كيف غيَّر تصاعد التهديدات في آسيا العقيدة العسكرية لليابان؟

رنا أسامة

تهديدات آسيا المتصاعدة دفعت إلى تغييرات تاريخية في السياسة الأمنية لليابان، بما في ذلك مضاعفة ميزانيتها العسكرية على مدى الـ 5 سنوات المقبلة. وفي حين أن طوكيو تنفق حاليًا 54 مليار دولار على شؤون الدفاع، من المتوقع أن تنفق قرابة 80 مليار دولار بعام 2027.


في 16 ديسمبر 2022، اتخذت اليابان خطوة كبرى، في مسار أن تصبح قوة عالمية “بمعنى الكلمة”.

ويأتي ذلك بعدما أقرت اليابان تغييرات جذرية، في سياستها القائمة على ضبط النفس العسكري، حسب ما ذكرت الأستاذة المساعدة بكلية “دارتموث” الأمريكية، جينيفر ليند، في تقرير نشرته مجلة “فورين أفيرز”، 23 ديسمبر 2022.

تحوُّل عميق

بموجب استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة، لن تكتفي طوكيو بمضاعفة إنفاقها العسكري، بل ستضيف أيضًا 315 مليار دولار إلى ميزانيتها الدفاعية خلال الـ5 أعوام المقبلة، كما أنها ستطور قدرة “هجوم مضاد” جديدة، تمكنها من شن هجمات انتقامية، في “خروج ملحوظ” عن استراتيجيتها السابقة.

وتنطوي تلك الاستراتيجية على تحول عميق في العقيدة العسكرية اليابانية، وفق التقرير، فقد لاحظ مراقبون دوليون منذ عدة سنوات أن اليابان تتمتع بإمكانات ديموجرافية واقتصادية وتكنولوجية تؤهلها لأن تصبح قوة عظمى، ذلك أنها تلعب دورًا بارزًا في الحوكمة العالمية، والتنمية، والتكنولوجيا، والفنون، والثقافة.

ضبط نفس عسكري

عسكريًّا، قصرت طوكيو أنشطتها على حفظ السلام متعدد الأطراف، والتحالف الأمريكي الياباني، وقلصت إنفاقها الدفاعي منذ عام 1958 إلى 1% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين مثّل ضبط النفس العسكري جوهر سياسة الأمن القومي اليابانية، منذ الحرب العالمية الثانية، حسب التقرير.

وخلال الحرب الباردة، حدت حكومات طوكيو المتعاقبة من نفوذ الجيش الياباني في السياسة، ونأت بنفسها عن “فن الحكم العسكري”. وقد ضغطت الولايات المتحدة، في عدة مناسبات، على اليابان لزيادة الإنفاق على شؤون الدفاع، وحث محافظون بالحزب الديمقراطي الليبرالي المهيمن في البلاد على تعزيز القدرات الدفاعية.

استراتيجية الأمن القومي الياباني 1

عقيدة «الدفاع الوقائي»

هذه الدعوات اصطدمت بعقيدة “الدفاع الوقائي”، التي تبنتها اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ويقتصر دور الجيش بموجبها على الدفاع عن النفس، مع تجنب القدرات والمهمات الهجومية. وهذه العقيدة المتأصلة بدستور اليابان وتشريعاته لاقت ترحيبًا من الرأي العام الياباني وأحزاب معارضة حذرة.

وفي الوقت نفسه، فإن السياسة الأمنية اليابانية شديدة التقييد أفرزت محظورات وخطوطًا حمراء عديدة حول أمور، من بينها استعراض القوة، وفرض حظر، على سبيل المثال، على الصواريخ بعيدة المدى، إلى جانب القدرات البرمائية، وحاملات الطائرات.

تغيير مذهل

في أوقات التهديد المتزايد، كانت طوكيو تراجع أحيانًا أفكارها بشأن الأدوار والقدرات الدفاعية والهجومية. وأشار التقرير، في هذا الصدد، إلى أن اليابان قررت الحصول على أقمار صناعية عسكرية، كانت تعدها سابقًا عسكرة غير قانونية للفضاء، وذلك بعد اختبار كوريا الشمالية صاروخًا فوق اليابان عام 1998.

وفيما تملك اليابان الآن حاملات طائرات صغيرة وسلاح لمشاة البحرية، فإن سياستها الدفاعية لا تزال ثابتة على نطاق واسع. ومع ذلك، وصف التقرير استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة بأنها “تغيير مذهل”، يخول للحكومة اليابانية سن سياسات كان يجري بحثها لعقود، ولكن من دون جدوى.

اليابان

«مواطن عالمي مسؤول»

قد ينظر منتقدون في بكين ودول أخرى إلى الاستراتيجية اليابانية الجديدة، بوصفها إيذانًا بعودة طوكيو إلى النزعة العسكرية، التي سادت ماضيها المظلم، ولكن التقرير رأى أن هذا افتراض خاطئ، مشددًا على أن اليابان “مواطن عالمي مسؤول”، بريادتها بقطاعات عدة على الساحة الدولية.

وذكر التقرير أن طوكيو بدأت ترد، بعد تردد كبير، على التهديدات الإقليمية المتزايدة، مشيرًا إلى أن استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي تستحق الإشادة من واشنطن وشركائها، نظرًا إلى أن “الدولة المسالمة ذات الموارد الاقتصادية والتكنولوجية الهائلة، تعزز مساهمتها في الأمن الإقليمي”.

تحديات آسيا

ربط التقرير “التحول التاريخي” في اليابان بالتحديات الهائلة الجديدة في آسيا، بما في ذلك انخراط الصين في أسلحة تقليدية ونووية، في وقت تشن فيه طائرات وسفن عسكرية صينية غارات عسكرية متكررة، بالمياه اليابانية وحول الجزر المتنازع عليها مع اليابان، وسط تعاون ياباني مكثف مع شركاء إقليميين.

وبالتوازي، يتزايد تهديد بكين لتايوان، تلك الجزيرة التي تحتفي اليابان بديمقراطيتها، وتنظر إلى “استقلالها” بوصفها أمرًا حاسمًا لأمن طوكيو. ومع تنامي التهديدات العسكرية للصين، تثير حكومتها مشاعر قومية معادية لليابان، وتعيد التذكير بفظائع يزعم أنها ارتكبتها إبان الحرب العالمية الثانية.

أسلحة نووية للصين

تهديد كوريا الشمالية

بخلاف الصين، نوه التقرير بتهديد كوريا الشمالية، التي زادت وتيرة اختباراتها الصاروخية، بإجراء 86 اختبارًا هذا العام، مقارنة بأعلى مستوى سابق، بلغ 26 اختبارًا في عام 2019. وألف اليابانيون سماع صافرات إنذار، وتحذيرات بالاحتماء، في حين تمر صواريخ بيونج يانج عبر أجواء بلادهم.

ومنذ عام 2006، أجرت بيونج يانج 6 تجارب نووية، وسط تحذيرات من تجربة سابعة. وانطلاقًا من ترسانة كانت تضم قنابل انشطارية صغيرة، تحرز كوريا الشمالية تقدمًا ملموسًا نحو تطوير أسلحة نووية حرارية، في حين غيرت عقيدتها النووية لتسمح بضربات وقائية وأسلحة نووية تكتيكية بساحة المعركة.

تغييرات تاريخية

أحدثت الحرب الروسية الأوكرانية تغييرًا في مدركات اليابانيين أيضًا، وفي حين دعم الرأي العام الياباني بشدة جهود العقوبات ضد روسيا، فإن نجاح دفاعات أوكرانيا في صد هجمات الروس بعث برسالة إلى اليابان، بضرورة استعدادها عسكريًّا لأي عدوان محتمل.

ووفق التقرير، فإن تهديدات آسيا المتصاعدة دفعت إلى تغييرات تاريخية في السياسة الأمنية لليابان، بما في ذلك مضاعفة ميزانيتها العسكرية على مدى الـ5 سنوات المقبلة. وفي حين أن طوكيو تنفق حاليًّا 54 مليار دولار على شؤون الدفاع، من المتوقع أن تنفق قرابة 80 مليار دولار بعام 2027.

اليابان...

تحول دفاعي

بموجب تلك التغييرات، ستصبح اليابان، التاسعة عالميًّا من حيث الإنفاق العسكري، ثالث أكبر منفق على الدفاع بالعالم، بعد كل من الولايات المتحدة والصين. وستتخطى الهند والسعودية وقوى أوروبية كبرى، رغم أن إعلان ألمانيا زيادة في الإنفاق الدفاعي، قد يدفعها إلى صدارة هذه القائمة أيضًا.

وفي الوقت عينه، فإن القدرات الصاروخية المتنامية للصين وكوريا الشمالية، تقود طوكيو إلى التحول من الاعتماد على الدفاع الصاروخي إلى تبني قدرات “الضربة المضادة”، لا سيما أنه في حالة نشوب حرب بكوريا أو تايوان، قد يستهدف الخصم القواعد اليابانية لتدمير مطارات رئيسة تستخدمها القوات الأمريكية.

تطور ملحوظ

احتضان طوكيو قدرات “الضربات المضادة”، ومضاعفة ميزانيتها الدفاعية، مع تعزيز تعاونها الأمني مع سيول يمثل، وفق التقرير، تطورًا ملحوظًا في إطار تغييرات مدفوعة بالرغبة في الحماية، لا الطموح، في ما تتفاوض عليه بشفافية مع شركائها أمام جمهور يقظ وحذر.

ومن وجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها، فإن تحركات اليابان تعد أخبارًا جيدة، تعكس انخراطًا لافتًا لـ”دولة مسالمة”، من أجل تعزيز الأمن في آسيا.

ربما يعجبك أيضا