ندوة «رؤية»: آسيا الوسطى ودور القوى الإقليمية في النظام الدولي الجديد (2-2)

محمد النحاس

كيف عكست صراعات القوى الإقليمية بآسيا الوسطى ملامح نظام عالمي جديد؟ وما أبرز هذه الملامح؟


استكمالًا لتغطية ندوة شبكة “رؤية” الإخبارية، تحدث باحثون لفهم دور القوى الإقليمية بآسيا الوسطى، وعلاقتها ببنية النظام العالمي.

وتحدث الباحثون بالندوة عن صعود الجغرافيا السياسية، وارتباطها بشبكات مصالح القوى الإقليمية، وتأثيرها في صراعات القوى الصغرى بالمنطقة، وتداخل مصالحها مع القوى العالمية الكبرى، والقوى الإقليمية المتوسطة.

الجغرافيا مقابل التكنولوجيا

قال الباحث السياسي، بهاء عياد، إن جوهر التنافس بين الصين والولايات المتحدة يرتبط بالقطاع التكنولوجي، وتشن واشنطن بالفعل “حربًا تقنية” على بكين، خاصةً في قطاعي الرقائق الإلكترونية، وتكنولوجيا الجيل الخامس.

لكن القصاص قال إنه وإن كان يرى دورًا متناميًّا للتكنولوجيا في مسار النزاع إلا أنه لا يمكن إغفال دور الجغرافيا السياسية في هذا الإطار، مشددًا على أن “العولمة الجديدة تقتضي صعود قوى أحادية إما بكين وإما واشنطن”.

تنافس أم تعاون

في حين رأى الباحث بهاء محمود أن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة تعاونية، أكثر منها تنافسية “لأن الروس هم المنافس الأخطر للصين”.

وأشار البشلاوي إلى أن الهدف الرئيس، الذي يجمع بكين وموسكو، هو إنهاء القطبية الأمريكية، ما يحتم على الجانبين الاتفاق على تنازلات متبادلة، تحقيقًا للتفاهم المستقبلي، وللوصول للمصلحة المشتركة (أي خلق نظام عالمي متعدد الأقطاب).

698deb12 1ea2 4d58 aaad 9f26bff06e4e 1 1

صعود الجغرافيا السياسية

يبدو التنافس بين الجانبين إذن ضرورة حتمية لا مفر عنها، وفي هذا الصدد، يشدد هيثم البشلاوي، على أنّ الصين لن تستطيع تحقيق الريادة في ظل كونها حبيسة لجغرافيتها الآنية.

وأشار خبير الشؤون الاستراتيجية، أكرم حسام، إلى أن النشاط العسكري المتزايد للولايات المتحدة، الرامي للضغط على الصين، غرب المحيط الهادئ، دفع بكين للبحث عن طرق ومسارات تجارة بديلة عن طريق آسيا الوسطى، في ظل خرائط جيوسياسية تحاول القوى الإقليمية إعادة تشكيلها.

البحث عن القواسم المشتركة

يلفت خبير الشؤون الإيرانية وآسيا الوسطى، يوسف بدر، إلى أن “الجغرافيا السياسية صعدت على الساحة الدولية في ظل حالة إعادة التموضع الإقليمي”.

ويشير بدر إلى أن العامل التاريخي كذلك لا يمكن إغفاله، لدى قوى مثل إيران وتركيا، التي فرضت تاريخيًّا، حضورًا بارزًا في منطقة شرق المتوسط، وجرى استدعاء هذا الجانب التاريخي، في ظل سعي القوى المختلفة لإيجاد سلاسل إمداد سريعة وآمنة، ومنخفضة التكلفة.

وفي ما يتعلق بالجانب التاريخي، تعود تركيا للإرث العثماني، في حين تستدعي إيران التراث الفارسي، وفي هذا السياق، يمكن فهم التدخل الإيراني في سوريا عام 2015، وفقًا ليوسف بدر.

a 18

أدوات متنوعة

يرى الدكتور يوسف بدر أن هذه الصراعات ليست فواعل رئيسة، بل هي أدوات في رسم الخرائط السياسية، ويمكن القول إن القوى السياسية تعود للعوامل التاريخية، والمشتركات الثقافية، والجوانب الديموغرافية، لتحقيق المصلحة الجيوسياسية، مكونةً بذلك شبكات مصالح، تلتقي حينًا، وتفترق أحيانًا.

وأضاف أن التاريخ والثقافة والدين جوانب يمكن توظيفها كأدوات فعالة في تنفيذ الأجندة السياسية، وهذه هي العوامل التي يجري استغلالها في الصراع، ولكن ما هي أبرز قوى الصراع؟

الاتجاه شرقًا

يقول بدر إن عدة قوى إقليمية بدأت انتهاج سياسة “الاتجاه شرقًا”. فإيران تحوي التيار المحافظ الداعم لهذه السياسية، وتركيا بعد فشل مساعيها للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، بدأت كذلك في الرجوع لجذورها بوسط آسيا، علاوةً على الصين، التي رأت في هذه المنطقة ممرات تجارة سريعة وسلسلة وبعيدةً عن توترات الباسفيك.

وفي هذا السياق، يرى بدر أن العالم يتحرك لما بعد “سايكس بيكو”، وبدأت دول إقليمية تنتظر انقضاء معاهدات ما بعد الحرب العالمية الأولى، للتحرك صوب عالم جديد، وقواعد جديدة.

تنافس إقليمي

في ظل سياسة “التوجه شرقًا”، ظهر ممر شمال جنوب، الرابط بين الشمال الإيراني والجنوب، أي يصل دول القوقاز وروسيا، بجنوب إيران. وفي مقابل هذا الطريق، جاء الممر الاقتصادي الباكستاني الرابط بين شمال البلاد وجنوبها، أي الصين وآسيا الوسطى، وفق بدر.

2659 531

ويجعل هذا المشهد التنافس الإقليمي محتدمًا بين ميناء جوادر الباكستاني، وميناء تشابهار الإيراني، ويمكن الانطلاق من هذه الموانئ نزولًا إلى الخليج وباب المندب وبحر العرب، أو الصعود شمالًا للقوقاز وآسيا الوسطى، ما يجعل كلا الطريقين مسارات رئيسة للتجارة العالمية.

ويحتم صعود الجغرافيا الصلبة، البر بديلًا عن البحار، في ظل أزمات سلاسل التوريد البحرية. ويمكن تلخيص المشهد، وفق خبير الشؤون الإيرانية، باحتدام المنافسة الإقليمية للسيطرة على ممرات التجارة بوسط آسيا، لكن لا يقف التنافس عند هذا الحد.

Chabahar Port Img1 1024x1024 1

صراع الممرات الصامت

بالعودة لسياسة “الاتجاه شرقًا”، فإن تركيا تبحث عن موطأ قدم لها بمنطقة آسيا الوسطى، وظهرت هذه السياسة في دعم البلاد الناطقة بلغتها، أو ذات عرقية تركيّة، لذلك تسعى للتقارب مع دول مثل أوزبكستان وقرغيزستان، حسب إشارة خبير شؤون آسيا الوسطى.

165823134176341400

وهذه الدول على الخريطة، تحاصر طاجيكستان، وهي الدولة التي تشهد تقاربًا متزايدًا مع إيران، وفي حرب ّأذربيجان وأرمينيا، دعمت طهران الأخيرة، واستطاعت الدولة الآذرية استعادة جزء من إقليم “ناجورنو كارباخ”، ما يعني وجود ممر من الصين إلى تركيا عن طريق الإقليم المحرر، وفقًا لبدر.

nagorno karabakh

ويعني هذا الممر تجاوز إيران في الطريق من الصين إلى تركيا، ما دفع دوائر سياسية في طهران للحديث عن استعادة إقليم ناختشيفان، الذي تسيطر عليه أذربيجان، وهو إقليم كان إيرانيًّا سابقًا، ويتمتع حاليًا بالحكم الذاتي، ويقع بين إيران وتركيا، جنوب القوقاز.

نهج برجماتي وأوراسيا الجديدة

يضيف بدر أن ما يعيق حسم الموقف بين إيران وتركيا كقوى إقليمية، وكذلك بين الدول الأصغر، اتباع موسكو نهجًا برجماتيًّا، في الموازنة بين طهران وأنقرة، في ظل ما يجمعها بكلا الدولتين من علاقات قوية.

وأشار إلى أن الروس سمحوا للإيرانيين بالوصول إلى موانئ روسية بشرق أوروبا، ما يعزز فرضية تشكل أوراسيا في ظل الخرائط الجديدة (أوروبا الشرقية + آسيا الوسطى)، وتربط هذا الإقليم مصالح اقتصادية أكثر من فكر أيدولوجي محدد، وفي هذا الإطار يشير بدر إلى دعم إيران صربيا ضد كوسوفو.

المجال الحيوي وتبدل المخيال

أوضح بدر أن محددات الاشتباك والافتراق تتعلق بالمصلحة على نحوٍ رئيس، في تجلٍ للنهج البرجماتي في العلاقات الإقليمية، وأن كل هذه العوامل، ترجح احتمال تفجر صراعات إقليمية بالمنطقة، مشددًا على أن هذه “الصراعات ليست الفواعل الرئيسة، بل تستخدم كأدوات لرسم المشهد الجيوسياسي”.

ويعلق الدكتور هيثم البشلاوي، على ما سلف، من وجهة نظر الاستراتيجيات، مشيرًا إلى أن المجال الحيوي للدول تبدل من حدود الجغرافيا الإقليمية إلى منظور أكثر سعةً، ليظهر المجال الاستراتيجي بديلًا، كمحرك رئيس للقوى الدولية.

0c454f5b b68b 456f 85b2 b49c29ed6049 1

كيف نستفيد من هذا المشهد؟

شدد البشلاوي ختامًا على ضرورة الاستثمار في النتائج، مردفًا “حتى إن لم نمتلك التحكم في مجريات الأحداث، يمكننا الاستفادة من المآلات عن طريق فهم الفواعل الرئيسة”.

وفي هذا الصدد، يرى يوسف بدر، أنّ “الحل الأمثل بالنسبة لنا كدول عربية، فهم تركيبة الدول الشرقية، وبنيتها الثقافية التي تؤثر فينا في ظل عالم معولم”، مشددًا على ضرورة “امتلاك القدرة على الاختيار بين الشرق والغرب”، ومحاولة بناء مقاربة متوازنة في التعامل مع واقع جيوسياسي معقد، لتحقيق أكبر استفادة ممكنة.

اقرأ أيضًا: ندوة «رؤية»: كيف تؤثر تحولات آسيا الوسطى في رسم معالم النظام الدولي؟ (1-2)

ربما يعجبك أيضا