مفترق الطرق.. التموضع الأوروبي في النظام العالمي الجديد

محمود رشدي

رؤية- محمود رشدي 

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، تحددت مكانة أوروبا المنهارة في مكان يلي الولايات المتحدة، التي ارتأت لنفسها مكانة عليا، ومثلت مع أوروبا الغربية تحالفًا يواجه الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي، وأنشأت لذلك حلف الناتو لمواجهة الشيوعية في أوروبا الشرقية ودول العالم الثالث. ومنذ تسعينيات القرن الماضي حتى بروزن الأزمة المالية العالمية في 2008 ظلت لأوروبا والولايات المتحدة تفاهمات أمنية استراتيجية طبقها الناتو.

في الأعوام السابقة، بدأ ميزان القوى العالمي يتغير بسرعة، لصالح روسيا والصين، في ظل انسحاب الولايات المتحدة من ملفات دولية عدة، وبالتوازن معه لم ينهض الاتحاد الأوروبي، وخاصة ألمانيا، إلى مستوى التحدي الذي يمثله انسحاب الولايات المتحدة من القيادة العالمية. ولكن بالنظر إلى المنافسة الجديدة من الصين، إلى جانب طموحات روسيا العظمى في القوة العظمى، يجب على الدول الغربية إيجاد طريقة للتعاون بشكل أوثق.

أمام الصعود الشرقي، ثمة تحديات تواجه العالم الغربي أما التغيرات الطارئة الجديدة على ميزان القوى، بالانسحاب التدريجي للولايات المتحدة، تتمثل تلك التحديات في التفاعلات البينية بين دول الاتحاد الأوروبي، على رأسها ألمانيا، والولايات المتحدة.

علاقة ألمانيا بالولايات المتحدة

يعد التحدي الأول إعادة تموضع الدول الغربية لمواجهة الصعود الشرقي، متمثلًا في علاقة ألمانيا بالولايات المتحدة، والضغط الذي تتعرض له الأولى في تحديد الإنفاق على القطاع الأمني، هو فشل ألمانيا في زيادة الإنفاق الدفاعي السنوي إلى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، على النحو المتفق عليه في قمة الناتو 2014 في ويلز. لأسباب تاريخية واضحة، فإن ألمانيا مترددة في أن تصبح القوة العسكرية الفعلية لأوروبا.

في حالة الوفاء بالالتزام، فيتم تخصيص 80 مليار يورو (89 مليار دولار) سنويًا للجيش الألماني، وهو ما يزيد بمقدار 46 مليار يورو عما تنفقه فرنسا. ومع ذلك، لأداء دورها داخل التحالف دون إثارة مخاوف في أوروبا الشرقية، يمكن أن تنفق ألمانيا 1.5 ٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على العتاد والأفراد، مع الالتزام بنسبة 0.5 ٪ إضافية لتمويل عمليات الناتو في دول البلطيق وبولندا. وهذا من شأنه أن يعزز قدرة الدول الشرقية الأعضاء على الدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي وإظهار استعداد ألمانيا لتحمل المزيد من المسؤولية.

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي

القضية الكبرى الثانية هي العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تغيرت التحديات المباشرة التي تواجه أمريكا وأوروبا على مدار العقود السبعة الماضية. في الآونة الأخيرة، وسعت روسيا مجال نفوذها إلى شبه جزيرة القرم، وشرق أوكرانيا، وبحر آزوف، وبدأت الصين في تأكيد الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية في أوراسيا.

في الوقت نفسه، تكافح الديمقراطيات الغربية للتعامل مع الاضطرابات الناجمة عن العولمة والهجرة والتكنولوجيا وتغير المناخ. وسط تدهور الأمن الاقتصادي والتماسك الاجتماعي، استغلت الحركات الشعبية والشعبية قلق الناخبين من خلال الوعد بالدفاع عن الوطن ضد النخب العالمية والمؤسسات المتعددة الأطراف التي دعمت السياسة والاقتصاد منذ الحرب العالمية الثانية.

على الرغم من الخطاب الشعبوي، فقد خلقت العولمة الاقتصادية في الواقع الرخاء وقلصت الفقر، وفتحت فرصًا جديدة للتنمية في جميع أنحاء العالم. لكن بدون دعم الغرب، لا يمكن أن يستمر هذا النظام. ما يحتاج إليه الغرب الآن لفتح إمكانيات جديدة للنظام العالمي هو عولمة المجتمع المدني، وتذكير الناس والمجتمعات بأن الدولة لا تزال قادرة على العمل بفعالية. يبدأ ذلك من خلال الاستثمار أكثر في التعليم والبحث والبنية التحتية، مع تحقيق توازن بين التعاون عبر الحدود واحترام الخصوصيات الثقافية.

الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي

يتمثل الشق الثالث من التحديات الأوروبية في التداعيات الأمنية للغاز الروسي على أوروبا، التي تسعى تأمين احتياجاتها ممن الطاقة بأقل اسعار، وهو ما يوفره الجار الروسي عبر إمدادات خطوط الغاز، وهو كما يتضح من التوترات بشأن مشروع Nord Stream 2، مشروع مشترك لخط أنابيب روسي ألماني. من وجهة نظر الحكومة الألمانية، يعتبر Nord Stream 2 مسألة اقتصادية بشكل أساسي، ولذا  استثمرت الشركات الألمانية والفرنسية وغيرها من الشركات الأوروبية بكثافة في المشروع.

بيد لا يمكن للأوروبيين تجاهل تهديدات الاستقلال السياسي للدول المجاورة مثل أوكرانيا – والتي يتجاوزها نورد ستريم2. وبشكل عام، تتمثل الطريقة الأفضل لتأمين إمدادات الطاقة في أوروبا في توسيع البنية الأساسية للغاز الطبيعي في أوروبا وزيادة تكاملها، مع بناء المزيد من المحطات لتسييل الغاز الطبيعي. وبهذه الطريقة، لا يمكن اعتبار أي دولة – سواء كانت دولة عضو أو شريكًا مقربًا – رهينة كنتيجة لاعتمادها على الطاقة الروسية. إذ تقع أوروبا في ملتقى مناطق عديدة تورد الغاز الطبيعي على رأسها منطقة شرق المتوسط، التي تسعى لحيازة نصيب لها من السوق الأوروبية في إمداداها بالغاز المسال.

العملاق الصيني المتصاعد

يتمثل الجزء الرابع من تحديات أوروبا في الصعود الصيني المنافي للسياسات الأوروبية، الذي أوضح أنه يسعى  مراجعة ميزان القوى الدولي، إذ تدعم الصين صناعتها وتحدد من الوصول إلى أسواقها، وتنتهك بشكل روتيني حقوق الملكية الفكرية. علاوة على ذلك، يشكل نموذج الصين لرأسمالية الدولة الاستبدادية تحديا مزدوجا؛ لأنه يمثل كلا من المنافسة الاقتصادية ونموذجا سياسيا بديلا. على هذا النحو، فإن الاتحاد الأوروبي وأمريكا بحاجة ماسة إلى وضع قواعد واضحة ومتفق عليها بشكل متبادل للتعامل مع الصين.

وعليه، إذا لم تستيقظ أوروبا على حقائق التنافس الصيني الأمريكي الجديد، فستجد نفسها في وضع غير ذي صلة بالجغرافيا السياسية. في الواقع، هناك بالفعل دلائل على تراجع أهمية أوروبا العالمية بحيث يتم تحديد الحروب والصراعات على طول المحيط الأوروبي بشكل متزايد من قبل القوى الأخرى دون إشراكها.
 

ربما يعجبك أيضا