من ثورة 2011 لحرب غزة.. الاضطرابات النفسية تؤرق التونسيين

الاضطرابات النفسية بتونس.. رحلة من ثورة 2011 إلى حرب غزة

عبدالمقصود علي

زيادة في القلق والاكتئاب والاضطرابات النفسية، وطفرة في الأدوية النفسية بتونس، وهي محنة حقيقية، زادت منذ ثورة 2011، وحتى حرب الإبادة الجماعية في غزة، مرورا بوباء فيروس كورونا.


منذ بداية عام 2024، استقبل مستشفى “الرازي” للأمراض النفسية بتونس حوالي ألف مريض، وفقا للطبيبة النفسية بهذه المؤسسة ورئيسة الجمعية التونسية لتعزيز الصحة العقلية والوقاية منها لدى الشباب، ليلى الشايبي.

ونقلت مجلة “أوريون 21” عن الشايبي قولها: إن اضطرابات القلق والاكتئاب تتزايد بشكل ملحوظ، ما جعل أوقات الانتظار للحصول على موعد أصبحت أطول فأطول.

اتجاه عالمي

تنعكس تعاسة التونسيين أيضًا في تقرير السعادة العالمية لعام 2024، التابع للأمم المتحدة، تكتب المجلة، حيث تحتل تونس المرتبة 115 من أصل 143، بانخفاض 5 مراكز مقارنة بالسنة السابقة، ويعتمد هذا التصنيف على عدة مؤشرات منها الشعور بالحرية، وغياب الفساد، ومستوى الدخل والدعم الاجتماعي.

لكن تونس ليست حالة خاصة، فقد أدت أزمة “كوفيد” إلى زيادة عدد الأشخاص المصابين باضطرابات القلق والاكتئاب بنسبة 25%، وفقا لمنظمة الصحة العالمية.

وتقول وفاء حجي، أخصائية علم النفس العصبي السريري في جمعية الصحة وعلم النفس: لقد سلط هذا الوباء الضوء على أهمية الصحة العقلية كقضية صحية عامة تؤثر على جميع السكان”.

ظاهرة مثيرة للقلق

من جهتها قالت الإخصائية نائلة بن صلاح “بدءًا من وباء كوفيد، لاحظنا انهيارًا حقيقيًا في التوازن النفسي لشريحة متنامية من التونسيين. إذ ظهرت أمراض القلق والاكتئاب”، مؤكدة أنه فيما بعد أصيب المرضى الآخرون الذين استقرت حالتهم بانتكاسة.

هناك ظاهرة عالمية أخرى مثيرة للقلق، توضح “أوريون 21″، وهي التأثير الضار لشبكات التواصل الاجتماعي وما يرافقها من مقترحات للسعادة، والتي تعتمد في الأساس على عوامل مادية: المال، والسفر، وما إلى ذلك.

وتبين أن هذا النوع من المحتوى يغمر الإنترنت ويولد ملايين “الإعجابات” على الشبكات الاجتماعية، ومع ذلك، فإن صناعة السعادة هذه لها تأثير سلبي على الصحة العقلية.

مسح (MICS)

وبحسب مؤلفي مسح وطني أجرته وزارة الصحة ونشر عام 2023، تأثير هذا النوع من المحتوى أكثر إثارة للقلق بالنسبة للشباب، حيث يربط بين استخدام الشاشات، وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو، مع تأثيرات نفسية ومعرفية ضارة محتملة، مصحوبة بزيادة خطر القلق والاكتئاب.

كما وجد مسح العنقودي متعدد المؤشرات(MICS)  عام 2018 – برنامج دولي وضعته ودعمته منظمة الصحة العالمية- أن حوالي 20٪ من الشباب التونسي الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عامًا يعانون من القلق وحوالي 5٪ منهم من الاكتئاب، والآن هناك المزيد منهم كمرضى.

ويظهر هذا الاستطلاع أيضا تطورًا في استهلاك المخدرات منذ 2013، وهو ما يمكن اعتباره شكلًا من أشكال “العلاج الذاتي”، بحسب نائلة بن صلاح، فمزيلات القلق التي لا تستلزم وصفة طبية هي من بين المواد التي تحظى بشعبية متزايدة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 17 عامًا.

بيانات ملموسة

استخدام هذه الوصفات زاد بشكل كبير منذ عام 2017 ويتجاوز المتوسط ​​​​الملاحظ المراهقين الأوروبيين، وفقًا لمسح وزارة الصحة، كما أن الفتيات هم الذين يستهلكونه أكثر من غيرهم، وفي ظل غياب المزيد من الإحصاءات الرسمية العالمية، يلجأ العاملون في مجال الصحة إلى بيانات ملموسة تتعلق بعدد المرضى ووصفات الأدوية وبعض الدراسات العلمية، بما في ذلك الدراسات العالمية، لتقييم مدى محنة التونسيين.

وتعود هذه الحالة النفسية الطارئة في تونس إلى ثورة 2011، إذ تضاعف عدد التونسيين الذين يدخلون مستشفى الرازي من 4000 إلى 5000 مريض سنويًا. وحتى قبل جائحة كوفيد، اقترب هذا العدد من 9400 عام 2019، بحسب الأمين العام لنقابة المستشفى، كامل بن رحال.

كما أن الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحالية لا تساعد على تحسن الأمور، كما تشير الطبيبة نائلة بن صلاح قائلة: في السابق، كان المرضى يركزون بشكل أساسي على المخاوف المتعلقة بحياتهم الحميمة. الآن، يتحدثون كثيرًا عن البيئة المثيرة للقلق، عدم الاستقرار، وانعدام الأمن، أو حتى عدم الرؤية فيما يتعلق بالآفاق المستقبلية.

التونسيون وغزة

بسبب حساسية التونسيين لمحنة الفلسطينيين في قطاع غزة، فقد أثرت الحرب عليهم أيضًا، كما يتضح من استطلاع أجراه قسم الصحة العقلية في مستشفى “منجي سليم” والذي يسلط الضوء على التداعيات النفسية والاجتماعية الناجمة عن التعرض لصور هذه الحرب.

في المجمل، أفاد 80.5% من العينة التي شملت 683 تونسيًا ممن شاهدوا المحتوى الإعلامي اليومي الذي يغطي الإبادة الجماعية بالقطاع، أنهم يشعرون بمشاعر سلبية مثل الغضب واليأس والحزن، فيما ذكر حوالي 12.5% ​​أنهم يشعرون بالذنب.

لكن المشكلة تكمن في التردد لطلب المساعدة من المهنيين الصحيين في الفترة ما بين بداية الضائقة النفسية وتاريخ الاستشارة، حيث تحذر الشايبي من أن هذه المدة تكون 15 شهرًا في المتوسط​، ​ويمكن أن تصل إلى 10 سنوات، وفي هذه الأثناء، يتغير التشخيص ويزداد سوءًا، وهذا لا يخلو من عواقب على الحالة العاطفية والاجتماعية والاقتصادية للشخص المعني.

خلل هيكلي

من الناحية المؤسسية، فإن سياسة الدولة التقشفية تؤدي إلى إبطاء توظيف الأخصائيين والأطباء النفسيين في القطاع العام، كما يعترف منسق اللجنة الفنية لتعزيز الصحة النفسية بوزارة الصحة، في حين هناك حاجة لذلك، إذ يوجد في المتوسط ​​1.25 طبيب نفسي لكل 10.000 نسمة، وفقًا لأرقام 2021، كما تظهر التفاوتات بين المناطق بشكل صارخ.

هذا الوضع يتفاقم مع رحيل الأطباء النفسيين إلى الخارج، والنتيجة: من يملك الإمكانيات يتجه نحو القطاع الخاص، حيث سعر الاستشارة 80 دينارًا (قرابة 24 يورو)، في بلد يبلغ الحد الأدنى للأجور فيه 491 دينارًا (145 يورو) لنظام العمل 48 ساعة.

وهذه المعاناة كما توضح المجلة، لها تكلفة حيوية ملموسة: فالأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية حادة يموتون في المتوسط ​​قبل بقية السكان بما يتراوح بين 10 إلى 20 سنة.

ربما يعجبك أيضا