فورين أفيرز | الاقتصاد الجديد.. كيف تعيد أمريكا وحلفاؤها كتابة قواعد الإنفاق والتجارة؟

آية سيد

ترجمة: آية سيد

وسط المعركة الشرسة في الكونجرس حول الأجندة الاقتصادية للرئيس جو بايدن، من السهل الإغفال عن تطور أهم: التحول الهائل في التفكير الاقتصادي الذي يحدث الآن، ليس فقط في الولايات المتحدة؛ بل أيضًا لدى الكثير من حلفائها وشركائها. في خطتها الاقتصادية الطموحة، تقوم إدارة بايدن بما هو أكثر محاولة دفع حوافز واسعة النطاق. إنها تبتعد أيضًا عن الإجماع النيوليبرالي الذي كان مهيمنًا لفترة طويلة – ويشمل موقف الحزب الديمقراطي نفسه لمعظم العقود القليلة الماضية – لصالح رؤية جديدة للنمو الاقتصادي تقوم على تفضيل العمل على الثروة والوكوب على الربح. وفي فعل هذا، تتحرك الإدارة جنبًا إلى جنب مع الحكومات المنتخبة حديثًا والمُعاد انتخابها مؤخرًا في كندا، وألمانيا، واليابان، والتي تتبع سياسات موسعة تهدف إلى معالجة عدم المساواة وإزالة الكربون من اقتصادها.

في الوقت نفسه، يتحرك القادة في فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة في اتجاه مشابه، مستخدمين أدوات سلطة الدولة لتعزيز الرفاه البشري والصناعات الخضراء. يستخدم الكثير من هؤلاء القادة أيضًا قوة الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الوطنية لترويض وفرض ضرائب على الاحتكارات الرقمية التي تُلحق الضرر بالديمقراطيات حول العالم. في الواقع، على مدار الأعوام الستة، الماضية وخاصة منذ بدء الجائحة، استنتج القادة وصنّاع السياسة في الكثير من الديمقراطيات المتقدمة أن الإصلاحات الهيكلية الأعمق ضرورية لمواجهة شعبوية جناح اليمين التي جلبت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وغيره من الشخصيات السياسية إلى السلطة.

إن التقارب الدولي الواسع حول إطار عمل اقتصادي جديد مهم، لأنه لعقود، كان هناك تقارب مماثل في الاتجاه المعاكس: فضّل صُناع السياسة الدوليون انفتاح التجارة وحجمها قبل كل شيء، ساعين إلى رفع القيود عن الأسواق ودعم القواعد الموجهة نحو السوق لمنظمة التجارة العالمية. كان هذا ما يُسمى بإجماع واشنطن، النهج الذي صيغ في الثمانينيات بناءً على الأفكار النيوليبرالية للخصخصة ورفع القيود التنظيمية. الآن، تعيد إدارة بايدن والحكومات ذات العقلية المتشابهة التفكير في ذلك النهج لصالح السياسات التي تسعى إلى جلب معايير جديدة إلى التجارة الدولية وإلى استخدام الاستثمار العام لمعالجة المشاكل مثل عدم المساواة في الدخل.

رد الفعل الشعبوي

من ضمن العوامل المحركة لرؤية بايدن الاقتصادية كان إدراك فريق سياسته لأن عقود تحرير التجارة سببت ضررًا حقيقيًّا لجمهور الناخبين. كان الاستياء الشعبي من سياسة التجارة واحدًا من الديناميكيات الأساسية للحملة الرئاسية في 2016. وعن طريق اتخاذ موقف شعبوي ضد اتفاقيات التجارة التي هيمنت طويلًا على السياسة الدولية، استطاع ترامب استغلال التناقض في تصريحات حملة منافسته، هيلاري كلينتون – التي قالت إنها ضد اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ – وموقف إدارة أوباما – التي أطلقت حملة عنيفة لاعتماد الشراكة العابرة للمحيط الهادئ. تسبب انتصار ترامب وعداء إدارته لاتفاقيات التجارة في كسر إجماع الحزبين القائم منذ فترة طويلة حول التجارة. واصلت الإدارة الجديدة، على الرغم من ابتعادها عن الكثير من سياسات عصر ترامب، الابتعاد عن توسع التجارة كهدف أساسي للسياسة الاقتصادية، وأوضح مستشارو بايدن الاقتصاديون أن الولايات المتحدة لن تسعى وراء الشراكة العابرة للمحيط الهادئ أو أية اتفاقيات تجارة أخرى إلى أن يمرر الكونجرس تشريع إنفاق محلي جديد، ويعيد المفاوضون الدوليون كتابة قواعد التجارة لتشمل إجراءات حماية للعمال والبيئة.

من ضمن الإجراءات التي اقترحها مسئولو بايدن لإعادة تشكيل نظام التجارة الدولية: فرض قيود على الورادات من الصلب والألومنيوم كثيف الكربون؛ وتخفيف قوانين الملكية الفكرية التي تحمي براءات اختراع الشركات من أجل محاربة الجوائح بطريقة أفضل؛ ومنح الأولوية للبضائع المُنتجة محليًّا بسلاسل إمداد محلية. تتزامن جهود فريق بايدن مع سياسات اقتصادية مشابهة – مثل الاتفاقية الأوروبية الخضراء – والتي تنفذها حكومات أخرى لمكافحة تغير المناخ، ومحاربة احتكارات الشركات الدولية، وفرض قواعد الضرائب الدولية.

لهذا السبب البيان الرسمي لقمة مجموعة السبع التي عُقدت في كورنوال في يونيو جاء مختلفًا عن بيانات السنوات الماضية. يعترف بيان 2021 صراحةً بالمكاسب غير المتساوية التي نتجت عن التجارة ويضع أهدافًا محددة لتقليل انبعاثات الكربون من صناعة تلو الأخرى. يظهر هذا التغيير في تقرير “المرونة الاقتصادية العالمية” الذي نُشر في أكتوبر الماضي. يشرع التقرير في تقديم إطار عمل فكري لما يُدعى إجماع كورنوال، وهو بديل لإجماع واشنطن.

إعادة كتابة كتاب القواعد

يتناول تقرير مجموعة السبع عدة نقاط رئيسية. أولًا، لا ينبغي اعتبار تحرير التجارة غاية في حد ذاتها. إن الرسوم الجمركية ليست في أقل معدلات تاريخية لها وحسب، بل أظهرت مجموعة متنامية من الأبحاث الاقتصادية أنه، منذ التسعينيات، لم تكن الكثير من الاتفاقيات التجارية للعصر النيوليبرالي مفيدة وكانت ضارة للعمال في الولايات المتحدة والخارج. من الآن فصاعدًا، ينبغي أن تركز الحكومات أكثر على الاستفادة من التجارة في خدمة المعايير التنظيمية الأكثر قوة، خاصة لتشجيع الإنتاج المستدام. على سبيل المثال، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مؤخرًا عن خطط للترتيب العالمي بشأن الصلب والألومنيوم المستدامين، الذي سيُبقي المعادن الضارة خارج أسواقهم ويستحدث طرقًا مشتركة لقياس الانبعاثات في هذه الصناعات. من المُلاحظ أن الاتفاقية لا تشير إلى قواعد منظمة التجارة العالمية أو عملياتها. دعا العملاقان التجاريان بقية العالم للانضمام إليهما. ويُقال إن اليابان والمملكة المتحدة يميلان لفعل ذلك أيضًا.

تتجه قواعد التجارة الدولية الحالية إلى تسهيل ما تدعوه ممثلة بايدن للتجارة، كاثرين تاي، “سباق إلى القاع” عن طريق خلق حوافز للشركات لتخفيض المعايير التي تجعلها أكثر تنافسية. ذكرت تاي في شهر أبريل: “هذا جزء من السبب الذي يجعل الكثيرين يعتبرون منظمة التجارة العالمية مؤسسة لا تمتلك حلولًا للمخاوف البيئية، وأيضًا جزءًا من المشكلة.” ولتغيير هذا التصور، يدعو التقرير أن يعيد المفاوضون التجاريون كتابة قواعد التجارة لمواجهة التحديات مثل الجوائح وأزمة المناخ، وعدم إعاقة ردود الدول.

يدعو نهج كورنوال أيضًا الحكومات إلى الاستثمار أكثر فيما ندعوه “النمو المستقبلي عالي الجودة”: دعم تحول الطاقة، ويشمل ذلك البنية التحتية للنقل العام؛ التعليم والتدريب عالي الجودة؛ والبحث والتطوير الذي يركز على المناخ. جادل خبير الاقتصاد نيكولاس ستيرن أنه من أجل معالجة أزمة المناخ ووضع مستويات النمو على المسار المستدام، تحتاج الدول لزيادة الاستثمار العام بنسبة 2% من الدخل القومي فوق مستويات ما قبل الجائحة، أي إنفاق 1 تريليون دولار على الأقل بصورة جماعية كل عام بين الآن و2030. النقطة هي تشجيع الاستثمار الذي سيساعد القطاعات الجديدة المرجوة من الاقتصاد على النمو بدلًا من التركيز عل الاستهلاك المباشر.

يجب أن تستثمر الحكومات أيضًا في اتجاهات سياسية محددة. على سبيل المثال، يطوّر العلماء الكثير من التكنولوجيات الواعدة لتمكين الصناعات المختلفة من تقليل انبعاثات الكربون بسرعة أكبر. لكن من أجل وضع هذه التكنولوجيات للاستخدام واسع الانتشار، فإنها تحتاج أن تخلق الحكومة أسواقًا وتدعمها. عن طريق القيام باستثمارات واسعة النطاق في منتجات مثل الصلب الأخضر، تستطيع الحكومات خلق الأسواق، ما يجهز الابتكارات الجديدة لاستثمار القطاع الخاص واسع النطاق. تستطيع الحكومات أيضًا القيام باستثمارات عامة في التكنولوجيات الحديثة التي لا تستطيع الشركات تمويلها. وفي كلتا الحالتين، تستطيع الحكومات العمل مع المجتمعات داخل وحول المنشآت الصناعية الجديدة لضمان أن يشاركوا في المكاسب.

وأخيرًا، تحتاج الحكومات لإصلاح كيف يتم فرض الضرائب واللوائح على أصحاب المكاسب المرتفعة والشركات. في الفترة بين 1995 و2020، تضاعفت حصة الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي يسيطر عليه الـ0،00001% الأبرز ثلاثة أضعاف، ما منح أصحاب المكاسب الأكبر نفوذًا استثنائيًّا على السياسة الاقتصادية. وبسبب ضغط الشركات والأثرياء، غضّت الحكومات الطرف بينما تضخم التهرب من الضرائب.

في الوقت نفسه، الاحتكار وسلطة احتكار الشراء – عندما يهيمن صاحب عمل واحد مثل أمازون على منتج أو سوق عمل – انتشروا في مجالات عديدة من الاقتصاد؛ ما يضر بالمستهلكين والعمال على حد سواء.

إن الاتفاقية الدولية التاريخية هذا الخريف لفرض ضريبة بنسبة 15% كحد أدنى على أرباح الشركات هي خطوة في الاتجاه الصحيح. للمرة الأولى، تعهدت أكثر من 130 دولة بالالتزام بحد أدنى عالمي لمعدلات الضريبة. سوف تحظى الشركات الأكبر والأكثر تحقيقًا للأرباح بسلطة تقديرية أقل لفرض الضرائب، بينما تقترب الدول أكثر مما يُعرف بـ”التخصيص وفقًا لصيغة محددة”. هذا النهج سيساعد العمال عن طريق ضمان أن الأموال العامة متوفرة للمشاريع المفيدة اجتماعيًّا، مثل التعليم أو الإجازة مدفوعة الأجر، وعن طريق المساعدة بشكل عام في استعادة توازن القوة بين العمالة ورأس المال.

بيد أنه يوجد الكثير ليتم فعله. مثلما أظهرت التقارير الاستقصائية الأخيرة المعروفة بـ”وثائق باندورا،” أصبحت خمس ولايات أمريكية على الأقل ملاذات رئيسية للثروة الدولية، حيث تحمي أصول النخب الوطنية والعالمية من التدقيق العام والمساءلة المالية. يستطيع بايدن، الذي أمضى 36 عامًا كسيناتور من واحدة من هذه الملاذات، وهي ديلاوير، اتخاذ موقف قوي عبر إنهاء تلك الممارسة. لقد اتخذ الرئيس بالفعل خطوات مهمة للحد من قوة الكيانات الاحتكارية، عن طريق إصدار أمر تنفيذي لتشجيع المنافسة في الاقتصاد ووضع خبراء مكافحة الاحتكار، مثل لينا خان وتيم وو، في مناصب مهمة بالإدارة. لكن لا تزال الإدارة تحتاج إلى اكتشاف كيف تتعامل مع فيسبوك وشركات التكنولوجية المهيمنة الأخرى التي لا تحصّل رسومًا من المستخدمين لكنها تمتلك نفوذًا سياسيًّا واقتصاديًّا ضخمًا من خلال سيطرتها الواسعة على الإعلام الرقمي. الحكومات الأوروبية متقدمة في هذا النوع من اللوائح التنظيمية، لذلك هذه منطقة تحاول فيها الولايات المتحدة اللحاق بالركب.

أفضل دفاع للديمقراطية  

في الولايات المتحدة والكثير من الدول الأخرى، عناصر الأجندة الاقتصادية السياسية القوية الجديدة موجودة، إلا لأن ترجمة النهج الجديد إلى قواعد جديدة ستتطلب مواجهة بقايا استحواذ الشركات، عندما كانت مصالح القطاع الخاص تملك نفوذًا على سياسة الحكومة، وهي ظاهرة أعاقت في الشهور القليلة الماضية الجهود الطموحة لإبقاء أسعار الدواء منخفضة.

لقد تحدى إجماع كورنوال الدول الثرية لتنبي رؤية عالمية اقتصادية جديدة، حيث تستطيع الدولة استخدام سلطتها لحد من نفوذ الشركات وتقديم إجراءات حماية جديدة للعمال والبيئة. ولمفاجأة الكثير من التقدميين الأمريكيين، يتفق الشاغلون الحاليون للفرع التنفيذي الأمريكي. في السياسة والأعمال والحياة اليومية، هناك علامات كثيرة على أن هيمنة الأفكار النيوليبرالية تنحسر، لكن مناصري إجماع كورنوال لديهم الكثير من العمل ليقنعوا أصحاب المصالح الأقوياء والعامة بقبول تفكيرهم. هناك عقبات كبيرة أمام تطبيق الأفكار الجديدة، مثل مصاعب العملية التشريعية، وتهديد شعبوية جناح اليمين في الولايات المتحدة والأماكن الأخرى، الذي يحاول تقديم بديله الخاص للوضع الراهن. لقد ازدادت جاذبية الشعبوية العدمية والأقل شمولًا على المستوى العرقي والديني في الخمس سنوات الأخيرة واكتسبت دعمًا في الأحزاب السياسية في دول كثيرة.

إن عودة ظهور القوى التي تسعى إلى تقويض الديمقراطية تُظهر أيضًا مدى الحاجة إلى رؤية اقتصادية أكثر شمولًا. وكما أظهر بحث حديث في علم الاجتماع والذي استعرض أكثر من 100 دولة عبر عدة عقود، استطاعت الديمقراطيات بناء الدعم الشعبي لمؤسساتها، لكن فقط عندما تكون ناجحة في تحقيق النمو الاقتصادي، والاستقرار، والصالح العام. هذا يذكرنا بملاحظات الرئيس الأمريكي فرانلكين روزفلت في 1938: “لقد اختفت الديمقراطية في عدة أمم عظيمة – ليس لأن شعوب تلك الأمم بغضت الديمقراطية، وإنما لأنهم سئموا من البطالة وانعدام الأمن، ومن رؤية أطفالهم جوعى بينما يجلسون عاجزين أمام ارتباك الحكومة وضعف الحكومة عبر غياب القيادة في الحكومة”. يوجد خطر مشابه اليوم. يجب أن تُظهر الحكومات أنها تستطيع العمل بشكل منفرد ومعًا من أجل الصالح العام. إن مستقبل الديمقراطية ربما يكون في خطر!

للاطلاع على الرابط الأصلي .. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا