هبوط حاد مفاجئ في دورة الحياة ‍!

خالد شتات

كتبت – علياء عصام الدين

كيف يمكن أن نواجه هذا الهبوط الحاد المفاجئ في دورة الحياة، والذي يعقبه فقدان الأمل والبهجة ومعنى الحياة وجدواها؟

“يللا بينا تعالوا نسيب اليوم في حاله، وكل واحد مننا يركب حصان خياله”… هكذا كان الشيخ حسني في “الكيت كات” يتنصل من المسؤولية ويستسلم للكسل ويعيش اللحظة في محاولة منه لنسيان هموم حياته القاسية.

جسّد محمود عبد العزيز بعبقرية فذة شخصية الشيخ حسني الكفيف الذي يرصد يوميات أبناء الحي ويعكس همومه، ذلك الرجل البسيط الذي عاش وحيدًا بعد وفاة زوجته مع أمه العجوز وابنه العاطل عن العمل لينسى همومه بالضحك والاستسلام واللامبالاة في رائعة مأخوذة عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان.

فكرة “اللامبالاة” والبحث عن اللذة والاستسلام للحظة الآنية وجمالها وترك الغد للغد، جذبت الكثير من صناع السينما فنحن نجد الكثير من السيناريوهات التي أثرت بشكل جذري في الشخصية المصرية المكبلة بالهموم والمحملة بالأعباء اليومية.

عكست السينما بشكل كبير تكوين الشخصية المصرية التي تميزت بالفكاهة، فالمصريون أصحاب “نكتة” حتى في أحلك الأوقات.

الاحتفال بالحياة والتجرد من كل انضباط “تيمة” مصرية مثيرة للاهتمام والبحث، فهي فكرة تلقى رواجًا واستحسانًا كونها تبعث على الأمل وتدفع بنا للدفع بالهموم جانبًا والعيش على أساس “ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا… واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا“.

الشيخ حسني وشحاته أفندي “فريد شوقي” في فيلم صلاح ابو سيف “السقا مات” وغيرها من الشخصيات في الكثير من الأفلام نماذج لشخصية كثيرة الحضور في السينما المصرية، شخصية الهارب من الواقع اللامبالي بالحياة.

إن مقابلة هذا العالم البائس بوجه “ضاحك” وابتسامة ليس بالأمر اليسير، وسط الهموم هناك أمل وضحكة صافية يمكنها أن تنتشلك من داخلك المُظلم.

لكن هناك فرق شاسع بين الضحك والتفاؤل مع المواظبة والانشغال في الحياة والاستمرار في العطاء بإيجابية وتلك الحالة المرضية التي يمر بها معظمنا وهي تجربة الفتور وعدم الاكتراث والانسحاب من الواقع.

إن خوض مثل هذه التجربة بجانبها السلبي من أقسى التجارب البشرية التي قد يمر بها المرء وفيها يصعب علينا الإحساس بطعم الأشياء ولذتها، فهي تعبير عن ما يعانيه الفرد من خسارة عظمى وتأتي عادة بعد تجارب قاسية كرد فعل عكسي ونوع من التعايش النفسي مع الصدمة.

تأتي اللامبالاة جراء افتقاد الدافع والمحرك لفعل شئ أو حتى انتظاره، تأتي بسبب انعدام الشغف وتوقف الأحلام وعدم وجود هدف والإحساس باللاجدوى في الحياة، يعقب هذا الإحساس محاولة جادة لتنحية المشاعر جانبًا في زاوية بعيدة عن النفس وما يتبعها من قفل أبواب الروح والقلب.

وتترك اللامبالاة على ملامح الوجه بلادة وتعطي قيمة لأشياء لا قيمة لها وتسحب القيمة من أشياء أخرى أكثر أهمية إنها مبدأ جديد نعتنقه هروبًا وعلى مضض ونتجرعه بمرارة شديدة مصدقين أن فيه الخلاص.

اللامبالاة تشبه شعور الواقع تحت تأثير المخدر فردود الأفعال من حولنا تستنزف طاقاتنا بشكل كبير وتدفع بنا للانفصال وتولد احساسنا بالفتور، وكما أن النوم لفترة طويلة ترافقه أوجاع جسدية كذلك الفتور تصاحبه آلام نفسية جسدية تشبه الشلل، فأنت غير قادر على القيام بشئ بل لا رغبة لك في شئ .

هذه السلبية تخلق جوًا كارثيًا من حولنا ففقدان الدوافع والأهداف وعدم القدرة على مواجهة تحديات الحياة هي فقدان للحياة ذاتها.

وتطرق تجربة “اللامبالاة” أبوابنا بشكل كبير في كل مرحلة من مراحل حياتنا، وعادة تنتج بعد مرورنا بكوارث عظمى تزلزل أفكارنا وأسسنا ومعتقداتنا فنشعر بعدها باللاجدوى التي نفقد معها أسباب السعادة ولا نولي اهتمامًا حتى بالفشل ولا الرغبة في تعويض خساراتنا.

نحن ننسحب من الواقع لأننا لم نأخذ وقتنا الكافي لضبط إيقاعاتنا لتناسب شراسة الحياة، وتلزمنا الكثير من الخسارات لندرك قيمة ما تبقى في حوزتنا، لا لنفقد ما تبقى منا ونستسلم للفتور.

“أنا سأظهر على التلفاز، لذا أتناول كل هذه الأقراص لأفقد وزني وألبس الفستان الأحمر الذي كان يحبه والدك كثيراً، وسوف تصبح فخوراً بأمك وأنت تشاهدها على الشاشة وهي بالفستان الأحمر والحذاء الذهبي.

– وما أهمية ذلك ؟!
– أهمية ذلك!! أنت أتيت ورأيتني يا هاري، رأيت كم أنا سعيدة، أنا شخص ذو أهمية الآن، الجميع يحبونني، وقريباً ملايين من الناس سوف يشاهدونني ويحبونني، سوف أخبرهم عنك وعن والدك، وكم كان جيداً معنا.. أهمية ذلك أنه أصبح سبباً لأستيقظ في الصباح، سبباً لأفقد وزني، سبباً لأرتدي فستاني الأحمر.. سبباً كافياً لأبتسم.

فبعد كل هذا العمر لا أعرف ما الذي حصلت عليه؟ ما الذي أحصل عليه من ترتيب الشقة وغسل الصحون؟ أنا أعيش بمفردي الآن.. أبوك مات، وأنت رحلت.. لا يوجد أحد لأهتم به، أو ليهتم بي.. أنا وحيدة.. عجوز وحيدة.

لكنى الآن أحب أن أفكر في التلفاز والفستان الأحمر، الآن فقط عندما أنظر للشمس أبتسم”.

هكذا عبرت “إيلين بروستين” بعبقرية منقطعة النظير في فيلم “مرثية حلم” عن شعور اللامبالاة القاتل الذي يعقبه ذلك الحضور الذي يحمسنا ويدفعنا للانخراط في الحياة من جديد.

إن الاكتفاء بموقف المتفرج أو الساخر الذي يحيا بداخل غرفة فولاذية تفصله عن العالم الخارجي وما يحدث فيه ليس حلا لتجاوز المشكلات.

إن تغيير نمط التفكير لتجاوز تجربة اللامبالاة، أن تتغلب على إخفاقات الماضي، أن تُعيد اكتشاف قيمة ذاتك والحياة من حولك.

أن تتلقى الصفعات بوجه ضاحك وقلب قوي راض، أن تزيدك التجارب الصعبة خبرة وثراءً وأقبالًا وقبولًا للحياة .

أن يستمر عطاؤك حتى آخر نفس، أن تجدد ذاتك، وتتوقع أن القادم أسوأ وأفضل، هبوطًا وصعودًا، أن تسرق لحظات الحياة، أن تنهبها نهبًا، أن تستشعر “اللذة” في أصعب الظروف، وترى “النور” في أحلك الطرق، وتهتدي إلى السبيل رغم كل الخسائر.