معهد أبحاث السياسة الخارجية | خلل النظام في كازاخستان

آية سيد

رؤية

ترجمة – آية سيد

ربما تكون عبارة مبتذلة.. لكن أزمة كازاخستان الدرامية الجارية تُذكّرنا بواحدة من أشهر مقولات لينين: “هناك عقود حيث لا يحدث شيء، وهناك أسابيع حيث تحدث عقود من الأحداث”. لم تشهد كازاخستان لسنوات كثيرة أي تغيير سياسي أو نمو اقتصادي، تحت حكم نظام تهيمن عليه نخبة فاسدة مهتمة بالاستثمار في العقارات الفاخرة الغربية أكثر بكثير من اهتمامها بإعادة تشكيل الدولة التي نُهبت منها الثروة المستخدمة في تمويل تلك المشتريات، إلا أنه دون سابق إنذار تقريبًا، تواجه كازاخستان سلسلة من الأزمات غير المسبوقة والتي انفجرت على مدار الأيام الماضية: مظاهرات غير عادية والتي أصبحت عنيفة، وانشقاقات في صفوف الشرطة، وصراع محتمل على السلطة بين رئيسيها، ورحيل لنخب رجال الأعمال، وتدخل روسي.

بدأت الاحتجاجات بعد بداية السنة الجديدة في الجزء الغربي الغني بالموارد من البلاد. هذا الجزء من كازاخستان يملك تاريخًا من المعارضة النادرة بسبب نقص الاستثمار مقارنة بالثروة التي تدرها المنطقة ونقص التمثيل الفعال في السياسة الوطنية. اندلعت الاحتجاجات بسبب تحرير سعر وقود الغاز النفطي المسال، والذي جعل تكاليف السائقين تتضاعف مع بداية العام. انتشر الاضطراب سريعًا إلى المدن الكبرى، مثل العاصمة التجارية ألماتي. في 5 يناير، أعلن الرئيس قاسم جومرت توكاييف عن سقف جديد للأسعار، ودعا إلى الهدوء، وأمر بإجراء تعديلات في الحكومة والأجهزة الأمنية القوية. مع هذا، تصاعد الموقف باقتحام المحتجين لمطار ألماتي، ومجلس المدينة، والمقر الرئاسي. شهدت المدن الأخرى احتجاجات أيضًا، وفي تالديكورجان المجاورة، تم إسقاط تمثال للزعيم القوي نور سلطان نزارباييف.

أثار الصمت الرقمي الغريب قلقًا شديدًا للساعات العديدة اللاحقة، حيث جرى إسكات الأصوات المحلية أمام المراقبين الأجانب. أغلقت الحكومة – التي روّجت لنفسها مؤخرًا كمركز مالي جديد وجذبت المنقبين عن البيتكوين بالطاقة الرخيصة – أغلقت شبكة الإنترنت بالكامل. هذا يعني أن حصيلة الوفيات وتقديرات الدمار لا تزال تكهنية، في الوقت الذي أعلنت الحكومة عن وفاة اثني عشر ضابط شرطة على الأقل وحبس المئات.

وبحلول 6 يناير، كان التغيير الثوري يأخذ مجراه. أوضحت مقاطع الفيديو التي تمت مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي أعمال نهب واسعة الانتشار وتجاهل سافر لحظر التجول الذي فرضه توكاييف، حتى المؤسسات غير السياسية مثل مطار ألماتي جرى استهدافها. والأمر الصادم أكثر هو دعوة توكاييف لقوات من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا – والتي استجابت بالفعل، في ظل وجود تقارير عن وجود قوات روسية في ألماتي. إن الإجراء السريع لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في كازاخستان يأتي على النقيض تمامًا من عدم استجابة المنظمة لمناشدات أرمينيا للحماية من أذربيجان في صراع ناجورنو-كاراباخ 2020. وكما أوضح بروس بانيير لإذاعة أوروبا الحرة، رفضت منظمة معاهدة الأمن الجماعي كل الدعوات السابقة للتدخل في صراعات ما بعد العهد السوفيتي الأخرى لكنها وافقت سريعًا على فعل هذا في كازاخستان، بالرغم من حقيقة عدم تورط قوة أجنبية في المظاهرات. إن المؤامرات كثيرة بالفعل.

قال توكاييف أيضًا على نحو غير متوقع إنه عزل نزارباييف – الذي يدين له بترقيته إلى منصب الرئيس – عن منصبه كرئيس لمجلس الأمن. كان الانتقال يجري بسلاسة، حيث منح نزارباييف رئاسة حزب نور أوتان لموظفه المفضل الشهر الماضي. في النهاية، تغيير ستائر القصر الرئاسي عبر تنصيب توكاييف لم يفعل شيئًا لتغيير ميزان القوة بعيدًا عن زمرة نزارباييف في الأعمال التجارية وقوات الأمن. احتفظ نزارباييف أيضًا بلقب “زعيم الأمة.” ووسط كل هذا، لم يتحدث نزارباييف علنًا، وهو صمت صادم لزعيم الحزب الشيوعي السابق – الذي تحول إلى قومي ثم إلى فاسد والذي عنيت سياسته الماكرة والمتلونة أنه كان له دور في السياسة الإقليمية والدولية من أواخر العصر السوفيتي إلى وقتنا الحاضر. كان لنزارباييف مواجهات مع ميخائيل جورباتشوف، وباراك أوباما، وشي جين بينج. تراوحت هذه من بحث محاولات للحفاظ على الاتحاد السوفيتي إلى إطلاق مبادرة الحزام والطريق، حيث تُعد كازاخستان طريقًا بريًّا رئيسيًّا. لقد كانت وجهة رائدة للاستثمار الصيني بموجب البرنامج، والذي أعلن عنه شي لأول مرة بشكل رمزي للعالم في العاصمة الكازاخية في 2013.     

لقد أثارت إراقة الدماء يوم 5 يناير نوعًا من الاستحضار لمذبحة جلتوقسان التي وقعت في ديسمبر 1986 في ألماتي، والتي شهدت قمعًا دمويًّا للمتظاهرين الكازاخ والتي جادل البعض بأنها كانت أول نوبة من الإحساس الطارد الذي أدى في نهاية المطاف إلى تمزيق القوة العظمى السوفيتية. لا يملك توكاييف قاعدة قوة خاصة به إذا كان يسعى في الواقع إلى استغلال الحدث ليحل محل نزارباييف فيما هو أكثر من مجرد الاسم. يبدو أيضًا أن المحتجين لن يقبلوا بشخصية مرتبطة هكذا بالنظام السابق – على الرغم من أن الغموض يفوق الوضوح. كان نزارباييف يحظى بشعبية حقيقية، حتى وقت قريب، على الرغم من أن الانتقال الكاذب في 2019، مصحوبًا بإعادة تسمية توكاييف للأستانة بنور سلطان، سببا إزعاجًا لقطاعات عريضة من المجتمع.

في حين أن مستقبل كازاخستان يظل غير واضح، من المهم الوضع في الاعتبار التداعيات الأخرى التي قد تجلبها هذه الأحداث والغموض الناتج على صناع السياسة والأعمال التجارية القريبة والبعيدة.

تخاطر الأزمة في كازاخستان بإخلال توازن القوى في أوراسيا. إن الاضطراب الكبير حتى على المدى القصير سيعتبره الكرملين تهديدًا لوضعه، الذي يتزعزع بشدة برؤية احتجاجات الشوارع تؤدي إلى بعض التغيير السياسي. إن ظهور حكومة ديمقراطية أكثر سيشكل تحديًا ليس فقط لموسكو بل أيضًا للزعماء الأقوياء الآخرين في آسيا الوسطى، بينما خروج نظام صديق أكثر لموسكو من الفوضى قد يخنق إمكانية توسع النفوذ الصيني أكثر. من المرجح أيضًا أن يؤثر النظام الخاضع لهمينة موسكو في كازاخستان بالسلب على علاقات روسيا مع دول آسيا الوسطى الأخرى، القلقة من أن سيادتها ربما لا تزال محدودة بالرغم من مرور 30 عامًا على الاستقلال. إن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا شيء؛ وتعدي القوات الروسية على احتكار الاستخدام القانوني للعنف في المدن الكبرى لأكبر دولة في المنطقة شيء آخر تمامًا.

إذا توسعت الأزمة، فإنها تخاطر بالتأثير على أسواق الغاز الرئيسية لأن كازاخستان الطريق لحوالي 10% من استهلاك الغاز الطبيعي السنوي للصين وحوالي 29% من وارداتها. وفي حين أنه لا توجد سابقة لاستهداف خطوط الأنابيب، وقعت الكثير من الأحداث غير المسبوقة والتي تجعل من المستحيل استبعادها. إذا توسع إضراب العمال أو بدت الدولة وإنها تواجه خطر الفشل، من المحتمل أن يتبع التعطيل. إن أزمة الغاز سيكون لها آثار عالمية، حيث من المرجح أن تُجبَر بكين على تعويض العجز في سوق الغاز الطبيعي المسال في ذروة الشتاء في ظل ارتفاع الأسعار بالفعل إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.

وقد تتأثر الكثير من الأسواق الأخرى أيضًا. تُعد كازاخستان من ضمن أكبر منتجي اليورانيوم في العالم، ومصدرًا رئيسيًا لعدة معادن مهمة. تمر كل طرق تصدير الغاز التركمانستاني الرئيسية عبر كازاخستان، ومن غير الحكمة الاعتقاد بأن حكم الزعيم القوي – الغريب في البلاد أكثر مرونة من حكم كازاخستان. تقع معظم أنحاء قيرغيزستان – التي لحق بها الاضطراب والثورة في السنوات الأخيرة – بالقرب من ألماتي أكثر من عاصمة كازاخستان. سيؤثر رد روسيا بالتأكيد على علاقاتها مع معظم دول أوروبا الشرقية، لا سيما أوكرانيا، حيث تتواجد معظم قوتها العسكرية حاليًا على الحدود بدلًا من الاستعداد للمزيد من الردود في كازاخستان.

ستُطرح التساؤلات في الأيام المقبلة حول ماذا تعني الأحداث ليس فقط للمسار السياسي في كازاخستان، بل أيضًا للاستقرار الإقليمي، ودور روسيا كضامن للأمن الإقليمي، والتجارة الأوراسية، والكثير غيرها، غير أنه سيكون هناك عجز في الأجوبة. ينبغي أن يُترك مستقبل كازاخستان لشعبها، على الرغم من أن إجراء منظمة معاهدة الأمن الجماعي ربما قد حال دون ذلك بالفعل.

ونظرًا لأن الاحتجاجات قد اندلعت على الأقل، إذا لم تصل إلى ذروتها، بسبب ضغوط التضخم، من الجدير الوضع في الاعتبار أنه ليس فقط المنطقة المباشرة بل معظم أنحاء العالم تمر حاليًا بارتفاع كبير في التضخم بعد سنوات من عدم ارتفاع الأسعار تقريبًا. ربما تُعدّ كازاخستان معزولة وبعيدة عن الأهمية الدولية لغير المطلعين، لكن، منذ وقت ليس بالبعيد، كانت تُعد قلب “المنطقة المحورية” للأب الروحي للجيوسياسية: السير هالفورد ماكيندر. سيكون من التهور التنبؤ في أي اتجاه وتوجه تقع البقية، لكن من المرجح أن تثبت كازاخستان كونها أول قطعة دومينو في سلسلة من الأحداث البارزة والتي من المحتمل أن تكون ثورية.

للاطلا على الرابط الأصلي اضغط هنا

ربما يعجبك أيضا