انسحاب امريكا من معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة ـ ضربة لأمن أوروبا

جاسم محمد

كتب ـ جاسم محمد

تتفاعل سياسات ترامب هنا في ألمانيا ودول أوروبا كثيرا، إلى الحد التي جعلها ان توصف ترامب بـ”العدو” الذي يعمل على تهديد أمنها القومي، وبات الحديث عن تهديدات سياسات ترامب إلى أوروبا أكثر من تهديدات موسكو وبكين. الانسحاب الأمريكي من المعاهدة هذه، كان متوقعا، فسبق أن أعلن ترامب خلال العام الماضي عزمه على الانسحاب وجدولته بعد ستة أشهر، والتي استحقت هذا اليوم الموافق الثالث من أغسطس 2019. إلغاء المعاهدة، يعني جعل أمن أوروبا “مكشوفًا” أمام الصواريخ الروسية، ورفع المظلة الأمريكية وربما الناتو عن أوروبا، وإما تسابق في التسلح النووي بين موسكو وواشنطن، تكون ساحته أوروبا.

أعلن وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، يوم أمس 2 أغسطس 2019، انسحاب واشنطن رسميًا من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا المبرمة، عام 1987 إبان الحرب الباردة. وأضاف أن “انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة يبدأ مفعوله اليوم”، مشيرا إلى أن “روسيا هي المسؤول الوحيد عن انتهاء المعاهدة”.

ومن جانبها قالت وزارة الخارجية الروسية، في بيان: “في الثاني من أغسطس 2019 ومبادرة من الجانب الأمريكي، انتهت… المعاهدة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة حول الحد من صواريخهما المتوسطة والقصيرة المدى”.

معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى “INF”

تمَّ التوقيع عليها بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي في عام 1987، ووقعت المعاهدة في واشنطن من قبل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وتعهد الطرفان بعدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ بالستية أو مُجَنَّحَة أو متوسطة، وبتدمير كافة منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000- 5500 كيلومتر، ومداها القصير ما بين 500- 1000 كيلومتر.

وبحلول مايو 1991، تم تنفيذ المعاهدة بشكل كامل، حيث دمر الاتحاد السوفييتي 1792 صاروخا بالستيًّا ومجنحًا تطلق من الأرض، في حين دمرت الولايات المتحدة الأمريكية 859 صاروخًا. وتجدر الإشارة إلى أن المعاهدة غير محددة المدة، ومع ذلك يحق لكل طرف في المعاهدة فسخها بعد تقديم أدلة مقنعة تثبت ضرورة الخروج منها.

لكن مدير إدارة شؤون عدم الانتشار والرقابة على الأسلحة بوزارة الخارجية الروسية، فلاديمير يرماكوف، يقول غير ذلك: إن قيام الولايات المتحدة بنشر منصات إطلاق طراز “M K 41” على أراضي رومانيا وبولندا يتعارض مع اتفاقيات التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى.

تداعيات الانسحاب الأمريكي من المعاهدة

حمّل حلف شمال الأطلسي، موسكو المسؤولية كاملة عن انهيار المعاهدة التي أبرمت بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، وتضمن إبقاء الأسلحة النووية خارج أوروبا. وأكد الحلف اتفاقه على سبل ردع روسيا عن إطلاق صواريخ جديدة متوسطة المدى قادرة على تنفيذ ضربة نووية في أوروبا.

أما المستشارة الألمانية، ميركل، فهي تسعى إلى إبقاء نافذة الحوار مع روسيا مفتوحة رغم الإعلان الأمريكي بشأن تجميد التزامات واشنطن إزاء المعاهدة النووية المتوسطة. وقالت ميركل: إن روسيا خرقت المعاهدة، لكن نافذة الحوار يجب أن تبقى رغم ذلك مفتوحة. تصريحات المستشارة الألمانية ربما جاءت مختلفة عن تصريحات وزير خارجيتها في قوله: “إن موضوع نزع السلاح يجب أن يتصدر أولويات الاهتمام العالمي، وهو أمر لا ينطبق على الولايات المتحدة وروسيا فحسب، بل يجب أن يمتد لدول مثل الصين أيضًا”.

معاهدة ستارت-3

إن انتهاء المعاهدة، من الممكن أن ينعكس على معاهدة ستارت-3، مشيرا إلى وجود احتمالية كبيرة لإلغائها وعدم العمل بها مجددا في ظل التوترات الحالية بين الجانبين. يذكر أن معاهدة “ستارت 3” تلزم الجانبين الأمريكي والروسي، بعمليات الخفض المتبادل لترسانات الأسلحة النووية الاستراتيجية، وتنص على خفض، وخلال فترة 7 سنوات، الرؤوس النووية إلى 1550 رأسًا، و800 منصة منتشرة وغير منتشرة لإطلاق الصواريخ، وخفض الصواريخ البالستية العابرة للقارات، والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة إلى 700 وحدة.

النتائج

ـ إن إلغاء معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة يعني زعزعة التوازن في أوروبا وإعادة الحرب الباردة وسباق التسلح، ليس بين روسيا وأمريكا ولكن مع دول أخرى أبرزها الصين.

ـ تعتبر دول أوروبا الخاسر الأكبر في إلغاء هذه المعاهدة، كونها ستكون “مكشوفة” أمام الصواريخ الروسية المحتملة. ويبدو أن ألمانيا، أكثر الدول الأوروبية تضررا من الانسحاب الأمريكي هذه، بسبب القرب الجغرافي من روسيا، وكذلك “فجوة” ضفتي الأطلسي، والمطالب بزيادة إنفاق العسكري على أمنها القومي.

ـ الانسحاب الأمريكي، لا يهدد فقط امن أوروبا وألمانيا بقدر ما يهدد الأمن الدولي، ومن المرجح أن الانسحاب الأمريكي من المعاهدة جاء ضمن سلسلة انسحابات أمريكية من عدة اتفاقيات دولية أبرزها اتفاقية المناخ. وغير مستبعد أن يكون ذلك بدفع من مستشار ترامب لشؤون الأمن القومي، جون بولتون المعروف بمواقفه المتشددة.

ـ إن إلغاء المعاهدة ينعكس أيضا على فاعلية معاهدة “ستارت الجديدة” والتي ينتهي العمل بها عام 2021. وبات مرجحا أن تنسحب أمريكا أيضا من اتفاقية “ستارت الجديدة” في ظل إدارة ترامب، في حال استمراره في البيت الأبيض.

ـ تجديد سباق التسلح النووي دوليًا وخاصة بين موسكو وواشنطن، ومن دون شك ستبقى الجبهة الشرقية من أوروبا هي الأكثر تضررًا، وبات محتملا أن تشهد نشاطا عسكريا وتسلحا وإعادة نشر وتموضعا للصواريخ النووية والوحدات العسكرية لكلا الطرفين، روسيا والناتو.

ـ اندفاع ألمانيا ودول أوروبا للتقارب مع موسكو، وغير مستبعد، أن تكون هناك اتفاقات ثنائية وربما معاهدة ثنائية بين موسكو ودول أوروبا وأبرزها ألمانيا، إلى جانب توجه أوروبا نحو الصين، ضمن خريطة إعادة التحالفات الدولية، وسط سياسات ترامب القائمة على إيجاد ضغوطات أمريكية على حليفاتها.

 ـ الانسحاب من المعاهدة، يعني إيجاد ضغوطات أمريكية على دول أوروبا وخاصة ألمانيا، لتصعيد إنفاقها العسكري، رغم الاتفاق داخل الناتو على تصعيد دول أوروبا، إنفاقها إلى أكثر من 2%. وهذا يعني أن الإنفاق العسكري سوف يقلل من حجم اقتصاديات دول أوروبا ويضعفها أمام سياسات اقتصادية “حمائية ” ينفذها ترامب، يعيد رسم خريطة القوى السياسية والاقتصادية دوليًا.

ـ الخلافات بين ضفتي الأطلسي باتت مرشحة للتوسع أكثر، بالتوازي مع قلق أوروبي، يتعلق بأمنها القومي أمام تهديدات موسكو المحتملة، ويدفع أوروبا إلى مساعي للنهوض بأمنها القومي ومنها تشكيل جيش موحد.

التوصيات: تحتاج دول المنطقة ودول أخرى، إلى إعادة سياساتها واتفاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا والصين، وربما فرنسا، لإيجاد توازن في العلاقات السياسية والدفاع، منها التسلح والمعاهدة الأمنية، وسط توزيع جديد لخارطة القوى في العالم.

ربما يعجبك أيضا