توتر وخلافات متصاعدة.. إلى أين تتجه العلاقات الألمانية الفرنسية؟

محمد النحاس

بعد حربين عالميتين، جرى تدشين العلاقات الألمانية الفرنسية 1963، إثر توقيع معاهدة الإليزيه، والتي تحل ذكراها في يناير الحالي، فما آفاق العلاقة بينهما؟ وهل تتغلب مخاوف المستقبل المشتركة على عداء الماضي؟


بعد أيام، تحل الذكرى الـ60 لمعاهدة إعادة العلاقات الألمانية الفرنسية، في وقت كشفت فيه الحرب الروسية الأوكرانية عن جوانب من الخلاف لم تكن بادية.

وقد تعثرت الاتصالات بين الجانبين خلال الأشهر الماضية، وفقًا لتقرير مجلة “دير شبيجل” الألمانية، الذي تناول منحى العلاقات الألمانية الفرنسية ومواضع الخلاف والاتجاه المستقبلي المتوقع لها.

خلافات ما بعد الحرب

تمر العلاقات الفرنسية الألمانية، باختبار مهم، فمع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، شهدت الأشهر الماضية، تحركات أحادية الجانب، وخلافات في كيفية معالجة المشكلات التي تلت الحرب، حسب التقرير المنشور في 13 يناير 2023، فما جوانب الخلاف؟ وما أبرز قضاياه؟

لطالما أرجأ الألمان والفرنسيون معالجة القضايا الحساسة، ولكن مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لا بد من إيجاد صيغة تفاهم مشتركة، في قضايا مثل إمدادات الغاز، والأمن المشترك، واتخاذ موقف أوروبي موحد تجاه روسيا.

Selenskyj empfaengt Scholz Macron Draghi und Iohannis in Kiew

بعد الحرب الروسية الأوكرانية بات من الضروري حسم القضايا الأوروبية الهامة

وحسب التقرير، الذي شارك فيه ماتياس غباور، ليو كليم، مارتن كنوب، رينيه بفيستر، وبريتا ساندبرج، فإن معالجة هذه القضايا أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

بين ماكرون وشولتز

على النقيض من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يبدو إيقاع المستشار الألماني، أولاف شولتز، شديد البطء، فيتحرك بهدوء ويفكر مليًّا قبل أن يتحدث.

وفي المقابل، تبدو السرعة التي يعالج بها ماكرون القضايا مناسبة لتسارع الأحداث، هكذا يفاضل دبلوماسي فرنسي بيين الزعيمين، ولكن لا تقتصر الخلافات بين ماكرون وشولتز على الجوانب الشخصية، فقد كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن خلافات عميقة بين باريس وبرلين

إعادة تعريف

يعتقد السياسي المخضرم دانيال كوهين، أن الوضع الحالي في أوروبا يحتم على باريس وبرلين، أن يضعا إعادة تعريف شاملة لما يجب أن تكون عليه أوروبا في المستقبل.

ويتعلق هذا بالقضايا الأمنية والإقليمية، والعلاقة مع روسيا، واتخاذ مواقف أوروبية موحدة، وحتى الدفاع المشترك، والسياسة الأوروبية الخارجية.

أسئلة بلا إجابات

حسب كوهين، حتى اللحظة لم يُجب أيٌّ من الجانبين عن الأسئلة المهمة التي طرحتها الحرب المستمرة بين كييف وموسكو، ومنها ما هو مفهوم البنية الأمنية الأوروبية؟ وماذا يعني لألمانيا امتلاك فرنسا سلاحًا نوويًّا.

ويضيف أن شولتز “يفتقر إلى الجين الأوروبي الذي امتلكه هيلموت كول (وهو مستشار ألماني شهد عصره تقاربًا مع باريس)”، في حين يرى أن ماكرون حين يتحدث عن سياسة التسليح الأوروبية، فهو يشير إلى سياسة التسليح الفرنسية.

قرار أحادي الجانب

خلال الأسبوع الأول من يناير الحالي، قال ماكرون إن فرنسا عازمة على تزويد أوكرانيا بدبابات، لتكون أول دولة غربية تقدّم الدبابات إلى أوكرانيا. وحسب التقرير لم يتشاور الرئيس الفرنسي مع الألمان بشأن هذا القرار، في حين يتظاهر شولتز بوجود اتفاق بين برلين وواشنطن على عدم تسليم الأوكرانيين دبابات قتالية.

ولم تعلن أمريكا عن موافقتها على إرسال دبابات لأوكرانيا، حتى لا تُحرج ألمانيا، حتى أعلن ماكرون عشية رأس السنة، قراره إرسال الدبابات إلى كييف، وجاء هذا القرار وفق مسؤوليين فرنسيين، لـ”كسر المحرمات وحتى يبدأ الألمان في التحرك، ولإنهاء التردد الأمريكي الألماني بهذا الصدد”، حسب ما نقل التقرير عن مجلة “بوليتكو”.

حيلة أخرى لماكرون

الخطوة الفرنسية أحادية الجانب، لم ترق للجانب الألماني، وعقب عليها رئيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي، لارس كلينجبيل، لصحيفة “دي تسايت” الألمانية، بأنه لا يعرف سبب اندفاع الرئيس الفرنسي، واصفًا التحرك بـ”مجرد حيلة أخرى لماكرون”.

وقالت مصادر قريبة من المستشار الألماني، لم يسمها التقرير، إن المسؤولين الألمان كانوا يفضلون أن تكون الخطوة مشتركة التنسيق بين باريس وبرلين.

ورغم ذلك لم يبد الألمان الكثير من الغضب، وقد يكون السبب في ذلك أن لا أحد من الجانبين يرغب في زيادة التوترات قبيل ذكرى معاهدة الإليزيه، (وهي المعاهدة التي دشنت العلاقات الألمانية الفرنسية مرةً أخرى)، وربما لأن الألمان لم يبلغوا نظراءهم في الإليزيه دائمًا بالقرارات الرئيسة، وفق التقرير.

تعطل تصنيع مقاتلة أوروبية.. ما السبب؟

يشير التقرير إلى خلاف آخر شهد تقدمًا محدودًا يتعلق بصناعة طائرة مقاتلة أوروبية، وكانت الخلافات بين الجانبين تتعلق بمشاركة براءات الاختراع، في ظل وجود منافسة بين الشركات الألمانية والفرنسية.

وفي تلك القضية بالتحديد، لا يزال يوجد عدة جوانب خلافية، تتعلق بقضايا تقنية مرتبطة بالتصنيع، ولذلك لن يكون النموذج الأولي للمقاتلة الأوروبية جاهزًا قبل 2029.

انقسام في ملف الطاقة

يرى معدو التقرير أنّ الألمان والفرنسيين منقسمون بشدة في قضايا الغاز، والطاقة، ويرجع هذا الخلاف على نحو رئيس، إلى الموقف من إمدادات الغاز الروسي. وعلى النقيض من ألمانيا، التي اعتمدت بنحو 40% على الغاز الروسي، فإن فرنسا كانت أقل حاجة إليه.

وسبب قلة حاجة فرنسا إلى الغاز الروسي عن نظيرتها ألمانيا، هو اعتمادها على الطاقة النووية من جهة، والغاز النرويجي من جهة أخرى، فلم يشعر الفرنسيون بأثر أزمة الطاقة، التي كانت فادحة في ألمانيا، ما دفع برلين إلى إقرار حزمة مالية لدعم قطاع الطاقة بـ200 مليار يورو.

مخاوف أوروبية

على الرغم من زيارة مسؤولين ألمان للإليزيه قبل يوم واحد من قرار الدعم المالي، فإنهم لم يبلغوا الجانب الفرنسي، ما أزعج المسؤولين بباريس، ويراهن الكرملين، ربما خلال الحرب الروسية الأوكرانية، على حدوث شقاق داخل البيت الأوروبي، بعد قطع إمدادات الغاز عن ألمانيا.

وبالإضافة إلى هذا، فإن الخطوة الألمانية أحادية الجانب، أثارت مخاوف داخل القارة الأوروبية برمتها، تتعلق بإكساب الصناعة الألمانية ميزة تنافسية مقابل غيرها من الصناعات الأوروبية غير المدعومة، والتي تعاني أسعار الغاز المرتفعة، ومشكلات سلاسل الإمداد.

سقف سعر للغاز

ظل الألمان يرفضون، لعدة أشهر، تحديد سقف سعر للغاز الطبيعي في أوروبا، ولم توافق برلين إلا بعد إتاحة إمكانية إلغاء آلية التسعير المشتركة في أي وقت. ويرى مسؤولون مقربون من الرئيس الفرنسي، إيمانول ماكرون، إن نص المسودة “ألماني إلى أقصى حد”، وقد “رضخوا له حتى لا يروا ألمانيا تعزل نفسها عن الإجماع الأوروبي”.

وتحديد سقف سعر للغاز، هو آلية اتخذها الاتحاد الأوروبي للتحكم في أسعار الشراء، التي يحددها الموردون، وتخضع لقانون السوق، العرض والطلب.

محطات خلافية

يشير التقرير إلى محطات أخرى أظهرت الخلاف الفرنسي الألماني. ففي أغسطس الماضي ألقى شولتز خطابًا في براج، بشأن السياسة الخارجية لأوروبا، وقال فيه إن ألمانيا تتفق مع وجهة نظر ماكرون بشأن طموحاته لأوروبا، لكنه لم يذكر ولو لمرة واحدة فرنسا، آنذاك بدأ الإليزيه يتشكك في نيات برلين.

وألغت باريس في الخريف التالي، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، اجتماع الوزراء الألمانيين والفرنسيين، بسبب عدم إحراز تقدم يذكر في مجموعات العمل التحضيرية.

وينقل التقرير عن مسؤول حكومي فرنسي لم يسمه: “نلاحظ حالة من الانفصام في السياسة الألمانية”، فلم يراع الألمان “التواصل المنتظم”، ولطالما اتخذوا خطوات أحادية الجانب، وكان شولتز قد دعا إلى إلغاء مبدأ الإجماع الأوروبي في قرارات السياسة الخارجية المهمة.

خطوة إلى الأمام

تشدد وزيرة الدولة لشؤون أوروبا بوزارة الخارجية الفرنسية، لورانس بونت، على أن إلغاء الاجتماع الفرنسي الألماني، كان بمثابة جرس إنذار، طارحةً أسئلة، على الأوروبيين إجاباتها: “كيف ستبدو أوروبا مستقبلًا؟ وكيف ستواكب التغيرات الجيوسياسية؟ وكيف نتخذ قرارًا سريعًا واستراتيجيًّا، لمواجهة متغيرات الواقع؟”.

RTS66WI2

ونهاية نوفمبر الماضي، زارت الوزيرة الفرنسية، لورانس بونت، برفقة رئيسة الوزراء، إليزابيث بورن، برلين والتقتا المستشار الألماني أولاف شولتز، ووزير الاقتصاد، روبرت هيبك، وتقول الوزيرة الفرنسية، إن الجميع كان حريصًا على إظهار أن التعاون لا يزال حاضرًا رغم كل شيء، واصفةً المحادثات بأنها كانت جيدة.

ورقة استراتيجية مشتركة

التقت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، الرئيس الفرنسي إيمانول ماكرون في زيارتها لباريس، في الأسبوع ذاته، في ظل سعي الجانبين لإصدار “خارطة طريق”، في الذكرى السنوية لمعاهدة الإليزيه، وتحدد الخطوط العريضة للسنوات الـ15 المقبلة، وتحدد الماهية التي ستكون عليها أوروبا مستقبلًا.

وفي هذا الصدد تشدد لورانس بونت: “هذه المرة لا يمكننا تحمل إلا أن يكون الاجتماع ناجحًا”، في وقت يشهد فيه العالم تغيرات جيوسياسية بارزة مع صعود “الجغرافيا السياسية” كمتغير رئيس، ما يداعب الحلم الأوروبي المشترك بتكوين محور أوروبي موحد يمثل قطبًا عالميًّا.

ربما يعجبك أيضا