مركز تحليل السياسة الأوروبية | كازاخستان.. انهيار نموذج «الاستبداد المتنوّر»

شهاب ممدوح

رؤية

ترجمة – شهاب ممدوح

تواجه كازاخستان في وقت كتابة هذا المقال (الخامس من يناير) ما يبدو أنها محاولة من مواطنيها للإطاحة بالنخبة السياسية الموالية لروسيا التي تدير البلاد منذ الاستقلال في مطلع التسعينيات. لقد أدّى الفساد والحُكم عديم الكفاءة واستئثار جماعة واحدة بالسلطة لفترة طويلة للغاية، إضافة بالطبع إلى ارتفاع أسعار الطاقة، لاندلاع ثورة في البلاد.

تعرّضت مبانٍ لهجوم، وغيّر ضباط الشرطة ولاءهم، وكانت النتيجة مرتبكة. في الليلة الماضية، صرّحت “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” التي تهيمن عليها روسيا، أنها سترسل “قوات حفظ سلام” لإخماد الاحتجاجات الشعبية، بعد ساعات فقط من تصريح المتحدث باسم الكرملين أن البلاد ليست بحاجة لمساعدة خارجية. إن مثل هذه التصريحات المتناقضة الصادرة عن الآلة الحكومية الروسية المعروفة بتصريحاتها المتناسقة عادة، تُظهر أن الأحداث تسير بسرعة بالغة.

ذكرت تقارير أن الحكومة فقدت السيطرة على مطار “ألمآتي” بعد سقوطه في أيدي محتجين، وذكرت وكالة “تاس” أن النيران اندلعت في القصر الرئاسي والمبني الحكومي الإداري الرئيسي، كما قُتل ثمانية أفراد من قوات الأمن على أقل تقدير، فيما سارعت وسائل الإعلام الروسية باتهام الغرب بالوقوف خلف تلك الانتفاضة. إن اتهام قوى أجنبية بإثارة الاضطرابات الشعبية أو أي محاولة ثورية، كان دومًا عنصرًا ثابتًا في البلدان التي كانت يومًا ما جزءًا من الاتحاد السوفيتي. يُستخدم هذا الادعاء، والذي روّج له الكرملين عمومًا، للإيحاء بأن الشعوب الوطنية يسهل التلاعب بها وأنه ليس لها مظالم أو طموحات خاصة بها. لنأخذ مثلا جورجيا في عام 2003، وأوكرانيا في أعوام 2004 و2013 و2014، أو أرمينيا عام 2018. تعود جميع تلك الاضطرابات لمشاكل اجتماعية عميقة ناجمة عن أسباب محلية صرفه، ولم تكن العوامل الجيوساسية سببًا أساسيًّا لها.

غير أن إنكار السياق الجيوسياسي الأوسع للاحتجاجات الكازاخية، قد لا يكون صحيحًا تمامًا. إن كازاخستان حليف وثيق لروسيا وهي عضوة في “منظمة معاهدة التحالف الأمني الجماعي” (وهو تحالف عسكري بقيادة روسيا) وعضوة أيضًا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وتستضيف قاعدة “بايكنور” الفضائية الروسية. إن عودة المدّ الثوري بشكل منتظم في مناطق حدودية لروسيا، ينظر إليه الكرملين على نحو متزايد بأنه جزء من المنافسة بين الغرب وروسيا. والأمر الذي يجعل الكرملين أكثر توجسًا هو توقيت هذه الأحداث. بدأت الاحتجاجات قبل محادثات يوم الإثنين (العاشر من يناير) مع الولايات المتحدة بشأن “الضمانات” الأمنية، وهي عبارة عن سلسلة من قيود ضمن معاهدة الهدف منها تقييد جيران روسيا والحدّ من سيادتهم.

بالنظر إلى أهمية كازاخستان إلى روسيا، فإن الأمر المؤكد الوحيد هو أن الردّ الروسي لن يكون هادئًا: عمل فلاديمير بوتين ومسؤولوه بالفعل لإثارة أزمة أمنية خطيرة عبر نقل نحو 100 ألف جندي إلى حدود أوكرانيا للتأكيد على فكرة أن جيران روسيا لا يمكنهم بسهولة الخروج من دائرة نفوذها. أوضح الكرملين جليًّا أنه سيحتفظ بما يملكه. إن الانقلاب على أصوات الناخبين المؤيدين للديمقراطية في بيلاروسيا عام 2020، يُظهر المدى الذي يمكن أن تذهب إليه روسيا في مساعدة قوى محلية عبر ممارسة تعذيب وقمع واسعين للإبقاء على الحلفاء في السلطة.

والإشارات الأولى لم تكن جيدة؛ إذ وصف الرئيس الكازاخي “قاسم جومارت توكاييف” المحتجين بأنهم “إرهابيون” وطلب مساعدة عسكرية روسية بموجب معاهدة “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”. وأشارت تقارير إلى أن روسيا أرسلت “وفدًا خاصًا” إلى البلاد. تشير تجارب سابقة إلى أن بوتين، المعروف بمهارته في استغلال الأحداث، سينظر إلى الموقف باعتباره فرصة وليس كارثة. ومن المتوقع أن تشكّل هذه الانتفاضة الكازاخية المفاجئة عنصرًا مهمًا في سياسته الأوسع الخاصة بأوكرانيا والمناطق الحدودية.   

هناك تداعيات أخرى أيضًا؛ فالاحتجاجات يمكن أن تعطل عمليات خطوط أنابيب الغاز، ما يعقد دور البلاد بوصفها طريق عبور. ويمكن أن تعقد أيضًا الوضع لمبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تلعب فيها كازاخستان دورًا كبيرًا. قد تتحمل قرغيزستان المجاورة العبء الأكبر لغلق طرق العبور، إذ تخشى شركاتها من تأثير الموجة الثورية على اقتصادها الضعيف.

علاوة على هذا، ربما يكون لكازاخستان البعيدة تأثير هائل على الطريقة التي يُنظر بها إلى الاستبداد المتنوّر حول العالم. فقد يتساءل مؤيدو هذا النوع من الأنظمة: ما فائدة نظام غالبًا ما يُطيح به مواطنوه؟

إن الحركة الثورية في كازاخستان هي في الوقت الراهن مجرد حركة وطنية تسعى وراء تغييرات اجتماعية عميقة، وبفضل موقع البلاد وشواغلها الأمنية، فإنه من غير المتوقع أن تتبع أي حكومة جديدة سياسة خارجية مختلفة تمامًا.

مع هذا، ستؤثر الأحداث في كازاخستان على جيرانها. وستؤثر على طريقة نظر روسيا إلى منطقتها المجاورة المستقرة نسبيًا. إن كازاخستان ليست قرغيزستان التي لم يسفر التغيير (العنيف) لحكومتها عن تأثير أوسع. لكن الأحداث في كازاخستان يمكن أن يكون لها تأثير، والأمر الأكثر أهمية هنا أن هذه الأحداث ستظهر ما إذا كان الانتقال السلمي نسبيًّا للسلطة هو أمر ممكن حدوثه.

إن هذه الثورة الجارية الآن ستجعل القادة “الأقوياء” الموالين لروسيا يشعرون بأنهم يسيرون على طريق جليدي هشّ، كما توضح أيضًا أنه حتى لو كانت الدولة المستبدة تبدو مستقرة ظاهريًّا، فإنها ربما تنزلق وتسقط فجأة. ما مدى شعور الرئيس البيلاروسي “أليكسندر لوكاشينكو” بالثقة وهو يراقب تطور الأحداث في كازاخستان؟ وما مدى ثقة بوتين وأجهزته الأمنية، وما مدى قدرتهم على التعامل مع هذه المشكلة في المستقبل؟

تُظهر الاحتجاجات في كازاخستان أن الاستبداد المتنوّر لا يمكن أن ينجح لزمن طويل، وأن السبيل الوحيد لبقاء الاستبداد هو عبر استخدام القوة. إن فترة بقاء مجموعة الدولة المستبدة المستقرة في منطقة أوراسيا هي أقل مما كانت تبدو عليه في الماضي، ولا شك أن قلق الصين من هذا الوضع لا يقل عن قلق روسيا، فهي الأخرى تفضّل مبدأ “ويستفاليا” القائم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية. لكنها من الناحية العملية، تمامًا مثل روسيا، ربما تجد أنه من غير المستساغ السماح بتجذر الديمقراطية في جوارها المباشر. تبدأ الثورات عادة بأمل حقيقي بالتغيير، لكن غالبًا ما ينتهي بها المطاف لأن تكون ضحية تداعيات جيوسياسية مؤسفة.

لقراءة النص الأصلي.. اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا