خبير عسكري أمريكي: استراتيجيات الردع ليست متماثلة ولا مؤكدة

علاء بريك

لا توجد سياسات ردع مطلقة ومؤكدة، إذًا ما الذي يوجد؟


تواجه الدول تحديات مختلفة من دول أخرى تجبرها على صياغة سياسة ردع تمكنها من الحفاظ على توازن قوى معين.

تُصاغ هذه السياسات على أساس دراسة معمقة تنظر في عديد العوامل والمتغيرات عند الخصم، لكنها تظل سياسة قائمة على التخمين والتوقع وعدم اليقين، ويجيب مؤسس المعهد الوطني للسياسة العامة والمسؤول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية، كيث باين، عن سؤال “مَن المؤهل لصياغة هذه السياسة، محددات صياغتها؟”

فكر بطريقة خصمك

قبل 6 عقود، أشار مؤسس معهد هدسون، هيرمان كان، إلى أن نظرية الردع قائمة على التخمين ولا تحظى مفاهيمها وافتراضاتها بالعناية البحثية الكافية، وأتاح الطابع التخميني أمام جمهرة الخبراء إمكانية المشاركة في النقاش في مسائل الردع والتعليق على الأزمات الدولية والصراعات دون إيلاء اهتمام كبير لمستوى التأهيل الخاص بكل خبير.

لكن يرى باين أن من الأهمية بمكان في هذا الصدد أن يكون الخبير على دراية، أو بذل عناية كافية ليتعرف، بأهداف الخصم السياسية وأعرافه الثقافية وقنوات الاتصال لديه وتصوراته عن علاقة القوة، أو بعبارة أخرى، من الضروري امتلاك منظور الخصم عند التفكير في مسائل الردع، وقد لا يفي باحث واحد بهذه المهمة ولهذا تُصاغ سياسات الردع على يد نخبة متعددة التخصصات.

الردع المؤكد: أقرب إلى المستحيل

يوضح باين أنه حتى مع أفضل الجهود الرامية إلى الإحاطة بكامل جوانب الموقف، فإن تطبيق نظرية الردع ليس مسألة تفاعلات يمكن التنبؤ بها أو مجموعة قواعد معروفة وثوابت معينة عند الخصم، لأنه لو كان الأمر على هذا الشكل لكان الردع سهلًا يسيرًا. وبالنظر إلى التباين في وجهات النظر بين الخصوم والحسابات المتعددة والمتبدلة للقيادات يغدو الردع المؤكد شبه مستحيل.

لكن أفضل ما يمكن لواضعي سياسات الردع أن يسعوا إلى امتلاك أشمل معرفة ممكنة بالخصم وسياقات التهديدات المحتملة وما يتصل بها، والاستماع إلى وجهات نظر متعددة يقدمها خبراء على دراية كافية بالموضوع مع تجنب الاعتماد على التكهنات العشوائية أو التعميمات غير المدروسة، لأن ضررها أكبر من نفعها.

المسافة بين المبدأ والواقع

يشير باين إلى أن المبدأ الأساس في الردع ليس معقدًا: التوعد بتهديدٍ معين يدفع الخصم إلى عدم القيام بفعلٍ ما خوفًا من هذا التهديد. بناءً على هذا، تُرسَم الخطوط الحمر أملًا في ألّا يتجاوزها الخصم يردعه عن ذلك وجود ذاك التهديد، وعلى هذا المبدأ البسيط صيغت عديد سياسات الردع منذ قرون.

البساطة النظرية لمفهوم الردع، تقابلها صعوبات ومخاطر عملية على أرض الواقع، فمن جهة تدفع إلى الاستسهال في حسابات الردع بطريقة لا تحقق المرجو منها، فضلًا عن تعقيد الواقع وتشابكاته وكثرة العوامل الداخلة في تحديد موقف معين تبدأ في التفكير بعقلية الخصم ولا تنتهي عند امتلاك معرفة موثوقة وشاملة بقدراته وآليات صنع القرار لديه ومراكز القوى والشخصيات القيادية وغيرها الكثير قد لا يتمكن القائم بالردع من تحديدها.

نحو أفضل ردع ممكن

يمثِّل الردع النووي أحد أبرز أدوات الردع، بيد أن عالما الفيزياء، ستيوارت براجر وآلان قبطان أوغلو، يتساءلان في مادتهما على صفحات، مجلة Bulletin of the Atomic Scientists، عن أهلية المشاركين في نقاشات الردع النووي ويشيران إلى أن مَن يضطلع بهذه المهمة ليسوا إلا خبراء لم يخوضوا يومًا حربًا نووية، ويعيبان الطابع التخميني لنظرية الردع.

هنا يبرز سؤال هام، حول وجود محددات للردع تشذب طابعه التخميني، ويجيب باين عن السؤال بالقول إنه من الصحيح أن الردع يُبنى على التخمين، لكن ليست كل التخمينات واحدة، فثمّة اختلاف بين التخمين الاعتباطي، والقائم على الاستقصاء. لذا، يمكن القول إن المعرفة المتخصصة في جوانب متعددة، سياسية ونفسية وجيوسياسية وغيرها، تمثل المحدد الأبرز في صياغة سياسة ردع مثلى.

يضيف باين بأن صياغة سياسة ردع جيدة يتطلب الاعتراف بأهمية التنوع والتباين في منظورات الخصم وآليات صنع القرار في عملية الردع، والحاجة إلى بذل جهود حثيثة وجادة ومتعددة التخصصات لفهم الخصم، والحاجة إلى صياغة مجموعة متنوعة من خيارات الردع للتحوط من سلوكيات الخصم وخياراته المتعددة ومن عدم اليقين الكامن في سياسة الردع أصلًا.

هل يفي الردع النووي بالغرض؟

يذكر باين أن سياسة الردع في الولايات المتحدة أيام الحرب الباردة انحصرت في الردع النووي، بدون الأخذ في الاعتبار تعدد الخصوم والاختلافات في منظوراتهم، لكن بعد الحرب الباردة ابتعدت واشنطن عن هذا النوع من المقاربات لصالح مقاربة أكثر تعمقًا. ولاحظ مستشار الأمن الوطني السابق، مكجورج بوندي، محدودية هذه المقاربة في ردع جميع الخصوم.

وأضاف: “في عالمنا الواقعي وقادته، سيُنظَر إلى قرار إلقاء قنبلة ذرية على مدينة واحدة على أنه خطأ فادح، وسيكون إلقاء 10 قنابل كارثة لا مثيل لها، أما 100 قنبلة فهذا أمر لا يمكن تصوره”. لكن تتبنى واشنطن اليوم، وفق باين، استراتيجية تنظر في كل حالة على حدة وتستند إلى حسابات ومنظورات متعددة التخصصات تبتعد عن التكهنات وتقترب من المعلومات المدروسة والمعرفة الشاملة بكل خصم.

ربما يعجبك أيضا