ملخص كتاب «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية»

بسام عباس

حول المؤلفين:

هنري كيسنجر: شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ومستشار الشؤون الخارجية الرئاسية، حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 1973. يشغل الآن كرسي الرئاسة في مؤسسة كيسنجر للاستشارات الدولية.

وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر

وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر

إريك شميدت: خبير تكنولوجي، عمل مديراً تنفيذيا لشركة جوجل، وساهم في التحول الكبير للشركة لتكون رائدة في مجال التكنولوجيا على مستوى العالم.

إريك شميدت

إريك شميدت

دانييل هوتنلوشر: عميد كلية شوارتزمين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يمتلك خبرة في المجالين الأكاديمي والصناعي أيضًا بسبب عمله في مجال علوم وتقنيات الكمبيوتر، وهو حاليا عضو في مجلس إدارة عدة شركات عالمية كبرى بينها أمازون.

حول الكتاب:

الكتاب منشور حديثاً (يوم 2 نوفمبر 2021)، ويحمل عنوان عالم الذكاء الصناعي ومستقبلنا البشري The Age of AI and Our Human Future.

ظلّ الكتاب منذ يوم صدوره على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، ولعلّ أسماء مؤلفيه ساهمت في هذا الأمر.

ينتمي الكتاب إلى حقل أدبيات الفكر العلمي وفلسفته بنفس القدر الذي ينتمي فيه إلى مبحث دراسات المستقبليات Future Studies، وقد تضافرت الحيوية الفكرية لكيسنجر مع القدرات العلمية والتقنية لزميليه في خلق كتاب متوسط الحجم (240 صفحة) سلس القراءة يتناول واحدة من أخطر المعضلات التي تواجه الإنسانية.

 ينقسم الكتاب إلى مقدمة قصيرة و7 فصول

جاءت عناوين الفصول بالترتيب التالي: الانطلاق من حيث نحن – كيف وصلنا إلى هنا.. التكنولوجيا والفكر الإنساني – مِن تورينج إلى اليوم.. وما بعده –  المنصّات الشبكية العالمية –  الأمن والنظام العالميان –  الذكاء الاصطناعي والهوية البشرية، الذكاء الاصطناعي والمستقبل. تعقبُ هذه الفصولَ السبعة ملاحظاتٌ تفصيلية دقيقة أضاءت متن الكتاب.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب «12 قاعدة للحياة: ترياق الفوضى»

***

المقدمة

يحكي المؤلفون في مقدّمة الكتاب الظروف التي أحاطت بفكرة تأليف الكتاب، وهي ظروف أقربُ إلى الصُّدف النادرة.

تخبرنا المقدّمة أنّ أحد المؤلفين (هو كيسنجر، حتى إن لم يصرّحوا بذلك؛ لكنّ القارئ يفهم هذا من السياق) كان مدعوًا قبل 5 سنوات من نشر الكتاب لمؤتمر، جعل الذكاء الصناعي على رأس قائمة موضوعاته. كان من الطبيعي والبديهي ألا يفكّر كيسنجر بحضور المؤتمر، لأنّ الذكاء الصناعي أبعد ما يكون عن اهتماماته حتى ذلك الحين؛ لكنّ صدفة جميلة جعلت كيسنجر يلتقي بأحد الأشخاص (هو إريك شميت)، واستطاع شميت تغيير وجهة نظر كيسنجر بشأن الذكاء الصناعي. “الذكاء الصناعي سيؤثّرُ عمّا قريب في كلّ حقل من حقول النشاط الإنساني”. هذا ما سمعه كيسنجر من شميت، وكان كفيلاً بتغيير قناعة الأول وجَعْلِهِ يحضر المؤتمر.

يَعِدُ الذكاء الصناعي بتحقيق تغيير شامل في الحياة الإنسانية على الأصعدة كافة؛ المجتمع، الاقتصاد، السياسة، الأمن الوطني، الخريطة الجيوبوليتيكية، مصادر القوة الاستراتيجية للدول، ومن المؤكّد أنّ التفكّر في جميع السيناريوهات المستقبلية الممكنة أمر يقعُ خارج نطاق قدرة أي فرد أو مبحث علمي أو تقني بمفرده.

تتطلّب دراسة هذه التغييرات الموعودة معرفة وخبرة قد تكون أبعد من نطاق الخبرة البشرية السائدة؛ لذا لا بدّ أن تتعاضد خبرات مشتبكة من حقول العلم والتقنية والتأريخ والسياسة والإنسانيات لدراسة طبيعة الذكاء الصناعي والمعضلات التي يمكن أن تنشأ عنه.

سعى المؤلفون في هذا الكتاب إلى تمكين القارئ من تحصيل معرفة شاملة، وإن كانت عامّة وغير تفصيلية، بشأن الأسئلة المفصلية التي ستواجهها الإنسانية في السنوات القليلة المقبلة، وكذلك إلقاء الضوء على الوسائل والأساليب التي تمكّننا من معرفة كيفية الاستجابة المناسبة لها.

وطرح المؤلفون في مقدمة الكتاب بعض الأسئلة التي سيحاولون الإجابة عنها في فصول الكتاب:

– كيف ستبدو الابتكارات المحفّزة بالذكاء الصناعي في حقول الصحة والبيولوجيا والفضاء وتطبيقات ميكانيك الكم؟

– كيف سيكون شكل الحروب المدعمة بتقنيات الذكاء الصناعي؟

– هل سيكشف الذكاء الصناعي عن جوانب مخفية من الواقع، ليس للكائن البشري سبيل لبلوغها في نطاق قدراتنا البشرية؟

– كيف سيتغيّر البشر عندما تبدأ الوسائل المدعمة بالذكاء الصناعي في التأثير على عملية صناعة القرار البشري؟

– ماذا يعني أن نكون بشراً في عصر تتزايد فيه قدرات الذكاء الصناعي حتى تبلغ تخوماً تتفوق فيها على الذكاء البشري (البيولوجي)؟

في نهاية المقدمة يقر المؤلفون أنّ الأمر سيكون أقرب للغرور فيما لو ادّعوا قدرتهم على وصف ملامح حقبة مفصلية في تأريخ الإنسانية في نطاق كتاب واحد بمفرده، ويؤكّدون أنْ ليس في استطاعة فرد واحد– مهما تعاظمت قدراته المهنية والفكرية والفلسفية– القدرة على تفهّم كلّ جوانب مستقبل قريب سيكون فيه بمستطاع الآلات تطبيق وسائل المنطق ومدّها إلى تخوم أبعد كثيراً من نطاق القدرات البشرية ؛ وعليه فلا مهرب أمام المجتمعات من التعاضد فيما بينها، لا بقصد الفهم المجرّد لتقنيات الذكاء الصناعي فحسب، بل من أجل إعادة التكيّف الحتمي بكيفية لا تنهار أمامها القيم البشرية النبيلة.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب الجدال مع الزومبي لـبول كروجمان

***

الفصل الأول: الانطلاق من حيث نحن

قال المؤلفون إن علماء ومهندسو الكمبيوتر طوَّروا تقنيات، وذكاء اصطناعي وتعلّم آلي باستخدام شبكات عصبية عميقة (deep neural networks)، قادرة على إنتاج رؤى وابتكارات استعصت على المفكرين البشريّين، وعلى إنتاج النصوص والصور والفيديو التي يبدو أنها من إنشاء البشر.

إن الذكاء الاصطناعي، المعزّز بخوارزميات جديدة وبقوة حوسبة آلية، أصبح منتشرا في كل مكان. وتعمل البشريّة على تطوير آلية جديدة وقوية لاستكشاف الواقع وتنظيمه.

إن ولوج الذكاء الاصطناعي إلى الواقع تشبه طريقة ولوج البشر إليه. وإذا كان لنا أن نسترشد بالمآثر التي ينجزها، فقد يلج إلى جوانب من الواقع مختلفة عن تلك التي يلج إليها البشر.

يبشِّر عمل الذكاء الاصطناعي بالتقدّم نحو جوهر الأشياء، وهو التقدم الذي سعى إليه الفلاسفة واللاهوتيون والعلماء بنجاح جزئي، على مدى آلاف السنين. ومع ذلك لا يتعلق الأمر بقدرات الذكاء الاصطناعي ووعده فحسب، بل بكيفية استخدامه أيضًا.

في حين أن تقدم الذكاء الاصطناعي قد يكون أمرًا لا مفر منه، إلا مختلف عن الحال أن وجهته النهائية ليست كذلك. إذًا، فإن ظهوره هو ذو دلالة تاريخية وفلسفية على السواء. لن تؤدّي محاولات إيقاف تطوره إلَّا إلى التخلّي عن مستقبل العنصر البشري الشجاع بما يكفي لمواجهة تداعيات ابتكاراته.

يبدع البشر وينشرون أشكالا غير بشريّة من المنطق ذات المدى والحدة التي يمكن أن تتجاوز نطاقنا. لكن وظيفة الذكاء الاصطناعي معقدة وغير متسقة. في بعض المهمات، يحقق الذكاء الاصطناعي مستويات أداء بشرية أو خارقة.

تناول المؤلفون التطورات الهائلة التي طرأت على نماذج الذكاء الاصطناعي، وأوضحوا أن شراكة جديدة بين الإنسان والآلة ظهرت إلى حيز الوجود، فالإنسان يحدّد هدفًا لآلة ما، ثمّ تواصل الآلة عملها بعيد عن تدخل الإنسان، ويعمل الإنسان على دمجها في الممارسة الحالية.

إن الشراكة الحالية بين الإنسان والآلة تتطلب مشكلة محدّدة وهدفًا قابلا للقياس هو سبب لعدم الخوف من الآلات التي تتحكم في كلّ شيء؛ ومثل هذه الاختراعات تظل مادّة الخيال العلمي. ومع ذلك، فإنّ الشراكات بين الإنسان والآلة تمثل خروجًا عميقا عن التجربة السابقة.

بمساعدة التقدم والاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي، يصل العقل البشري إلى آفاق جديدة، ما يحقق أهدافًا لم يكن من الممكن تحقيقها في السابق. فيمكن من خلاله التنبؤ بالكوارث الطبيعية والتخفيف من حدتها، ومعرفة أعمق بالرياضيات وفهمًا أكمل للكون والواقع الذي يكمن فيه.

هذه الاحتمالات وغيرها تحقق نجاحًا من خلال تغيير العلاقة الإنسانية بالعقل والواقع. إنها ثورةٌ تتركنا فيها المفاهيم الفلسفية والمؤسسات المجتمعيَّةُ الحالية غير مستعدين لها إلى حد كبير.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب «عشر خرافات عن إسرائيل» لإيلان بابي

***

الفصل الثاني: كيف وصلنا إلى هنا؟ التكنولوجيا والفكر البشري

على مر التاريخ، كافح البشر من أجل فهم جوانب تجاربنا وبيئاتنا الحية فهما كاملا.

بحث كل مجتمع في طبيعة الواقع: كيف يمكن فهمه؟ توقعه؟ تشكيله؟ وتعديله؟ وبينما تصارع مع هذه الأسئلة، توصل كل مجتمع إلى مجموعة خاصة به من التسويات مع العالم.

في خضم هذه التّسويات نشأ تصور عن علاقة العقل البشري بالواقع وقدرته على معرفة محيطه، وتحقيقها من خلال المعرفة.

استجاب البشر للبيئة، وتوافقوا معها، من خلال تحديد الظواهر التي يمكننا دراستها وشرحها في النهاية، إما علميا وإما لاهوتيا أو كلاهما.

خلقت البشرية (الذكاء الاصطناعي) لاعبًا جديدا قويًّا في هذا المسعى.

ولفهم مدى أهمية هذا التطور أجرى المؤلفون استعراضًا موجزًا للرحلة التي اكتسب بها العقل البشري، عبر العصور التاريخية المتعاقبة، مكانته المرموقة.

وأوضحوا أن كل حقبة تاريخية تميزت بمجموعة من التفسيرات المتشابكة عن الواقع والتدابير الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة عليها، سواء في العالم الكلاسيكي والعصور الوسطى وعصر النهضة والعالم الحديث.

جمع الغرب مستودعًا من المعرفة والخبرة من جميع أنحاء العالم. فالتقدّم في التكنولوجيا والمنهجية بما في ذلك العدسات البصرية الأفضل وأدوات القياس الأكثر دقةً، والتفاعلات الكيميائية، وتطوير معايير البحث والمراقبة التي أصبحت معروفة بوصفها منهجًا علميًّا، سمحت للعلماء بمراقبة الكواكب والنجوم بدقة أكبر، وسلوك المواد وتكوينها، وتفاصيل الحياة المجهرية.

رغم أن الإنجازات التكنولوجيّة لعصر العقل كانت مهمة، إلا أنها ظلت حتى وقت قريب متقطعة بما يكفي لتتوافق مع التقاليد.

وُصفت الابتكارات على أنها امتدادات للممارسات السابقة، كانت الأفلام تنقل الصور، وكانت الهواتف محادثات عبر الفضاء، وكانت السيارات تتحرّك أسرع من العربات التي استُبْدِلَتْ فيها الخيول بمحركاتٍ تُقَاسُ بقدرة “الحصان”

وفي الحياة العسكرية، كانت الدبابات عبارةً عن سلاح فرسان متطوّر، وكانت الطائرات عبارةً عن مدفعيّة متطوّرة، وكانت البوارج عبارة عن حصون متحركة، وكانت حاملات الطائرات مهابط طائرات متحرّكة.

ولكننا وصلنا إلى نقطة تحوّل، فلم يعد بإمكاننا تصوّر بعض ابتكاراتنا على أنها امتدادات لما نعرفه بالفعل من خلال ضغط الإطار الزمني الذي تُغيّر فيه التكنولوجيا تجربة الحياة.

أنتجت ثورة الرّقمنة وتقدم الذكاء الاصطناعي ظواهر جديدة حقا، وليست مجرد نسخ أكثر قوةً أو كفاءة للأشياء الماضية.

ما دامت أجهزة الكمبيوتر أسرع وأصغر، فقد أصبحت قابلة للدمج في الهواتف والساعات وحتى أجسام البشر.

مع انتشار المعلومات عبر الإنترنت، لجأنا إلى البرامج لمساعدتنا على فرزها وتحسينها وإجراء تقييمات بناءً على الأنماط وإرشادنا في الإجابة عن أسئلتنا، إن إدخال الذكاء الاصطناعي، أصبح يغير الدور الذي لعبته عقولنا تقليديا في تشكيل خياراتنا وأفعالنا وترتيبها وتقييمها.

***

الفصل الثالث: من تورينج إلى اليوم – وما بعده

في عام 1950 اقترح ألان تورينج؛ عالم الرياضيات البريطاني الشهير، أن نتجنب الألغاز الفلسفية العميقة من خلال الحكم على الأداء، فإذا لم نتمكن من التمييز بين أداء آلة والأداء البشري، فينبغي لنا أن نسمي هذا الأداء ذكيا، أنتج أغلب برامج الكمبيوتر المبكرة حلولا جامدة ساكنة فشلت في اجتياز اختبار تورينج، واستمر مجال الذكاء الاصطناعي في التراجع والذبول طوال فترة ثمانينيات القرن الـ 20.

لكن التسعينيات شهدت اختراقا تمثل في نهج جديد سمح للآلات بالتعلم من تلقاء ذاتها، بدلا من الاسترشاد فقط بأكواد مستمدة من رؤى مستخلصة من البشر. على النقيض من الخوارزميات الكلاسيكية التي تتكون من خطوات تفضي إلى نتائج محددة، تتألف خوارزميات التعلم الآلي من خطوات لتقديم نتائج غير محددة أفضل.

لطالما حلمت البشرية بمساعدٍ – بآلة قادرة على أداء المهمات بكفاءة الإنسان نفسها. في الأساطير اليونانية، صاغ الحداد الإلهي هيفايستوس روبوتات قادرةً على أداء مهمّات بشريّة، مثل العملاق البرونزي تالوس الذي قام بحماية جزيرة كريت.

والواقع أثبت أن تصميم آلة تقوم بأمر مفيد – حتى مع الحوسبة الحديثة – أمر صعب للغاية. واتضح أن التحدي المركزي هو كيفية تعليمها.

قامت المحاولات المبكرة لإنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي مفيدة عمليا بتشفير الخبرة البشرية صراحة عبر مجموعات من القواعد أو المعلومات في أنظمة الكمبيوتر.

في حين في المجالات التي تستخدم التوصيف الدقيق الشطرنج، والتلاعب الجبري، وأتمتة العمليات التجارية حقق الذكاء الاصطناعي تقدما كبيرًا، فإنّه في مجالات أخرى، مثل ترجمة اللغة والتعرف على الكائن البصري، أدّى الغموض الكامن إلى توقف التقدم.

توضح تحدّيات التعرُّف على الكائن البصري أوجه القصور في هذه البرامج المبكرة. لكنّ الأجيال الأولى من الذكاء الاصطناعي لم تستطع ذلك.

تميل طبقات الشبكة العصبيّةِ الأقرب إلى المدخلات إلى أن تعكس جوانب من المدخلات بينما تميل الطبقات الأبعد عن المدخلات إلى أن تعكس تعميمات أوسع نطاقا تتنبأ بالمُخرج المطلوب.

يسمح التعلم العميق للشبكات العصبية بالتقاط العلاقات المعقدة مثل تلك التي بين فعاليّة المضادّات الحيويّة وجوانب البنية الجزيئية المنعكسة في بيانات التدريب

تسمح هذه الشبكة للذكاء الاصطناعي بالتقاط اتصالات معقدة، بما في ذلك الاتصالات التي يمكن أن تستعصي على البشر.

تعتمد دقة الشبكة على حجم وجودة البيانات التي تُدرَّبُ عليها ما دامت الشبكة تتلقى المزيد من البيانات وتتكوّن من المزيد من طبقات الشبكة، حيث التقاط العلاقات على نحو أكثر دقة.

خلال التسعينيات، حاول الباحثون ابتكار برامج ترجمة لغوية قائمة على القواعد في حين أن جهودهم حققت بعض النجاح في البيئات المختبرية، إلا أنها فشلت في تحقيق نتائج جيدة في العالم الحقيقي.

إن اللغة ولطائفها لا يُختزلان إلى قواعد بسيطة. هذا كله تغير عندما بدأ المطورون، في العام 2015، في تطبيق الشبكات العصبية العميقة على المشكلة. فجأة، تطورت الترجمة الآلية كثيرًا. لكن تحسنها لم ينبع فقط من تطبيق الشبكات العصبية أو تقنيات تعلم الآلة. بدلا من ذلك، نشأ من خلال التطبيقات الجديدة والإبداعية لهذه المقاربات

تؤكد هذه التطورات على نقطة رئيسيّة من اللبنات الأساسية لتعلم الآلة، يتمتع المطوّرون بالقدرة على مواصلة الابتكار بطرق باهرة وإطلاق العنان للذكاء الاصطناعي الجديد في هذه العملية.

لترجمة لغةٍ إلى أخرى يحتاجُ المترجم إلى التقاط أنماط محددة ترتيب الكلمات في الجملة، حيث تميز الشبكات العصبية القياسية أنماط الارتباط بين المدخلات والمخرجات.

لكن مثل هذه الشبكات لا تلتقط من دون تعديل، ترتيب الكلمات مثل احتمال ظهور كلمة ما في موقع معيَّن في جملة ما بالنظر إلى الكلمات التي سبقتها.

إن هشاشة الذكاء الاصطناعي هي انعكاس لضحالة ما يتعلمه. وتختلف الروابط بين جوانب المدخلات والمخرجات القائمة على التعلم تحت الإشراف أو المعزز اختلافًا كبيرًا عن الفهم البشري الحقيقي.

الذكاء الاصطناعي ليس واعيًا لا يعرف ما لا يعرفه، وفقًا لذلك، لا يمكنه تحديد وتجنب ما قد يكون أخطاء فادحة بالنسبة للبشر.

تؤكد عدم قدرة الذكاء الاصطناعي على التحقق من الأخطاء الواضحة من تلقاء نفسه على أهمية تطوير الاختبار الذي يسمح للبشر بتحديد حدود قدرات الذكاء الاصطناعي، ومراجعة مسارات العمل المقترحة، والتنبؤ بموعد

من الضروري وضع إجراءات لتقييم ما إذا كان نظام ذكاء اصطناعي سيعمل كما هو متوقع أم لا.

ما دام تعلم الآلة سيقود الذكاء الاصطناعي في المستقبل المنظور، سيظل البشر غير مدركين لما يتعلّمه الذكاء الاصطناعي وكيف يعرف ما تعلمه.

لا يمكن التنبؤ بدقة بمدة الزمن التي سيستغرقها الذكاء الاصطناعي لتحقيق صفات المترجم المحترف الموهوب.

من الصعب أيضًا التنبؤ بمدى سرعة تطبيق الذكاء الاصطناعي على مجالات إضافية. لكن يمكننا الاستمرار في توقع زيادات كبيرة في قدرات هذه الأنظمة، سواء استغرقت هذه التطورات 5 أم 10 أم 25 عامًا. ولكن في مرحلة ما، ستصبح تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية أكثر إحكاما وفعاليةً ورخيصة وبالتالي مستخدمةً على نحو متكرر.

سيصبح الذكاء الاصطناعي على نحو متزايد جزءا من حياتنا اليومية، مرئيا وغير مرئي معا.

بمرور الوقت، سيتقدم الذكاء الاصطناعي بما يسمح بإنشاء شبكات عصبية مساوية للدماغ البشري.

يتطلب الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدمًا بيانات حوسبة هائلة وفنيين مهرة. مما لا يثير الدهشة أن المنظمات التي لديها إمكانية الوصول إلى هذه الموارد التجارية والحكومية على حد سواء تدفع الكثير من الابتكار في هذا المجال الجديد.

***

الفصل الرابع: المنصات الشبكية العالمية

تعاني الديمقراطية بالفعل من الاستقطاب السياسي، وهي المشكلة التي تفاقمت بفعل خوارزميات وسائط التواصل الاجتماعي التي تلتمس النقرات والإعلان من خلال تقديم وجهات نظر متزايدة التطرف وجذابة للمستخدمين.

لم تكن الأخبار الكاذبة مشكلة جديدة، ولكن من المؤكد أن تضخيمها على نحو سريع ورخيص وواسع النطاق بوساطة خوارزميات الذكاء الاصطناعي أمر جديد تمامًا. ربما يكون الحق في التعبير الحر مكفولا، ولكن ليس حق التضخيم الحر.

ويقول مؤلفو الكتاب إن هذه القضايا الجوهرية تبرز في الصدارة لأن منصات الشبكات العالمية، مثل: جوجل، وتويتر، وفيسبوك، توظف الذكاء الاصطناعي لتجميع وتصفية قدر كبير من المعلومات، ما يمكن لمستخدميها تجميعه على الإطلاق.

وتؤدي هذه التصفية إلى التمييز بين المستخدمين، على نحو يوجد غرف صدى اجتماعية تحرض على الخلاف بين المجموعات. فما قد يفترض شخص ما أنه انعكاس دقيق للواقع يصبح مختلفا تماما عن الواقع الذي يراه أشخاص آخرون أو مجموعات أخرى، وهذا بدوره يعزز الاستقطاب ويعمقه.

أصبح الذكاء الاصطناعي يقرر على نحو متزايد ما هو مهم وما هو حقيقي، والنتائج ليست مشجعة عندما يتعلق الأمر بصحة الديمقراطية.

ويستشهد المؤلفون بحالة مضاد حيوي جديد يحمل مسمى هاليسين، الذي اكتـشـف في 2020 عندما كلف باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أحد برامج الذكاء الاصطناعي بوضع نماذج لملايين من المركبات في غضون أيام ــ وهذه قدرة حاسوبية تتجاوز قدرة البشر بأشواط ــ لاستكشاف طرق جديدة وغير مفسرة لقتل البكتيريا.

لاحظ الباحثون أنه من دون الذكاء الاصطناعي، كانت تكلفة اكتشاف المضاد الحيوي هاليسين ستصبح باهظة للغاية أو كان اكتشافه سيصبح مستحيلا من خلال التجارب التقليدية.

ويقول مؤلفو الكتاب، فإن وعود الذكاء الاصطناعي عميقة: فترجمة اللغات، واكتشاف الأمراض، ووضع نماذج لتغير المناخ ليست سوى أمثلة قليلة لما يمكن أن تأتي به هذه التكنولوجيا.

ولعدم إدراكنا لوسائل الراحة الحديثة العديدة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، أصبحنا نعتمد على التكنولوجيا دون أن نسجل حقيقة اعتمادنا عليها أو التأثيرات المترتبة عليها.

يعد الذكاء الاصطناعي شريكا لنا، يساعدنا على اتخاذ القرارات بشأن ماذا نأكل، وماذا نرتدي، وماذا نصدق، وإلى أين نذهب، وكيف نصل إلى هناك.

يؤثر الذكاء الاصطناعي الآن بالفعل في السياسة العالمية. ولأن الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا تمكينية عامة، فإن توزيعها غير المتكافئ من المحتم أن يؤثر في توازن القوى العالمية. في هذه المرحلة، بينما يعد التعلم الآلي عالميا، فإن الولايات المتحدة والصين هما القوتان الرائدتان في مجال الذكاء الاصطناعي. بين أكبر سبع شركات عالمية في هذا المجال، ثلاث أمريكية، وأربع صينية.

ويزعم لي أن امتلاك القدرة على الوصول إلى سوق هائلة الحجم وعدد كبير من المهندسين قد تكون أكثر أهمية من امتلاك جامعات رائدة وعلماء رواد على مستوى العالم.

سيكون للذكاء الاصطناعي تأثير كبير في المنافسة العسكرية والحروب، إضافة إلى المنافسة الاقتصادية، على حد تعبير مؤلفي الكتاب، فإدخال المنطق غير البشري إلى الأنظمة العسكرية من شأنه أن يحول الاستراتيجية. وعندما تنشر أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة على التعلم الآلي التوليدي ضد بعضها البعض، فقد يصبح من الصعب أن يتوقع البشر نتائج التفاعل الجاري فيما بينها. وهذا من شأنه أن يزيد من قيمة السرعة، والعمق، والقدرة على التحمل.

وعلى هذا سيجعل الذكاء الاصطناعي الصراعات أكثر حدة ويجعلنا أقل قدرة على التنبؤ بمساراتها. وسيكون سطح الهجوم في المجتمعات الرقمية الشبكية شاسعا إلى الحد الذي يصبح معه المشغلون من البشر عاجزين عن الدفاع يدويا. وستعمل أنظمة الأسلحة الفتاكة التي تتمتع بالاستقلالية التشغيلية والتي تختار الأهداف وتلتحم معها على الحد من قدرة التدخل البشري في الوقت المناسب. ورغم أننا قد نسعى جاهدين لوضع العنصر البشري “في الحلقة” أو “على الحلقة”، فإن حوافز اتخاذ التدابير الاستباقية والتصعيد المبكر ستكون قوية. وستصبح إدارة الأزمات أشد صعوبة.

لا بد أن تشجع هذه المخاطر الحكومات على تطوير المشاورات واتفاقيات الحد من التسلح، ولكن ليس من الواضح بعد كيف قد يبدو الحد من التسلح بالذكاء الاصطناعي. على النقيض من الأسلحة النووية والتقليدية ــ وهي كبيرة الحجم، ومرئية، وثقيلة، ويمكن إحصاؤها ــ فإن التحقق من أسراب الطائرات المسيرة ذاتيا أو الطوربيدات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي أصعب كثيرا، كما أن الخوارزميات التي توجهها أعظم قدرة على المراوغة.

سيكون من الصعب تقييد تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي في عموم الأمر، وذلك نظرا لأهمية التكنولوجيا ومدى انتشارها في كل مكان للاستخدامات المدنية. مع ذلك، ربما لا يزال من الممكن القيام بشيء حيال قدرات الاستهداف العسكري.

الواقع أن الولايات المتحدة تميز بالفعل بين الأسلحة التي تدعم الذكاء الاصطناعي وأسلحة الذكاء الاصطناعي التي تعمل بشكل مستقل. فالأولى أكثر دقة وفتكا لكنها لا تزال تحت سيطرة البشر، أما الأخرى فقد تتخذ قرارات قاتلة دون مشغلين بشريين. وتزعم الولايات المتحدة أنها لن تسعى إلى امتلاك النوع الثاني.

***

الفصل الخامس: الأمن والنظام العالميان

مع تطور وانتشار قدرات الذكاء الاصطناعي التحويلية، وفي غياب ن التحقق منها، ستواصل الدول الكبرى السعي لتحقيق وضع متفوق، وستفترض أن انتشار الذكاء الاصطناعي لا بد أن يحدث بمجرد إدخال قدرات جديدة مفيدة للذكاء الاصطناعي.

نتيجة لذلك، وبمساعدة الاستخدام المدني والعسكري المزدوج لهذه التكنولوجيا وسهولة نسخها ونقلها، ستكون أساسيات الذكاء الاصطناعي والابتكارات الرئيسية إلى حد كبير، عامةً. عندما يتم التحكم في أنظمة الذكاء الاصطناعي، قد تكون أجهزة التحكم غير كاملة، إمّا أن التقدم في التكنولوجيا يجعلها قديمةً، وإما لأنها تثبت أنها قابلةٌ للاختراق من قبل جهة فاعلة مصممة.

يمكن للمستخدمين الجدد تكييف الخوارزميات الأساسية لأهداف مختلفة تماما.

يمكن لمجتمع ما أن يكيف الابتكار والذكاء الاصطناعي لأغراض تجارية بينما يقوم مجتمع آخر بتكييفها لأغراض الأمن أو حرب المعلومات.

ستعتمدُ الحكومات أهم الجوانب الاستراتيجية لتطوير الذكاء الاصطناعي المتطور لتلبية مفاهيم المصلحة الوطنية.

إن الجهود المبذولة لوضع تصور عن توازن قوى إلكتروني وردع الذكاء الاصطناعي لا تزال في مهدها. وإلى أن يتضح هذا التصوّر، سيحمل التخطيط له فكرة مجردة في صراع كل طرف في الحرب إلى التغلب على إرادة عدوّه من خلال استخدام أو التهديد باستخدام سلاح لا تفهم آثاره جيدًا.

يتضمن التحوّل إلى الذكاء الاصطناعي والأسلحة المدعومة بالذكاء الاصطناعي وأنظمة الدفاع قدرا من الاعتماد على ذكاء له الإمكانات التحليلية الكبيرة التي تعمل على نموذج تجريبي مختلف تماما.

سيؤدي هذا الاعتماد إلى مخاطر غير معروفة أو غير مفهومة جيدًا. ولهذا، يجب أن يشارك المُشغلون البشريون في إجراءات الذكاء الاصطناعي التي يُحتمل أن تكون لها آثار مميتةً، وأن يكونوا في وضع يسمح لهم بمراقبة هذه الإجراءات والتحكم فيها.

إذا لم يتجنب هذا الدور البشري جميع الأخطاء، فإنه على الأقل يضمن المسؤولية الأخلاقية والمساءلة.

على حكومات الدول المتقدّمة تكنولوجيا أن تستكشف تحديات التقييد المتبادل المدعومة بالتحقق القابل للتنفيذ.

يزيد الذكاء الاصطناعي من الخطر الكامن في تصاعد الاستخدام الوقائي والمبكر إلى صراع.

ويجب على القوى الكبرى متابعةُ منافستها في إطار حدود يمكن التحقق منها. لا ينبغي أن تركز المفاوضات على الحد من سباق التسلح فحسب، بل يجب أن تركز أيضًا على التأكد من أن كلا الجانبين يعرفُ بوجه عام، ما يفعله الآخر.

يجب على كلا الجانبين توقع أن يحجب الآخر أسراره الأكثر حساسية للأمن، فلن تكون هناك ثقة كاملة. ولكن كما أظهرت مفاوضات الأسلحة النووية خلال الحرب الباردة، فإنّ هذا لا يعني أنه لا يمكن تحقيق قدر من التفاهم.

إذا سُمح بتكنولوجيا جديدة معطلة ومدمرة محتملة لتحويل جيوش أكثر حكومات العالم عدائية، أو الجيوش غير المقيدة أخلاقيًّا، فقد يكون من الصعب تحقيق التوازن الاستراتيجي

نظرًا لطابع الاستخدام المزدوج لمعظم تقنيات الذكاء الاصطناعي، فمن واجبنا تجاه مجتمعنا أن نظل في طليعة البحث والتطوير. وهو ما سيجبرنا بالقدر نفسه على فهم الحدود.

إذا حدثت أزمة، سيكون قد فات الأوان لبدء مناقشة هذه القضايا. إن سرعة التكنولوجيا، ما إن وظفت في صراع عسكري، تضمن أنها ستفرض النتائج بوتيرة أسرع مما يمكن للدبلوماسيّة أن تكشف عنه.

لا بد من الاضطلاع بنقاش عن الأسلحة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي بين القوى الكبرى، ولو كان ذلك فحسب لتطوير مفردات مشتركة للتصوّرات الاستراتيجية ومعنى معين للخطوط الحمر لدى بعضهم بعضًا.

يجب ألا ننتظر حتى تحصل المأساة لنعمل على تحقيق التقييد المتبادل بشأن أكثر القدرات تدميرًا.

بينما تشرع البشرية في التنافس لإنشاء أسلحة جديدة ومتطوّرة وذكية الذكاء لن يغفر لنا التاريخ الفشل في محاولة وضع الحدود.

ففي عصر الذكاء الاصطناعي، يجب أن يسترشد السّعي الدّائم لتحقيق المنفعة الوطنية بأخلاقيات الحفاظ على الإنسان.

***

الفصل السادس: الذكاء الاصطناعي والهوية البشرية

لدى الذكاء الاصطناعي القدرة على التعلم والتطور والصيرورة «للأفضل»، يسمح هذا التعلم الديناميكي للذكاء الاصطناعي بتحقيق نتائج معقدة كانت حتى الآن حكرًا على البشر والجماعات البشرية.

مع ظهور الذكاء الاصطناعي، ستتغير تعريفات الدور البشري، والطموح البشري، والوفاء البشري وما هي الصفات الإنسانية التي سيحتفل بها هذا العصر

يضيف الذكاء الاصطناعي نمطًا ثالثًا إلى النمطين التقليديتين اللذين عرف بهما البشر العالم والإيمان والعقل.

سيختبر هذا التّحوّل افتراضاتنا الأساسيّة حول العالم ومكانتنا فيه.

لم يُحْدِث العقل ثورة في العلوم فحسب، بل غيّر أيضًا حياتنا الاجتماعية وفنوننا وإيماننا.

والفكرة القديمة القائلة بأن البشر المفكرين يجب أن يسيطروا هي الآن على المحك، فالذكاء الاصطناعي سيختبر مرّةً أخرى المبادئ التي يقوم عليها فهمنا الذاتي.

في عصر يمكن فيه التنبؤ بالواقع ومقاربته ومحاكاته بواسطة ذكاء اصطناعي يمكنه تقييم ما هو متعلق بحياتنا، والتنبؤ بما سيحدث بعد ذلك، وتحديد ما يجب القيام به، سيتغير دور العقل البشري.

لدى المجتمعات البشرية خياران: التأثر والتكيف تدريجيًّا، أو بدء حوار عن قصد، بالاعتماد على جميع عناصر المشروع البشري، بهدف تحديد دور الذكاء الاصطناعي وتحديد دورنا. والمسار الأوّل سنجده افتراضيا. فيما سيتطلب الأخير مشاركةً واعية بين القادة والفلاسفة والعلماء والمهتمين بمسار الإنسانية.

لا يحدث التعاون بين الإنسان والذكاء الاصطناعي كتعاون بين الأقران، ففي النهاية، يقوم البشر ببناء الذكاء الاصطناعي وتوجيهه ولكن مع اعتيادنا على الذكاء الاصطناعي والاعتماد عليه، قد يصبح تقييده أكثر تكلفة وتحديًا نفسيا، أو حتى أكثر تعقيدا من الناحية التقنية.

ستعمل تجربة الذكاء الاصطناعي على التمكين، ففي معظم المجتمعات، لا يفهم الذكاء الاصطناعي إلا مجموعةٌ صغيرةٌ متنامية العدد، بالنسبة لهؤلاء الأفراد الذين يبنونه ويدربونه وينظمونه، ولصانعي السياسات وقادة الأعمال الذين لديهم مستشارون تقنيون تحت تصرفهم، يجب أن تكون الشراكة ممتعة وإن كانت مروّعة في بعض الأحيان.

إن الحدود بين البشر والذكاء الاصطناعي مسامية على نحو لافت للنظر. إذا حصل الأطفال على مساعدين رقميين في سن مبكرة، سيعتادون عليهم. وفي الوقت نفسه سيتطوّر المساعدون الرقميون مع أصحابهم، ويستوعبون تفضيلاتهم وتحيزاتهم مع نضوجهم. وبمرور الوقت قد يفضّل الأفراد مساعديهم الرّقميّين على البشر، لأن البشر سيكونون أقل حدسًا لتفضيلاتهم وغير مُسْتَحَبِّين أكثر، ونتيجةً لذلك، قد يتناقص اعتمادنا على بعضنا بعضًا، على العلاقات الإنسانية.

سيستمر العقل والإيمان التقليديان في عصر الذكاء الاصطناعي، لكن طبيعتهما ونطاقهما سيتأثران بشدّة بإدخال شكل جديد وفعّال من المنطق الذي يعمل بالآلة.

قد تستمر الهوية البشرية في الاعتماد على ذروة الذكاء الحيّ، لكنّ العقل البشري سيتوقف عن وصف الاكتساح الكامل للذكاء الذي يعمل على فهم الواقع.

تميّز عصر التنوير بمحاولات تعريف العقل البشري وفهمه من خلال علاقته وتناقضه مع العصور الإنسانية السابقة.

قد يسعى الحذر إلى تقييد الذكاء الاصطناعي، وقصر استخدامه على وظائف منفصلة وتحديد متى وأين وكيف يتم استخدامه.

قد تحتفظ المجتمعات أو الأفراد بدور المدير والحكم لأنفسهم، مما يقصي الذكاء الاصطناعي إلى موقع موظفي الخدمات المساعدة.

ستتحدى الديناميكيات التنافسية القيود، التي تُعَدُّ المعضلات الأمنية المعروضة في الفصل السابق أوضح دليل عليها.

إذا كان الذكاء الاصطناعي يمكن البيروقراطي أو المهندس المعماري أو المستثمر من التنبؤ بالنتائج أو الاستنتاجات بسهولة، فكيف يمكنه عدم استخدامه؟

نظرًا للضغوط المفروضة على الانتشار، يجب صياغة القيود المفروضة على استخدامات الذكاء الاصطناعي المرغوبة، في ظاهرها على مستوى المجتمع أو المستوى الدولي.

قد يؤدي الذكاء الاصطناعي دورًا رائدا في استكشاف وإدارة العالمين المادي والرقمي في مجالات محدّدة، وقد يذعن البشر للذكاء الاصطناعي، مفضلين عمليّاته على قيود العقل البشري.

قد يدفع الإذعان العديد من البشر إلى التراجع إلى عوالم فردية مفلترة ومفصلة على قياسهم في هذا السيناريو.

ستحدث ثورة الذكاء الاصطناعي بسرعة أكبر مما يتوقعه معظم البشر. وما لم نطوّر مفاهيم جديدة لشرح وتفسير وتنظيم التحولات الناتجة عنها، فلن نكون مستعدين للتنقل فيها أو لما أدّت إليه.

من الناحية الأخلاقية والفلسفيّة والنفسية والعملية نجد أنفسنا على حافة حقبة جديدة، يجب أن نستفيد من أعمق مواردنا– العقل والإيمان والتقاليد والتَّكنولوجيا– لتكييف علاقتنا مع الواقع حتى تظل إنسانية.

***

الفصل السابع: الذكاء الاصطناعي والمستقبل

تلوح اليوم حقبة جديدة، ستغير التكنولوجيا المعرفة والاكتشاف والتواصل والفكر الفردي. ليس الذكاء الاصطناعي بشريًّا. فهو لا يأمل، ولا يصلّي، ولا يشعر. كما أنه ليس لديه وعى أو قدرات تأملية.

إنّه خلق بشري، يعكس العمليات المصممة من قبل الإنسان على الآلات التي صنعها الإنسان.

إن النتائج المذهلة التي يخرجها الذكاء الاصطناعي قد تكشف عن جوانب من الواقع أكثر دراماتيكيةً مما سبق لنا التفكير فيه. قد يكون الأفراد والمجتمعات الذين يجندون الذكاء الاصطناعي بوصفه شريكًا لتضخيم المهارات أو متابعة الأفكار قادرين على تحقيق مآثر – علميّةٍ وطبّيّة وعسكرية وسياسية واجتماعية – تتفوق على تلك التي كانت موجودة في الفترات السابقة.

ومع ذلك، بمجرد اعتبار الآلات التي تقاربُ الذكاء البشري مفتاحًا لتحقيق نتائج أفضل وأسرع، قد يبدو العقل وحده قديمًا، فبعد تحديد حقبة ما، قد تجد ممارسة العقل البشري الفردي أنّ دلالتها قد تغيّرت.

إن ثورة الذكاء الاصطناعي ستفعل شيئًا مشابها لما أحدثته ثورة الطباعة في أوروبا في القرن الخامس عشر أفكارًا وخطابًا جديدًا، ولكن هنا سيكون الوصول إلى معلوماتٍ جديدةٍ، وإنتاج تقدم علمي واقتصادي كبير، وبذلك، تحويل العالم، لكن سيكون من الصعب تحديد تأثيره على الخطاب.

من خلال مساعدة البشريّة على التنقل في مجمل المعلومات الرقمية سيفتح الذكاء الاصطناعي آفاقا غير مسبوقة للمعرفة والفهم.

إن رفض استخدام الذكاء الاصطناعي لن يعني فقط الانسحاب من وسائل الراحة، ولكن أيضًا ترك مجالات واسعة من البيانات والمنصات الشبكية والتقدّم الحاصل في المجالات من الرعاية الصحية إلى التمويل.

على المستوى الحضاري، سيكون التخلّي عن الذكاء الاصطناعي غير ممكن، سيتعين على القادة مواجهة تداعيات التكنولوجيا، التي يتحملون مسؤولية كبيرةً عن تطبيقها.

إن الحاجة إلى أخلاقيات تفهم عصر الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية، ولكن لا يمكن أن يعهد بها إلى نظام أو مجال واحد فعلماء الكمبيوتر وقادة الأعمال الذين يطوّرون التكنولوجيا، والاستراتيجيون العسكريون الذين يسعون إلى نشر استخدامها، والقادة السّياسيّون الذين يسعون إلى قولبتها، والفلاسفة واللاهوتيون الذين يسعون إلى التحقيق في معانيها الأعمق، جميعهم يرون أجزاء من الصورة، وينبغي أن يشارك الجميع في تبادل للآراء لا تشكله الأفكار المسبقة.

سيكون لدى البشرية ثلاثة خيارات أساسية: الحد من الذكاء الاصطناعي أو الشراكة معه أو الإذعان له. ستحدد هذه الخيارات تطبيق الذكاء الاصطناعي على مهمات أو مجالات محدّدة، ما يعكس أبعادًا فلسفية وعملية.

جعلت دول أخرى الذكاء الاصطناعي مشروعا وطنيًّا، لم تقم الولايات المتحدة بعد كأمة، باستكشاف نطاقه منهجيا، أو دراسة تداعياتها، أو بدء عملية المصالحة معه.

يجب على الولايات المتحدة أن تجعل هذه المشاريع كلها أولويات وطنية ستطلب هذه العملية الأشخاص ذوي الخبرة العميقة في مختلف المجالات للعمل معًا، وهي عملية من شأنها أن تستفيد فائدة كبيرة من خلال قيادة مجموعة صغيرة من الشخصيات المرموقة من أعلى مستويات الحكومة والأعمال والأوساط الأكاديمية.

قد يؤدي حلول الذكاء الاصطناعي، بقدرته على تعلم المعلومات ومعالجتها بطرق لا يستطيع العقل البشري القيام بها وحده، إلى إحراز تقدم في الأسئلة التي ثبت أنها تتجاوز قدرتنا على الإجابة عنها.

يلتقي الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، ويُطبَّقان على المساعي في المستويات الوطنية والقارية وحتى العالمية. وسيتطلب فهم هذا الانتقال، وتطوير أخلاقيات توجيهية له، التزاما وبصيرةً من العديد من عناصر المجتمع: العلماء والاستراتيجيون ورجال الدولة والفلاسفة ورجال الدين والمديرون التنفيذيون ويجب أن يتمّ هذا الالتزام داخل الأمم وفيما بينها.

حان الوقت الآن لتحديد كل من شراكتنا مع الذكاء الاصطناعي والواقع الذي سينتج عنه.

ربما يعجبك أيضا