كيف تستعيد الولايات المتحدة مكانتها كقوة تصنيعية عظمى؟

آية سيد
لماذا يجب أن تعود الولايات المتحدة قوة تصنيعية عظمى

خسرت الولايات المتحدة ما يصل إلى 3.7 مليون وظيفة نتيجة انتقال الصناعات ذات العمالة الكثيفة إلى الصين.


في العقود الأخيرة، لم تعد الولايات المتحدة “ورشة العالم”، وأصبحت معتمدة اعتمادًا متزايدًا على استيراد البضائع من الخارج.

وفي هذا السياق، يرى النائب الممثل لوادي السيليكون في الكونجرس الأمريكي، رو خانا، أن خسارة التصنيع لم تضر بالاقتصاد وحسب، بل بالديمقراطية الأمريكية أيضًا. وفق ما جاء في مقال له بمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.

العجز التجاري

كان العجز التجاري عاملًا مهمًا في تراجع القاعدة الصناعية الأمريكية. ويلفت خانا إلى أنه بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، تضخم العجز التجاري حتى وصل حاليًا إلى 309 مليار دولار.

هذا العجز يعكس التراجع في الصناعة المحلية، فلقد مثّل التصنيع 71% من التجارة العالمية في 2020. وحسب خانا، كان 73% تقريبًا من الواردات الأمريكية من الصين في 2019 بضائع مصنعة، ما يعني أن استمرار العجز التجاري مع بكين يخلق وظائف في الصين، بدلًا من الولايات المتحدة.

خسارة الوظائف

وفق الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ديفيد أوتور، خسرت الولايات المتحدة ما يصل إلى 3.7 مليون وظيفة، نتيجة انتقال الصناعات ذات العمالة الكثيفة إلى الصين، بسبب مكانة بكين التجارية الجديدة، وأجورها المنخفضة، وعملتها منخفضة القيمة.

وعلى الرغم من أن البعض يجادل بأن التشغيل الآلي (الأتمتة) هو السبب وراء خسارة الوظائف، يلفت خانا إلى أن الكثير من المواطنين في ولايات، مثل كارولينا الشمالية وأوهايو وبنسلفانيا، يعتقدون أن خسارة الوظائف في مجتمعاتهم مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنقل التصنيع إلى دول، مثل الصين والمكسيك وآسيا عمومًا.

هل يغني الابتكار عن التصنيع؟

حسب ما أفاد المقال، لا يندم الكثير من خبراء الاقتصاد وأصحاب الأعمال على خسارة التصنيع في الولايات المتحدة، مجادلين بأن اقتصاد الدولة أصبح موجهًا أكثر تجاه قطاع الخدمات وإنتاج المعرفة والابتكار.

لكن النائب الأمريكي يرى أن الابتكار مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بالإنتاج. وشركات التصنيع مسؤولة عن أكثر من نصف الإنفاق المحلي الأمريكي على البحث والتطوير.

مخاطرة غير محسوبة

يقتبس خانا من رئيس شركة “إنتل” الأمريكية، أندرو جروف، الذي قال منذ أكثر من عقد إن جزءًا أساسي من الابتكار هو “التوسع” الذي يحدث عندما تنتقل التكنولوجيات الجديدة من النماذج الأولية إلى الإنتاج الضخم.

لكن هذا التوسع لا يحدث في الولايات المتحدة، لأن الكثير من التصنيع انتقل إلى الخارج. وحذر جروف من أن هذا يخاطر بخسارة واشنطن لسيطرتها على التكنولوجيات الحديثة، ما يضر بقدرتها على الابتكار. وكذلك فإن وظائف قطاع الخدمات تُعد غير مستقرة وذات أجور منخفضة، مقارنة بوظائف قطاع التصنيع، حسب خانا.

بؤرة توتر

يقول النائب الأمريكي إن العجز التجاري الهائل مع الصين أصبح “بؤرة توتر” في السياسة الأمريكية. وفي أثناء الحرب التجارية، التي شنها الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، انخفض العجز مع الصين بقرابة 100 مليار دولار بين 2018 و2020.

لكن على الرغم من أن رسومه الجمركية بدأت في سد الثغرات في قطاع التصنيع الأمريكي، افتقر ترامب لأجندة شاملة تعيد الولايات المتحدة إلى التصنيع. وارتفع العجز مجددًا في 2021 خلال جائحة كوفيد-19، عندما مكث الأمريكيون في منازلهم وارتفعت مشترياتهم من الأجهزة المنزلية والإلكترونيات المصنوعة في الصين.

عقبة رئيسة

تواجه الصناعات الأمريكية عقبة رئيسة عند محاولة تصدير منتجاتها، وهي قوة الدولار الأمريكي، وفق خانا، لأن الدولار أكثر جذبًا واستقرارًا من اليورو، أو الروبية الهندية، أو الين الياباني، أو الرنمينبي الصيني.

والمفارقة الكامنة في امتلاك عملة الاحتياطي العالمي، هي أن الولايات المتحدة تدعم صادرات بقية العالم، في حين تجعل المنتجات والخدمات الأمريكية باهظة التكلفة، لتنافس بقوة في الأسواق العالمية. وفي الوقت نفسه، تواصل الصين، أكبر مُصدِّر في العالم، إبقاء قيمة عملتها منخفضة بطريقة مصطنعة، بما يعزز صادراتها.

إجراءات مضادة

يشير النائب الأمريكي إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل بسرعة لمواجهة اختلالات السوق. والخطوة الأولى هي التفاوض على اتفاق للعملة والبضائع مع الصين، مثلما فعل الرئيس رونالد ريجان في اتفاق بلازا 1985 مع ألمانيا واليابان، عندما وافقتا على الحد من إغراق الولايات المتحدة بسلعهما المصنعة وقبلتا خفض قيمة الدولار لتعزيز الطلب العالمي على الصادرات الأمريكية المتعثرة.

ويتعين على المسؤولين الأمريكيين اتباع نهج مماثل مع الصين، لأنه من المستبعد أن تتعاون بكين إذا لم تهدد واشنطن برسوم جمركية محددة الأهداف مثلما فعلت مع ألمانيا واليابان.

وثانيًا، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعيد تنشيط بنك التصدير والاستيراد وتستثمر فيه، وهو وكالة ائتمان التصدير الرسمية للحكومة الأمريكية، التي تساعد الشركات الأمريكية في بيع بضائعها بالخارج. ويجب أن تركز واشنطن على دعم صادرات تكنولوجيا الطاقة النظيفة حول العالم للتنافس مع صادرات الصين، مثل البطاريات والألواح الشمسية.

اختلال التوازن التجاري

ناقش خانا الكثير من هذه الأمور مع السفير الصيني بالولايات المتحدة، تشين جانج، الذي أشار بدوره إلى أن حروب الأفيون، التي اندلعت بين الصين وبريطانيا في القرن الـ19، نجمت عن اختلال التوازن التجاري بين البلدين.

وعلى الرغم من أن هذا الصراع اندلع في سياق عصر من التوسع الإمبريالي الأوروبي العدواني، لفت السفير إلى أنه مثال قوي على كيف يمكن للعجز التجاري أن يثير الصراع بين بلدين.

ويوضح خانا أنه في الوقت الحاضر، منافسة القوى العظمى والأطماع الصينية الكامنة تشعل التوترات بين بكين وواشنطن، لكن العجز التجاري يغذي العداوة، ويفاقم مخاوف الكثير من الأمريكيين، الذين ينشدون الأمن الاقتصادي. ولذلك، فإن إعادة التوازن التجاري سيقلل الاستياء في الولايات المتحدة من الصين.

التصنيع في أمريكا

تحتاج الولايات المتحدة إلى تصنيع المزيد من المنتجات في الداخل، ويقترح خانا أن تبدأ بإنشاء “مجلس تنمية اقتصادية” جديد للاستثمار في الصناعات وبناء شراكات معها. ويجب أن يجمع هذا المجلس الوكالات الحكومية الرئيسة وممثلي القطاع الخاص لتحديد الاستثمار الرأسمالي اللازم لجعل الولايات المتحدة قوة التصنيع الرائدة في العالم مرة أخرى.

ويتعين على الكونجرس تمرير إعفاء ضريبي لإقناع الشركات بإعادة إنتاجها إلى الولايات المتحدة، وفرض ضريبة 10% على الشركات الأمريكية التي تغلق منشآتها وتنقل وظائف التصنيع إلى الخارج. وينبغي كذلك أن تنشط الولايات المتحدة الإنتاج في صناعات رئيسة معينة، مثل الصلب والألومنيوم.

الصناعات المستقبلية

إضافة إلى ما سبق، يوضح خانا أن الولايات المتحدة تحتاج إلى التركيز على الحصول على المواد والمكونات اللازمة للصناعات المستقبلية، مثل المعادن الأرضية النادرة، والليثيوم، والكوبالت، والجرافيت، لبناء مستقبل الطاقة الخضراء.

وكذلك يجب على المسؤولين الأمريكيين تحديد المنظومات الدفاعية التي تعتمد على منتجات صينية الصنع، وتحديد بلد المنشأ لمكونات كل المعدات الدفاعية وإيجاد مصادر بديلة في حالة نشوب خلافات أو اضطرابات مستقبلية.

عولمة راسخة

يلفت النائب الأمريكي إلى أن انعكاسات استعادة الصناعة الأمريكية ستكون هائلة. هذا لأن العولمة فشلت في مساعدة الديمقراطيات على الازدهار، بل أدت إلى تراجعها. وفي الولايات المتحدة وأوروبا، ارتفع الاستقطاب والقومية اليمينية المتطرفة، وأثار الكثير من الشخصيات السياسية المخاوف من المهاجرين في أعقاب خسائر الوظائف الصناعية.

ويجب على القادة الأمريكيين تنشيط المجتمعات في الدولة عبر تعزيز الإنتاج المحلي وإعادة التوازن التجاري. لكن حتى لو حدث ذلك، ستظل الصين منافسًا، وفق خانا. لذلك ينبغي أن تعمل الولايات المتحدة مع الصين لمنع تحول المنافسة إلى حرب، وأن يتعاون البلدان في القضايا ذات الاهتمام المشترك، مثل تغير المناخ، والحد من التسلح.

وختامًا، يقول خانا إن إعادة التوازن التجاري عبر الإنتاج المحلي ستساعد في خفض حدة التوترات مع الصين، وتحقيق وعد الديمقراطية المزدهرة في الوطن، وضمان أن العولمة تعمل لصالح كل الأمريكيين. لذلك، يتعين على الأمريكيين تبني روح وطنية اقتصادية جديدة تدعو إلى زيادة الإنتاج المحلي، وإعادة الوظائف من الخارج، وتعزيز الصادرات،

ربما يعجبك أيضا