“سرقة الأحزان”.. المحروسة تفتح قلبها لـ “ضوّ” الفصاعين

هدى اسماعيل

أماني ربيع – هدى إسماعيل

لا تستطيع الكتابة عن “مجد كردية” دون أن تمسِك عصا اللطافة و”الفصعنة” فترتد بإرادتك، ورغمًا عنك أيضًا، طفلا، مستعيدًا براءتك الأولى متخلصا من كل المخاوف والأحكام المسبقة، كاسرا للحواجز، عابرا للأسوار، وعندما خلق بريشته عالم عصابة “الفراشة المخيفة جدن” لم يتحمل أفراد العصابة من الفصاعين أن يكونوا مجرد خطوط وألوان على بياض لوحة فنزلوا من “مملكة البطيخ”، إلى عالمنا في مهمة خاصة جدن هدفها “سرقة الأحزان” من بيت الجيران، والجيران هنا تخرج من المعنى المحدود بالمجاورة لتمتد وتشمل كل العالم.

الحب والأمل والحرية مفردات مهمة في عالم “الفصاعين” استمدها “مجد” من حياته في الطبيعة بين الجبل والبحر وهواية الصيد التي يمارسها بشغف العاشقين، لذا سنجد كثيرًا من سكان عالمه من الحيوانات مثل الفيل والسمكة والحمار والفراشة والحلزون.

وفي معرضه “سرقة الأحزان” في ساقية الصاوي بقلب القاهرة، ستكتشف بنفسك أن عالم الفصاعين واسعًا جدن وكريما جدن جدن، يراقص العجائز، ويلطخ الأطفال بألوان الفرح، ويطارد الأحلام المجنونة مع الشباب، لا يقفل فن “مجد” بابه في وجه أحد العالم بالنسبة له قلب واحد خرجت منه ملايين القلوب وعلى كل قلب أن يقطف وردة ويهديها لقلب آخر فتولد ابتسامة وهذه هي شهادة ميلادك لا تسألك عن لغتك أو بلدك، فالمحبة هي اللغة والجنسية الوحيدة المسموح بها هنا.

في هذا العالم المحبة تروض الوحوش، فكما صرح “مجد”، فالأستاذ “وحش حقير جدن” صار عاشقاً للوردة، ويحب سماع أم كلثوم وهو يفكر بأفكار فائقة الملوخية، و”الملوخية” في اللغة الفصعونية مرادفا لكل ما هو جميل وناعم ورقيق.

لعل جواز مرور “مجد” لقلوب محبي فنه و”فصاعينه” هو البساطة والوضوح، إنه لا يعبر عن نفسه ببساطة، بل إنه يفكر ويشعر ببساطة، وفي أكثر المواطن التي تتطلب عمقًا يدهشك بمنطقه الطفولي البسيط الذي يفحمك في لحظات.

يصمم “مجد ” على نشر المحبة حتى “آخر ريشة في جناح آخر عصفور في خياله”، وهو تعبير استعرته منه، وهذه ميزة أخرى لهذا الفنان فعندما تدخل عالمه فأنت لا شعوريا تتكلم لغته، ولا تندهش إذا صادفت أشخاصًا لغتهم مليئة بالبطيخ والملوخية ولا تدفئهم الشمس إلا عندما تبدل السين مكانها مع الشين لأن الشين تريد الجلوس بجوار النافذة في آخر الكلمة لترش نقاطها ورودًا على العشاق فتصبح “سمش”، ولغته لا تكترث كثيرا بترتيب الحروف، ربما هي حيلة فصعونية لتضبط لسان كل المنضمين الجدد إلى العصابة على موجة واحدة فلا يتوهون من بعضهم في العالم المظلم.

لا تندهش كثيرًا لو وجدت الفصاعين قفزوا من لوحاتهم ليقوموا بمهتهم في “سرقة الأحزان”إنهم يذوبون في الزحام تراهم ولا تراهم.

ولعل أبرز سمات “الفن الفصعوني” هي تلك القدرة المدهشة التي تستطيع بها مساحة بسيطة من الورق الأبيض أن تقول وتعبر عن أحاسيسنا ومخاوفنا، بل وواقعنا، وبقدر ما يبدو التقاط “مجد” للأفكار مغايرا ومختلفا، إلا أنك تشعر بأنه قريبا منك بطريقة ما وكأنه التقط فكرة غائبة عنك ليعبر عنها ويهديها إليك بالألوان الزيتية على الورق الأبيض، وهو بهذا يختلف عن معظم الفنانين الذين يفضلون استخدام ألوان الزيت على القماش أو الخشب.

وكثيرا ما تجد ألوان “مجد” معجونة بأبيات المتنبي وامرئ القيس وغزليات عنترة وأبيات الحكمة عند زهير بن أبي سلمى، وغيرهم من الشعراء القدامى، وصولا إلى محمود درويش الذي أحب أعماله الجديدة، عندما “أصبح كونياً وصار يرى بعين نسر يجلس على صنوبرة نبتت على قمة جبل”، كما وصفه “مجد” نفسه، ولا يطيق ” كآبات الحداثة وحذلقاتها الفكرية وركاكتها اللغوية.”

كتب مرة، فهو كاتبا عذبا للنثر:

 “كلما صادفت شجرة جميلة، أقف لأخبرها كم هي جميلة
كلما صادفت غيمة جميلة، أطلب منها التوقف لأخبرها كم هي جميلة
كلما صادفت امرأة جميلة، أحاول الصمت قدر ما أستطيع، ربما اعتقدت أني أغازلها، لكن كل ما أقصده هو سلامي للجمال الساكن فيها وليس سلامي عليها
وهكذا أمضي عمري بإخبار الكائنات الجميلة كم هي جميلة
أنا المتفرج المنتشي بالجمال
الساخط على الحروب.”

وهذه هي العدوى التي لابد وأن تصيبك، وعندما تدخل معرضا للوحات “مجد”، ستجد الجمهور تلقائيا يتبادلون الابتسام والبشاشة مغلفان بكلمة جميلة، ولا ينسى “الفصاعين” توزيع “البوسات” عليها لتبدو الهدية أجمل، “ممكن تصوريني” شاب ثلاثيني جاد القسمات يباغتك بنبرة طفولية طالبا التقاط صورة له بجانب إحدى اللوحات، سعيد وكأنه يحتضن قميص العيد الجديد، عجوز سبعينية تتكأ على عكازها لا تميل في مشيتها فأيادي “الفصاعين” الخفية تسندها دون أن تشعر، وهذا سر لا يخبره أحد للعجوز حتى لا تشعر أنها تحمل سنواتها على عاتقها، وعندما تشعر أنها خفيفة تبدو وكأنها تطير، وتعود إلى البيت مثل طفلة تلطخ الألوان ثيابها بعد ساعات من المرح.

طوفان من اللطافة والظرف، سيغرقك في أي مكان يحل فيه “الفصاعين”، هؤلاء العفاريت الصغار الذين يجرون أمامك، سيوشونك إن كنت قادما مع حبيبة ويخبرك كيف تقول لها: أحبك، وإن كنت غاضبا على صديق، سيأخذونك من يدك لتربت على كتفيه وتبتسم فيجري الخصام بعيدا.

في حوار له قال إنه: ” يحاول تحطيم الأشياء القبيحة أكثر من محاولته صنع شيء جميل”، وهذا ما يُظهر أن عالم “الفصاعين” ليس مثاليا كما نعتقد، لكن شخوصه يمتلكون جرأة التغيير، فهم لا يسكتون على الظلم أو القبح، ولهذا كونوا عصابتهم بالأساس، فهم يروضون الوحش بداخلنا ببرائتهم، إنهم لا يسرقون أحزانك فحسب بل يغسلون قلبك، سيقيدونك بالورود ويرشونك بماء البحر ويضعون مكان قلبك سمكة.

ورغم بساطة الكلمات وسخريتها التي تحمل طابعا كوميديا فإنها تعري قسوة الواقع وتقصف جبهة الظالمين مثل سكين “ينغز” لكنه لا يجرح ولا يسيل دما.

ولوحات “مجد” ثرثارة بطبعها وإن لم تكتف بثرثرة الألوان فبالشعر والحوار الخفيف اللطيف حينا، والساخر الكاشف حينا آخر، فهو يرسم بالشعر أحيانا لوحات تبهرك بتفاصيلها البديعة، وأحيانا أخرى بنزعتها الكاريكاترية اللاذعة، وهو بإدخال الكلمة على اللوحة لا يصنع حالة زخرفية بقدر ما يبرز معنى، ويصالح الرسام بداخله مع الكاتب.

واللوحة هنا تبدو أشبه بلقطة من قصة لا تهم إذا كانت في بدايتها أو منتصفها أم في النهاية، فهي دائما تترك مساحة للمشاهد ليملأ الفراغات من مخيلته.

الخطاب الإنساني سمة مميزة لفن “مجد” وهو يتخطى الجغرافيا والزمن، بلغة تمزج كل لهجات الوطن العربي، ويعبر عنه بالحوار أكثر من السرد، ربما لأن عالمنا اليوم بحاجة إلى الحوار أكثر من أي وقت مضى، لذا فاللغة قرببة من القلب وسهلة الفهم كما أنها بعيدة عن لغة نشرات الأخبار ولهجتها الخطابية الجافة، هذه لغة لها قلب تشعر وتبتسم وتُحب.

وبرغم “وحاشة” السياسة وفظاظة الحدود التي حبست “مجد” في لبنان استطاعت عصابته أن تفر إلى مصر، بعد أن نشرت رسالتها عبر صفحة “مجد” على فيسبوك التي أصبحت قبلة لعشاق فنه، صنع معهم حالة فريدة من التفاعل، حتى أصبحت أشبه بكتاب الذي ما إن تقرأوه إلا وتشعر أنك صديقه “جدن” وتعرفه منذ زمن، صداقات عديدة خلقها عبر الواقع الافتراضي، وخلقت جمهور متحمس جدا لفنه، لذا فما أن انتشر خبر وصول “العصابة” على أرض المحروسة، سارع هذا الجمهور إلى تلبية النداء، وكانوا من المحبة والكرم فأخذوا “الفصاعين” وعصابتهم في نزهة على النيل مرة، والتقطوا لهم الصور بجوار الأهرامات، وجلسوا معهم لتناول الكشري.

وهكذا وكما يقول “مجد”، عقدت العصابة “هدنه” مع الأستاذ “وحش حقير جدن” الذي صار عاشقاً للوردة، ويحب سماع أم كلثوم وهو يفكر بأفكار فائقة الملوخية وهذا بفضل أمواج المحبة التي غمرت العصابة في مصر، المحبة التي حولت الحجارة لهرم وحولت الوحش لعاشق.

ربما يعجبك أيضا