زيارة «بلينكن» للمنطقة.. طريق واحد وأهداف متناقضة

محمود

رؤية – محمد عبد الكريم

القدس المحتلة – “كُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيلى ولَيلَى لا تقر لهم بذاك”، لعل وصف مجنون بني عامر هو الأقرب لحالة “الهوس” المقرونة بالتهدئة في قطاع غزة وما سيلحق بها من إعادة إعمار، من أطراف عدة هي: إسرائيل التي تحاول أن تعوض بالحصار ما خسرته بالميدان، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كحليفين جليين لها، السلطة الفلسطينية التي لا تقل خسائرها في الحرب عن إسرائيل بعد تراجع شعبيتها بشكل هائل بسبب غياب دورها، غزة وفصائلها المدعومة بموقف مصري لا يقبل التأويل.

واشنطن تسعى “لتيه” الفلسطينيين مقابل وضوح الاستيطان الإسرائيلي

بـ”المثمر للغاية” وصف  وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يومه، اليوم الثلاثاء، بعد زيارته القدس المحتلة ورام الله،  مشيرا إلى أنه لمس إدراكا مشتركا من جميع الأطراف بضرورة معالجة الظروف الأساسية التي تشعل الصراعات، أنه ينبغي لزعماء الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني إدخال “تحسينات” حقيقية على حياة الناس.

ما يدلل أن رغبة واشنطن هي تسكين أعراض العلة، لا علاج أسبابها، وإبقاء الوضع كما هو عليه سواء في الضفة الغربية التي ينهشها الاستيطان مقابل مكاسب تقتصر على الطبقة الحاكمة في رام الله، وإجهاض لأي انتفاضة فلسطينية تقاوم الاحتلال في الضفة والقدس، وإبقاء الحصار في غزة وإدخال مساعدات وفق الرؤية الإسرائيلية بما يحقق اهداف تل أبيب، وهو ما ثبت صراحة في تصريحات بلينكين.

“زيارتي للمنطقة برهان على التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، ودعم من واشنطن لحقها في الدفاع عن نفسها، والرئيس بايدن ملتزم شخصيا بهذا الحق، كما أنها نزع لفتيل الأزمة في القدس والضفة، وإعادة إعمار غزة، وفق منظومة مساعدات إنسانية لغزة من دون استغلالها من قبل (حماس)”، قال بلينكن -في مؤتمر صحفي عقده ظهر اليوم الثلاثاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقدس.

ترتيب للأولويات  تبعها تأكيد على “حاجة تل أبيب لتقوية القبة الحديدية” وفق ما قاله، أي تحضير لجولات حرب أخرى هدفها تركيع الفلسطينيين.

عباس يدعم رؤية بلينكين لتقويض حماس

أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال استقباله أنتوني بلينكن بمقر الرئاسة في مدينة رام الله، أن تثبيت التهدئة ووقف العدوان على الشعب الفلسطيني “خطوتان مهمتان تمهدان الطريق للبدء الفوري بمسار سياسي ينهي الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية، تحت إشراف اللجنة الرباعية الدولية، وعلى أساس قرارات الشرعية الدولية”، ما يعني أنه يريد أن يكون الجهة الشرعية الوحيدة التي يتعامل معها المجتمع الدولي، دون أن تكون تلك الشرعية مستمدة من تفويض عبر الانتخابات التي يقر الشعب الفلسطيني فيها ما هي الجهة التي تمثله.

ولم يخف عباس حرصه الأول أن تكون هذه الاحداث فرصة لتجديد العلاقة مع واشنطن، قائلا: ” نؤكد تطلعنا لتعزيز الشراكة والعلاقات الثنائية الفلسطينية- الأميركية وتذليل العقبات التي تعترض سبيلها، والتعاون من أجل الأمن السلام والاستقرار في المنطقة”.

وأعرب عباس عن تقديره لموقف الإدارة الأميركية الداعي لاحترام الوضع القانوني القائم في الحرم الشريف، ومنع طرد المواطنين الفلسطينيين مِن الشيخ جراح والقدس، وعدم القيام بالأعمال أحادية الجانب، بما فيها نشاطات التوسع الاستيطاني، وتمسك الإدارة الأميركية بحل الدولتين على أساس القانون الدولي.

كما ثمّن الرئيس الفلسطيني إعلان الوزير بلينكن إعادة فتح القنصلية العامة في القدس، وتقديم مساعدات تنموية إضافية بقيمة 75 مليون دولار، و5 ملايين دعماً إغاثياً ومليونين لأونروا.

موقف مصري واضح ورسالة أردنية

مصر التي كانت هي صاحبة الدور الأبرز في وقف العدوان على غزة، وفتحت أبوابها لمصابي العدوان، كانت أيضا حريصة على تضميد كل الجراح بدعم وصل إلى نصف مليار دولار رغم ما تمربه من ظروف اقتصادية صعبة، وهو ما أكدت عليه كافة الأطراف الفلسطينية.

وترى فصائل غزة أن الموقف المصري السبّاق في قضية إعادة الإعمار، والإعلان قبل انتهاء المواجهة عن تقديم 500 مليون دولار للقطاع، يُعدّ جزءاً من محاولة لترسيخ مكانة القاهرة، كعنوان لغزة أمام «المجتمع الدولي» في هذا الملفّ، ويبرز حالياً الدور المصري بعد تصريح الرئيس الأميركي، جو بايدن، ليلة وقف النار، أنه سيتمّ إرسال مساعدات على وجه السرعة إلى غزة.

يقول المسؤول نفسه إن «حماس» توافق على التدخّل المصري بطريقة معينة، لكنها ترفض تدخّل السلطة الفلسطينية التي جُرّبت سابقاً واستغلّت الملفّ ضدّ الغزيين، وذلك لتجنّب هجوم أميركي ودولي عليها تحت شعار أنها تمنع دخول المساعدات وإعادة الإعمار.

قبل وصور الوزير الأميركي إلى رام الله، حذر وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي من أن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية للمسجد الأقصى والإصرار على ترحيل سكان حي الشيخ جراح سيعيدان تفجير الأوضاع.

وأشاد الوزير الأردني -في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفلسطيني رياض المالكي برام الله- بما وصفها بالمواقف الإيجابية التي صدرت عن الإدارة الأميركية، مضيفا أنه التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحمل له رسالة من الملك الأردني تتعلق بتنسيق المواقف.

وأوضح الصفدي أن “الرسالة أكدت تنسيق الجهود من أجل التعامل مع المرحلة الحساسة التي نحن بصددها اليوم بعد وقف العدوان على غزة وضمان التقدم إلى الأمام لإيجاد الأفق السياسي الحقيقي الذي يشكل السبيل الوحيد لعدم تكرار التصعيد الذي شهدناه”.

وحتى لا يتكرر التصعيد، دعا الصفدي إلى وقف الاعتداءات والانتهاكات في المسجد الأقصى المبارك والحرم القدسي الشريف، وإلى عدم ترحيل أهالي حيي الشيخ جراح وسلوان.

إسرائيل تسعى لتجني بالحصار ما عجزت عنه بالحرب

بدأت إسرائيل مساراً طويلاً يهدف إلى احتواء نتائج المواجهة العسكرية الأخيرة مع قطاع غزة، والتي تُعدّ في ذاتها – إن تَرسّخت – قابلة لأن تؤذي الأمن الإسرائيلي في أكثر من ساحة واتجاه، بما يتعدّى ساحة الصراع مع غزة، بل والساحة الفلسطينية الأوسع، وأن تتسبّب بأضرار استراتيجية على المستوى الإقليمي، حيث التهديدات والتحدّيات لا تُقارَن. احتواء النتائج، وهي متعدّدة ومتشعّبة ومتداخلة، يبدأ من العمل السريع على خفض توقّعات الجانب الفلسطيني (الغزّي)، المخاطَب أوّلاً وابتداءً عبر الإجراءات الإسرائيلية الجديدة، وكذلك المقدسيون، منطلق شرارة التصعيد إن حصلت. والهدف هو أن لا يذهب الفلسطينيون بعيداً في فرضياتهم في شأن إمكانات انكفاء إسرائيل في القدس، أو الضفة، ناهيك بقطاع غزة نفسه.

مسار الصدّ، إن صحّت العبارة، لا يقتصر على التهديد العسكري والأمني بأن تعاود إسرائيل شنّ ضربات قاسية على القطاع، أو ملاحقة قادة المقاومة فيه، بل يشمل أيضاً ضغوطاً اقتصادية وسياسية ونفسية تتعلّق بالحصار أولاً، وتخصيص عائداته لخدمة مصالح إسرائيل على أكثر من صعيد، من دون ربطها بشكل شبه حصري، كما كانت عليه الأوضاع البينيّة عشية المواجهة، بالتصعيد العسكري ومُسبّباته.

في اتجاهات أخرى، من المتوقّع أن تعمد إسرائيل إلى إعادة الاعتبار للكيانات الفلسطينية التي تدور في فلكها، عبر التشويش على صورة فصائل المقاومة في غزة، كما ترسّخت في الوعي الجمعي للفلسطينيين كنتيجة للمواجهة الأخيرة، وتحديداً في ما يتعلّق بالصورة الحمائية للفصائل؛ أوّلاً من أجل إفهامهم أن لا معادلة حماية للقدس من غزة، وإن كانت موجودة ومُفعّلة عملياً، وثانياً أنه إن كان على إسرائيل التراجع والانكفاء، فليكن ذلك لمصلحة السلطة أو أيّ جهة غير الفصائل.

واحد من “التعديلات” الإسرائيلية المتوقّعة، هو ما يهدف إلى منع الفلسطينيين من الالتفاف حول فصائل غزة بوصفها حامية قضاياهم، وذلك عبر إعادة الاعتبار إلى السلطة الفلسطينية، التي تضرّرت مكانتها بشدّة في الوعي الفلسطيني نتيجة المواجهة الأخيرة. وهو ضرر تدرك تل أبيب جيداً أنه ينسحب مباشرة على أمنها وخياراتها واستراتيجيتها العامّة لإنهاء القضية الفلسطينية، الأمر الذي يتعذّر عليها السماح به.

من ضمن التوقّعات، وربّما الأكثر ترجيحاً للفترة المقبلة، وهو أيضاً ما بدأت إشاراته تَرِد من تل أبيب، العودة إلى تشديد الحصار على غزة، لكن ضمن ضوابط وأهداف، من بينها: أوّلاً، أن تكون شدّة الحصار دون السقف الذي تتوقّع إسرائيل أن يتسبّب برفع دافعية الفصائل للعودة إلى التصعيد العسكري؛ ثانياً، تبادلية التنازل بين تليين الحصار من جهة وتحقيق مصالح تخدم أهداف المرحلة لدى إسرائيل من جهة أخرى، وهذا ما يُعدّ انقلاباً أو إضافة على معادلات الماضي التي كانت تقضي بأن تلتزم غزة بالهدوء مقابل العائد الاقتصادي والأموال المسموح إسرائيلياً أن تصل إلى القطاع، ضمن سياسة تبادلية التنازلات. من الضوابط أيضاً، أن تظلّ أيّ إجراءات ضدّ المقدسيين دون المستوى الذي يُلزم قطاع غزة بالردّ.

ربما يعجبك أيضا