في الليالي الباردة.. ما الذي يدعوك لتنام في حضن الجبل؟

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

هل جربت يوما أن تصعد جبلا، تسير بالساعات ليلا، يجاورك القمر، وتتناثر فوق رأسك النجوم، وتصير قريبا من السماء، بينما تتساقط فوقك نتف الثلوج البيضاء؟

عندما صعدت جبل موسى للمرة الأولى قررت أنها رحلة لن أقوم بها سوى مرة واحدة في العمر. كان التعب يقتلني وتأخرت ساعتين كاملتين في الوصول عن أصدقائي. وبعد أسبوعين فقط كنت على استعداد أن أعاود تلك الرحلة مرات ومرات.

ها أنا قد تقدمت في العمر ثلاثة أعوام، لكني أعود بمزيد من الشغف. أشد الرحال إلى تلك البقعة المقدسة. أترك دفء الفراش في الليالي الباردة، وأسير بالساعات، للنوم في حضن الجبل.

يسدل الليل ستائره، وترتاح السماء من ضجيج النهار، تبتسم وتغير من هيئتها لتصبح أكثر بهاء. تتبدل أماكن السحب وتسطع النجوم. ويمد إليك القمر يدا لتطاله، يغريك بالاقتراب. فتستجيب لندائه وتبادله حبا بحب.

بعد مسافات طويلة تقطعها من القاهرة، تصل سانت كاترين. ما إن تهبط على الأرض حتى يلفح الهواء البارد وجهك بقوة، كانت الأرصاد الجوية تشير إلى عاصفة ثلجية، وكانت سعادتنا غامرة أن الجبل ستكسوه الثلوج البيضاء.  

يقف دير سانت كاترين في جلال، يدفئنا وسط عواصف الريح، ويهبنا بركاته قبل التحرك إلى قمة الجبل. يرتفع صوت الدليل البدوي: عليكم تنظيم حركة التنفس، والسير بخطوات منتظمة. إذا تعب أحدكم على الباقين السير دون انتظار.

يتابع بلهجته السيناوية: الحركة البطيئة ترهقكم أكثر من الخطوة السريعة. أول ثلاثة كيلو مترات هي الأصعب لأن الطريق ممتلئ بالصخور. الحركة ستشعرك بالدفء، وارتداء جميع ملابسكم من الآن ستشعركم بالثقل. أمامنا كيلو ونصف حتى نصل إلى أول استراحة. ثم أعطى إشارته للتحرك.

لا اعلم كم مر من الدقائق وأنا نائمة. “أنت كويسة؟”.. فزعت للمرة الثانية مع شهقة ممتدة عندما اخترق السؤال سمعي فأيقظني. كان شابا يريد أن يطمئن وأنا الساكنة على حالي وسط من يلتقطون الصور، ويحاولون العثور على الشمس التي أبت ذلك اليوم أن تشرق علينا. احتجبت خلف السحب الكثيفة. سمعت شبابا كثيرين يسبون أنفسهم في غيظ لأنهم فكروا في خوض تلك التجربة. عرض علي الشاب أن يساعدني في الهبوط أن كنت اشعر بالتعب. شكرته وبدأت استمتع بمشهد الجبال المهيب من ذلك الارتفاع.

2285 مترا فوق سطح البحر تلزمك سيرا على الأقدام لتصل إلى قمة الجبل، تقطعها خلال أربع ساعات تقريبا. أعلى الجبل تواجهك كنيسة ومسجد. الكنيسة مغلقة معظم الأوقات وغالبا يزورها من يريد الوفاء بالنذور.

بدأت رحلة الهبوط، وانا أحمل البطانية على يد وأسند نفسي باليد الأخرى خوفا من الانزلاق. تماما كالطفل الذي يتعلم المشي، كانت هذه مشيتنا. نهبط بقدم ثم نقف لننقل إليها القدم الأخرى. نتحرك يمنة ويسرة بحثا عن موطيء قدم لا يسقطنا وعن موضوع ثلوج لا تجرفنا. على عكس المعتاد؛ كان الهبوط على تلك الدرجات الزلقة أصعب من الصعود. انزلقت قدمي أربعة مرات ورفعني من يسيرون خلفي أو بجانبي.

كنت اتمنى الوصول إلى الأتوبيس في أسرع وقت لألقي بجسدي المنهك فوق مقاعده. وكانت تلك الأمنية بعيدة عني ساعتين على الأقل. كلما نظرت بعيدا لأطمئن إلى انتهاء درجات السلالم، وجدتها أمامي ممتدة.

في ليالي الشتاء الباردة ما الذي يدعوك لترك فراشك الدافئ لتبيت في حضن الجبال؟ سؤال لن تعرف إجابته… وأنت راقد في فراشك الوثير. عليك أن تفعلها يوما لتكتشف الكنز خلال الرحلة.

بدأنا المسير وشعرت بنغزات منتظمة في قلبي من أول خطوة. كانت معرفتي السابقة بالجهد الذي علينا أن نبذله تخيفني وتجعلني أشعر بالاجهاد قبل أن أبذل أي مجهود حقيقي. وسألت نفسي ماذا لو توقف قلبي خلال الطريق.

أخشى الموت في كل وقت… الموت قريب جدا وأنت تصعد الجبل. انزلاقة قدم واحدة أو اختلال توازن قد يسقطك لتلقى حتفك في الحال. حاولت طمئنة نفسي، وتذكرت كلمات صديقتي في الرحلة السابقة “لا تخشوا السقوط وأنتم عالقون باسم الرب”.

تحولت قدمي إلى قطعتين من الثلج، تعصفان بكامل جسدي، وتوقفان شعر رأسي. كنت أسير بمفردي أغلب الوقت، تسبقني ابنة شقيقتي هي وصديقتها أو يتأخران عني. وصلنا الاستراحة الأولى. توقفنا عشر دقائق فقط. عاودنا المسير قبل أن تبرد أجسادنا كما أخبرنا الدليل.

كان دليلنا محمد عبيد، شاب في الثامنة والعشرين، يرتدي جلبابا أبيضا وفوقه سويتر كحلي، ويعصب رأسه بالشال. يحثنا طوال الطريق على المسير. يحمل حقيبتين أخذهما من أصحابهما ليخفف عنهما الثقل، يرتدي إحداهما على الصدر والأخرى على الظهر.

7 كيلو مترات علينا أن نقطعها قبل الوصول إلى قمة الجبل. ثلاث ساعات أو أكثر كانت المدة التي قضيناها قبل أن نصل المرحلة الأخيرة والأكثر صعوبة، وهي صعود 750 سلمة، عبارة عن صخور فوق بعضها متفاوتة الأشكال والأحجام، علينا أن نقطعها لنصل إلى قمة الجبل. على السلالم علينا ألا نتزاحم، وألا نسير جماعات، فكل درجة لا تتسع سوى إلى شخص أو اثنين.

فوق درجات السلالم، كنت أسير بساقي ويدي معا، أبحث عن الصخور لأسند يدي خوفا من السقوط، أو استند على الدرجة التي تعلوني. الثلوج تغطي كل شيء حولنا. توقفنا لنرتاح وأخذنا الدليل داخل إحدى الاستراحات لنتدفأ قليلا.

تنقصنا مائة درجة فقط.، أعلن الكثيرون استسلامهم، وقرروا عدم استكمال الصعود. أخبرتهم أنهم يضيعون أجمل مشهد في اللحظات الأخيرة، وهو مشاهدة الشمس وهي تشرق أسفل منهم، فلن يمكنهم أن يصبحوا أعلى ارتفاعا منها في مكان آخر. مشهد يستحق أن يقطعوا المسافة القصيرة الباقية.

بدأ البعض في الصعود وأعلن الباقون رفضهم القاطع للتحرك خطوة زائدة. سألني الدليل: إن كنت سأكمل الصعود ليقودني خلال الطريق؟ فقلت: نعم.

كان عبيد يقبض على يدي بقوة ليمنعني من الانزلاق فوق الصخور المغطاة بالثلوج. كانت يدي قطعة أخرى من الثلج المتناثر حولي في كل مكان، لا يحميها الجوانتي السميك. كنا وحيدين عبر مائة درجة من السلالم، علينا أن نقطعها… من أراد الصعود إلى القمة فقد سبقنا، ومن قرر البقاء في الاستراحة لم يجرؤ على مد رأسه ليتطلع إلى الخارج.

كان الهواء يصفر من حولي ويحيلني إلى كومة من المفاصل المتيبسة والجلد المنكمش. توقف عبيد ومد يده فجأة تجاه رأسي. انتفضت من الفزع وكدت أصرخ. أخبرني أنه يريد أن يلف الشال جيدا حول رأسي. أكملت الطريق وأنا ارتجف ولا زالت يدي داخل قبضته. وصلنا القمة فنزع البطانية التي يتدثر بها ولفها جيدا حول جسدي وأجلسني فوق الصخور في انتظار شروق الشمس.

لم يترك التعب قطعة سليمة في جسدي. من داخل البطانية التي لا يبدو منها سوى جزء صغير من وجهي؛ أحكمت وضع الشال فوق أنفي وفمي لتدفئة الهواء قليلا، قبل أن تخترق برودته رئتي. استغرقت في النوم دون أن أشعر. مرت أربع وعشرون ساعة كاملة على آخر مرة تذوقت فيها النوم داخل الأوتوبيس.

ربما يعجبك أيضا