محمود درويش.. كلامكِ كان أغنية لكننا لم نتقن سوى مرثية الوطن

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

في إحدى أمسياته الشعرية بواشنطن عام 1973، وقع نظر الشاعر الفلسطيني محمود درويش على الكاتبة السورية رنا صباح قباني، ابنة شقيق الشاعر نزار قباني. لم ينقل نظره من عليها، وبعد انتهاء الأمسية طلب منها الزواج، فوافقت في نفس اللحظة!

كانت رنا تصغره بستة عشر عامًا، ورغم الحب الذي حدث من أول نظرة، كانت علاقتهما التي استمرت ثلاث أو أربع سنوات، يسودها التوتر والتقلب، وعندما أرادت زوجته الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة كمبردج قررا الانفصال. 

وعن علاقتها بدرويش، قالت “رنا”:”إن محمود لم يخلق ليكون زوجًا ورب أسرة وأب، فهو شاعر رائع، لكنه في الوقت نفسه زوج فاشل”.

وفي عام 1984، رأى درويش الفنانة والمترجمة المصرية حياة الهيني، في حفلة أقامها أحد أصدقاءه، وقابلها مرة أخرى في نفس المكان بعد عام، وبدأت قصة حب بينهما، ثم تطورت إلى زواج، لم يستمر سوى بضعة أشهر.

وطلب من “الهيني” في فيلم عن “درويش”، أن تقول له وعنه وعن أسباب الطلاق، فابتسمت وردت بجملة واحدة “ستبقى بعيني ولحمي ملاك”، وقال عنه الشاعر الفلسطيني “لم نُصب بأية جراح، انفصلنا بسلام”.

عن الفشل في علاقاته الزوجية، يقول: “أحب أن أقع في الحب وحين ينتهي أدرك أنه لم يكن حبًا.. الحب لا بد أن يُعاش لا أن يتذكر، إنني مُدمن على الوحدة، الشعر محور حياتي ما يساعد شعري أفعله وما يضره أتجنبه، والمؤسسة الزوجية قيد يجب أن يبتعد عنها أي إنسان يحمل في داخله بذرة فن أو ابداع”. “لم أشأ أبداً أن يكون لي أولاد، وقد أكون خائفاً من المسؤولية، ما تحتاجه استقراراً أكثر، أغيّر رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي”.

“أنا من مواليد برج الحوت، وهو برج متقلّب.. عشت قصص حب كثيرة، لكننى لم أعِش قصة حب كبيرة، هكذا مولود برج الحوت: شغوف، عاطفى، الحب في حياته كماء البحر، فالحوت مائى لا يعيش من دون بحر، ومن دون حب ولو في الخيال، وهذا البرج العاشق لا يحب مرّة ولا مرّتين، بل مرات، وفى كل مرة يكون مخلصًا للحب لا للحبيب”.

“أكتب عن المرأة في حالة الحرمان والغياب، لكن في حالة التحقق لا أكتب عنها”.. اعتمدت تجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش الشعرية على ثنائية الأرض والمرأة بوصفهما مصدرين للحياة. فالمرأة في شعر درويش، كما تقول الكاتبة آية الأسمر، تمثل رمزا للوطن والانتماء وكل ما يمت للمنزل من الشعور بالدفء والحنان.

ودرويش لم يتناول المرأة كمرأة، إما كانسان يذكرها كأم وحبيبة وتبقى ذات حضور في المشهد الإنساني، كما تقول الكاتبة خديجة الحباشنة، فهو لا يمتلك لغة أو شعرا خاصا بالمرأة، إنما يأتي ذكرها كما يأتي ذكر أي موضوع آخر في رؤيته ورسالته للإنسان تلك الاشياء التي جعلت منه شاعرا عالميا.

محمود درويش واحد من أرقّ شعراء العاطفة وأغناهم في تاريخ الشعر العربي الحديث، فرغم أنه شاعر القضية الفلسطينية الأول، إلا أنه من جهة أخرى شاعر المرأة الأول، فقد أفرد لها مساحة كبيرة في قلبه وأدبه، كما يقول إسماعيل السعافين في كتابه “المرأة في قلب محمود درويش: جماليات نصوص الحب”.

يقسم السعافين ثيمة الحب في قصائد درويش إلى مرحلة الشباب وجماليات قصائد “الحبّ تحت الاحتلال”، الثانية مرحلة الأوج وجماليات قصائد “الحب في المنفى”، والثالثة مرحلة التأمل وجماليات قصائد “الحب حتى الموت”.

منذ انطلاقة درويش الشعرية عام 1960 حتى خروجه من فلسطين عام 1970، اشتعل قلبه بالحماسة والحب، ليكتب الشعر في المرأة والوطن قائلا “أكتب عن الحب الذي ولد في وسط قضية فيحمل ملامحها وهمومها ويصبح جزءا منها”، فكان حبه للمرأة في هذه المرحلة متأثرا بمعاناة وطنه من الاحتلال والقهر. فكان في القصيدة الواحدة يتحدث عن حبيبته وعن الوطن، لتختلط معا معاني الحب والوطن والحرية.

كلامك كان أغنية
وكنت أحاول الإنشاد
ولكن الشقاء أحاط بالشفقة الربيعيّة
كلامك.. كالسنونو طار من بيتي
فهاجر باب منزلنا، وعتبتنا الخريفيّة
وراءك، حيث شاء الشوق..
وانكسرت مرايانا
فصار الحزن ألفين
ولملمنا شظايا الصوت!
لم نتقن سوى مرثية الوطن
سننزعها معا في صدر جيتار
وفق سطوح نكبتنا، سنعزفها

المرحلة الثانية في شعر درويش بدأت منذ التحاقه بصفوف الثورة الفلسطينية في بيروت 1972 حتى خروجه منها عام 1982 إلى باريس حتى 1994، وتنقل خلالها بين عواصم العالم، لكن ظلت باريس هي المكان المحبب إلى نفسه.

في هذه المرحلة اتسعت تجربة درويش، وذاع صيته، وتعمقت ثقافته في العمل الوطني بانخراطه في الخنادق الأمامية لصفوف المقاومة، لذلك أعطى الأولوية لشعر المقاومة، بينما خفت حضور المرأة، لكنها رغم ذلك ظلت امتدادا رمزيا للأرض المحتلة.

وعن شعر المقاومة يقول درويش “سمانا غسان كنفاني شعراء مقاومة دون أن نعلم أننا كذلك، كنا نكتب حياتنا كما نعيشها ونراها، ونكتب أحلامنا بالحرية، وإصرارنا على أن نكون كما نريد.. وكنا نكتب قصائد حب للوطن، ولنساء محددات، فليس كل شيء رمزيا، وليس (كل ساق شجرة ناحلة خصر امرأة أو بالعكس)”.

المرحلة الثالثة يصفها الباحث إسماعيل السعافين، بأنها مرحلة التأمل والحكمة والجمال، وتبدأ منذ عودة درويش للعيش في رام الله عام 1994 حتى رحيله في 10 أغسطس 2008. وهي مرحلة العودة واللاعودة، فقد عاد إلى وطنه، لكنه لم يعد إلى موطن الطفولة. في هذه المرحلة أعطى الحب أهمية خاصة فلم يربطه بالحالة السياسية التي يعيشها، وإنما بجوّه النفسي الخاص.

يقول درويش: “لست من الذين ينظرون إلى المرآة برضى.. المرأة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكا لغيرها، أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها، فإذا وجد ما يشبهه فيها أو يعنيه من تعبير وتصوير قال هذا أنا، وإذا لم يحصل على شراكة في النص (الصورة) أشاح بوجهه قائلاً: لا شأن لي”.

أحب السفر
إلى قريةٍ لم تعلّق مسائي الأخير على سروها. وأحب الشجر
على سطح بيتٍ رآنا نعذّب عصفورتين، رآنا نربي الحصى
أما كان في وسعنا أن نربي أيامنا
لتنمو على مهل في اتجاه النبات؟ أحب سقوط المطر
على سيدات المروج البعيدة. ماءٌ يضيء. ورائحة صلبةٌ كالحجرْ
أما كان في وسعنا أن نغافل أعمارنا،
وأن نتطلع أكثر نحو السماء الأخيرة قبل أفول القمر؟
أحب الرحيل
إلى أي ريحٍ .. ولكنني لا أحب الوصول.

ربما يعجبك أيضا