البناء على مساحات ضيقة.

الريف المصري

الريف المصري

تأثير المعمار على السياحة

يوضح أستاذ العمارة أن هناك عوامل أخرى أدت إلى انهيار الشكل المعماري الخاص بالريف في واحة سيوة، فسكانها يبنون بيوتهم من مادة بيئية تسمى كرشيف (خليط من التربة الخاصة بسيوة ممزوجة بالملح بنسب معينة)، التي لم تعد متوفرة بقدر كبير، ليرتفع ثمنها ويصعب الحصول عليها. وتُستخدم  هذه المادة حاليًّا في بناء الفنادق السياحية في سيوة فقط، وينطبق ذلك الحديث على الطمي أيضًا.

ويتابع، ما زال الطابع المعماري للريف المصري موجودًا في قرى قليلة، مثل قرية القرنة بمحافظة الأقصر، التي بناها المعماري حسن فتحي. ومؤخرًا رُممت بعض المباني داخل قرية القرنة، بالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ومنظمة اليونسكو.

ويكمل تكلف الترميم ملايين الدولارات لترميم 3 مبانٍ فقط، ما يعني أن مادة الطمي التي بنيت منها بيوت الريف المصرية أصبحت نادرة وصارت مكلفة أيضًا، فضلًا عن أنها ليست مادة مستدامة، مما لا يتيح للفلاح المصري السكن داخل بيوت مبنية من الطمي لسنوات طويلة.

قرية القرنة

قرية القرنة

قانون البناء الموحد

يذكر الدسوقي أن الخرسانة لم تنتشر كثقافة وسط الأفراد فقط، بل تبنتها الحكومات المصرية المتتالية كنهج في البناء، وعن هذا يقول: “الدولة المصرية تبنت نفس التفكير، وصارت المباني في مصر أشبه بعلب الكبريت”، ويستاء الدسوقي من ذلك الطابع المعماري لأنه غير مناسب لثقافة الريف المصري، وتمتص تلك المادة الحرارة الخارجية، ما يجعل البيت غير مناسب للعيش في الشتاء والصيف.

ويرفض قانون البناء الموحد في الريف الذي أعلنته الحكومة المصرية، وتناقش اشتراطاته لعام 2022، ويوضح وجهة نظره قائلًا: “أستاء من كلمة الموحد، لأنها تفرض على الجميع أسلوب عيش واحد، وفلاح الدلتا يختلف عن فلاح الصعيد، يأتي الحل حينما نفهم الطبيعة الخاصة لكل مكان، وتفهم احتياجاته التي لا تشبه غيرها”.

هجرة الفلاحين

اختلف أيضًا شكل قرية الحرانية الواقعة بمحافظة الجيزة التي يعرفها مدير مركز ويصا واصف للفنون، المهندس المعماري إكرام نصحي، منذ عشرات السنين، وأوضح لـ”شبكة رؤية الإخبارية” أن القرية المصرية لم تعد قرية، بل صارت تتشبه بشكل المدن. وفي رأي نصحي هناك أسباب أدت إلى ذلك، منها هجرة الفلاحين إلى دول الخليج وليبيا في سبعينات القرن الماضي، ما أدى إلى تغيير ثقافتهم.

وعلق على هذا، رأى الفلاح في الخارج أبراجًا فخمة، ورغب في بناء مثلها، وهذه المباني تمثل وجاهة مجتمعية في نظر الفلاح. ويروي نصحي ما شاهده من اختلاف شكل قرية الحرانية قائلًا في خمسينات القرن الماضي كانت قرية بسيطة، وأغلب البيوت فيها مبنية بالحجر والطين، ومع الوقت بسبب الانفجار السكاني والهجرة إلى الخارج ثم عودة المغتربين لم يعد القادم من الخارج يرتدي الجلباب المصري.

مضيفًا: “هدم بيت أبي القديم، وبني بدلًا منه مبنى يضم 13 طابقًا على مساحة ضيقة جدًّا، لا يتمتع بالتهوية الجيدة ولا يوجد به عازل للحرارة، ما أدى إلى اختفاء شكل الريف القديم تمامًا”.

الشكل الحالي في قرية الحرانية بالجيزة

الشكل الحالي في قرية الحرانية بالجيزة

تغير النسيج المجتمعي

نتيجة لكل ذلك تغير شكل النسيج المجتمعي للريف المصري أيضًا. يقول نصحي إن الريف في أساسه يعتمد على معرفة الناس ببعضهم البعض وانسجامهم معًا، وبسبب تلك التغيرات صارت القرى تستقطب الكثير من الغرباء من خارجها لأن بناء عقارات داخلها غير مكلف ماديًّا كالبناء في المدن، وهو ما حدث في الحرانية، فقد صارت تستقطب القادمين من الأقاليم المجاورة مثل الفيوم وبني سويف.

الفلاح المصري

الفلاح المصري

الريف في دول الخليج

الأمر مختلف تمامًا في الريف بدول الخليج. يوضح الدسوقي أن دول الخليج لديها اهتمام كبير بالحفاظ على تراثها وإدراك بأهمية توثيقه، وصاروا يناقشون كيفية إدارة التراث الخاص بمناطق مثل العسير والقصيم بالسعودية، بترميم مبانيه القديمة أم استغلال مساحاته ثقافيًّا. ويتفق نصحي معه، فقد لاحظ خلال تجربته في العمل بدبي والسعودية تشجيع المواطنين على امتلاك أراضٍ زراعية وتوطينهم.

مزارع بمنطقة القصيم في السعودية

مزارع بمنطقة القصيم في السعودية

يشعر الدسوقي بالقلق من تغير فهم العالم لثقافة الريف، ويوضح ازداد سكان المدن في العالم عن سكان الريف، وعلى مدار التاريخ إلى ما بعد الألفية الثانية كان سكان الريف في العالم أكثر عددًا من سكان المدن، وهذا يعني أن ثقافة الناس في العالم تجنح الآن أكثر نحو الحضر، وتبتعد عن ثقافة الريف.

ربما يعجبك أيضا