تاريخ السينما السعودية في القرن الماضي.. حظ غير سعيد بالمرة

رنا الجميعي

 

في 2017 تفاجأ الجميع حين سمحت وزارة الثقافية السعودية بإصدار تراخيص لإنشاء دور السينما، وكان ذلك القرار إيذانًا بهبوب رياح التغيير على السعودية التي خلت من سحر السينما لأكثر من 3 عقود.

قبل ذلك الوقت عرفت السعودية السينما. صحيح أنها كانت في طور التطوير لكن أهل المملكة تنشّقوا عبيرها ولو لبعض الوقت، فكيف ومتى كان ذلك؟ ولماذا توقفت؟

الجاليات الغربية تنشئ دور العرض

في ثلاثينات القرن الماضي رجع الفضل في إتاحة السينما إلى الجاليات الغربية، وتقول روايات متعددة إن الموظفين الأجانب بشركة كاليفورنيا العربية للزيت القياسي، التي صارت أرامكو لاحقًا، هم أول من أدخل دور العرض السينمائية إلى السعودية.

لم تكن قاعات سينما بالشكل المعروف الآن، بل وضعوا شاشات العرض في مُجتمعاتهم السكنية لمتابعة الأفلام الأمريكية والأوروبية. ولم يقتصر دور الشركة الأجنبية على عرض الأفلام فقط، بل إنها أنتجت أفلامًا.

“الذباب” عام 1950

من الأعمال التي أنتجتها شركة “كاليفورنيا العربية” فيلم وثائقي عن تدشين أول بئر بترول بالمملكة، بحضور العاهل السعودي الملك عبد العزيز  بن عبد الرحمن آل سعود.

وأنتجت الشركة أيضًا ما يعتبره كثيرون أول فيلم وثائقي سعودي وهو  “الذباب” عام 1950، من بطولة الممثل السعودي حسن الغانم، المعروف أنه أول ممثل سينمائي سعودي، وهدف الفيلم إلى توعية الناس بمخاطر الذباب الذي انتشر في تلك الفترة بالسعودية.

“حارة السينما” وخصوصيتها

تتابع ظهور شاشات السينما داخل التجمعات السكنية للأجانب، فبدأ أهل الرياض بإقامة أماكن لعرض الأفلام بوسط المدينة داخل حي المُربّع، وجمع عددًا كبيرًا من أماكن عرض الأفلام، وعُرف باسم “حارة السينما”.

وتفنن  الأجانب في إقامة أماكن العرض، فداخل كل مُربع سكني تُنصب شاشة العرض، وتحيط بها الحواجز التي تُعطي المكان خصوصيةً، وتوضع المقاعد الخشبية في صفين ليتسنّى للجمهور مشاهدة الفيلم، وكل مُربّع تُضاف إليه بعض الديكورات ليتميز بطابعه الخاص.

صورة 1 2

شاشات العرض في المدينة وجدة

حسب المؤرخ الفني علي فقندش، فتح أبو السرور بري بابًا على العالم لأهل المدينة المنورة، فقد أنشأ أول “حوش” لعرض الأفلام السينمائية هناك.

أما جدّة فأخذ المبادرة فيها فؤاد جمجوم، وعُرفت حارة السينما هُناك بـ”حارة الجماجمة” نسبة إلى العائلة الثرية التي شرعت في إحياء السينما بالسعودية، بنفس الطريقة الموجودة في الرياض والمدينة المنورة. ويتذّكر أهل جدة الأفلام الإنجليزية والأمريكية والهندية والإيطالية والفرنسية، التي كانت تُعرض في تلك الفترة من خمسينات وستينات القرن الماضي.

سينما الأحواش ومتاجر الأفلام

بعد مغيب الشمس، كانت الأحواش تعرض فيلمين أو أفلام 3 في الليلة الواحدة، وكثيرًا ما تضمن البرنامج السينمائي فيلمًا مصريًّا، وامتلأ بما يُثير خيال أهل جدة، ويُثري ثقافتهم السينمائية، واحتوى البرنامج أيضًا على فيلم هندي يستغرق نحو 3 ساعات، أي إن البرنامج كان يمتد إلى ساعات الفجر الأولى.

عُرفت تلك المساحات بـ”سينما الأحواش”، وبادر الأثرياء في السعودية إلى إقامتها، ويحتشد الجمهور من الطبقات البسيطة لمشاهدة الوجبة الدسمة من الأفلام. وانتشرت حول “أحواش السينما” محلات تأجير الأفلام التي كانت بشارع الملك عبد العزيز، وتغطت جُدرانها بأفيشات الأفلام المصرية في تلك الفترة.

الانتشار وشرعية الترخيص

لم تحتج السينمات البدائية إلى ترخيص رسمي، وأخذت شرعيتها مع انتشارها في مدن سعودية عديدة، وساعد على ذلك مشاركة كبار العائلات السعودية في إقامة السينمات، وعلى رأسها آل جمجوم وآل باديب. واحتضنت الأندية الرياضية قاعات سينما بين عامي 1977 وحتى عام 1983، وأقبل الجمهور السعودي على مشاهدة الأفلام البوليسية وأفلام رعاة البقر الأمريكية، إضافة إلى الأفلام المصرية.

وخلال هذه الفترة انتشرت دور السينما في 4 مدن سعودية، هي الرياض وجدة والطائف وأبها، حتى وصل عدد دور العرض في جدة إلى 30 دارًا، بأسعار تذاكر تتراوح بين 3 و4 ريالات، لكن الأفلام تعرّضت للرقابة التي منعت الأفلام غير المسموح بها، وسنّت قوانين تعاقب المخالفين من رجال الأعمال.

فؤاد جمجوم وأثره في السينما السعودية

فؤاد جمجوم هو صاحب أول دار عرض سعودية بشكلها المعروف، ففي عام 1969 افتتح صالة عرض مميزة تُشبه السينما التي دشنتها الشركة الأمريكية “مترو” في القاهرة، تحت اسم “مترو جولدن ماير”، كما يذكر ابنه وحيد في حديث سابق.

وقسم جمجوم صالة السينما التي أسسها إلى دورين، الدور الأعلى للعائلات، والدور الأسفل للشباب من غير المتزوجين، لكنها انتهت نهاية تعيسة بتعرضها لحريق أنهى وجود السينما. وبجانب تلك القاعة الرسمية كان جمجوم يمتلك 8 أحواش مخصصة للسينما في جدة.

سجن ومساءلة جمجوم

نشاط جمجوم لم يقتصر على مدينة جدّة فقط، بل امتد إلى الرياض في حي المربع، وأخذت الأندية الرياضية الأفلام التي يعرضها جمجوم، وكذلك أخذتها الجمعيات الخيرية، ووصلت أسعار التذاكر حينها إلى 10 ريالات.

صورة 3 فؤاد جمجوم

ولم ترحب السلطات السعودية بنشاط جمجوم الواسع في السينما، فقد تعرض في بداياته بالذات للسجن والمساءلة القانونية بسبب التشكيك في فحوى الأفلام التي يعرضها، لكنه في كل مرة كان يتمكن من الاستمرار.

نجوم مصر يبيعون التذاكر

بجانب نشاطه في عرض السينما داخل السعودية، أنتج جمجوم أفلامًا عديدة غالبها كان لنجوم الصف الأول في مصر، وكان يدعوهم لترويج أفلامه في السعودية، حتى إن فريد شوقي وفؤاد المهندس وأحمد رمزي وآخرين تولوا بيع التذاكر إلى الجمهور السعودي بأنفسهم من أجل الدعاية.

صورة 4 فؤاد جمجوم

ومن بين ما أنتجه جمجوم فيلم “قاهر الظلام” بطولة محمود ياسين ويحيى الفخراني، وفيلم “كلمة السر” بطولة نور الشريف وليلى علوي، والسهرة التلفزيونية “التليفون” بطولة حاتم ذو الفقار وإيمان الطوخي. وقوبلت كل محاولات جمجوم لإثراء السينما السعودية بالهزيمة، لذا تخصص في توزيع الأفلام العربية داخل المملكة، وتأجيرها للأثرياء في جدة ومكة وغيرها من المدن السعودية.

 

“تأنيب الضمير” السعودي

بينما تحفظ الذاكرة السعودية أن أول فيلم وثائقي هو “الذباب” عام 1950، كان “تأنيب الضمير” أول فيلم روائي سعودي بعد ذلك بنحو 16 عامًا، وهو أول فيلم يصوره صناعه بكاميرا تصوير سينمائية 16 ملم، ويعتبر البداية الحقيقية للإنتاج السينمائي في المملكة.

لكن الإنتاج السينمائي للأفلام السعودية لم يقطع أشواطًا كبيرة في تلك الفترة، من الستينات والسبعينات والثمانينات في القرن الماضي.

المحيسن أول مخرج سعودي

في عام 1975 قدّم المخرج السعودي، عبد الله المحيسن، الفيلم القصير “اغتيال مدينة” الذي تناول الحرب الأهلية اللبنانية، وتحدّث عن مدى الضرر الذي ألحقته بالعاصمة بيروت، وحاز الفيلم حينها على جائزة “نفرتيتي” في مهرجان القاهرة السينمائي لأفضل فيلم قصير.

وقدّم المحيسن، الذي يعتبر أول مخرج سينمائي سعودي، فيلم “تطوير مدينة الرياض”، الذي شارك في مهرجان الأفلام التسجيلية بالقاهرة، وحصل الفيلم على شهادة تقدير من الأمم المتحدة.

سعد خضر  وإثراء السينما السعودية

بجانب إثرائه الحياة الفنية في السعودية، وعمله مُقدمّا لبرامج الأطفال في التلفزيون السعودي، وممثلًا في كثير من المسلسلات السعودية، شارك سعد خضر أيضًا كممثل سينمائي في فيلم روائي اسمه “موعد مع المجهول” عام 1980، من إخراج نيازي مصطفى، لكن الفيلم لم يظهر على شاشات السينما. ودارت قصة الفيلم حول ضابط شرطة يكتشف أن مهمته ليست سوى خطة لمعرفة مدى استحقاقه للترقية.

وبسبب التضييق على صناعة الأفلام السعودية، شارك خضر في أفلام عربية، منها فيلم “رحلة المشاغبين” عام 1988، بطولة سمير غانم، كما كتب بعض الأفلام مثل “صراع مع الأيام” عام 1984، وشارك في التمثيل أيضًا برفقة فاروق الفيشاوي وبوسي، ويعد الفيلم سعوديًا على اعتبار أن جهة الإنتاج هي الشركة السعودية للسينما. كذلك كتب خضر عددًا من الأفلام اللبنانية مثل فيلم “الزوجة المفقودة”.

صورة 6 سعد خضر

خلو المشهد من ممثلة سعودية

لم تكن السعودية سعيدة الحظ مع إنتاج الأفلام السينمائية، فقد غلب على تاريخها في تلك الفترة إنتاج الأفلام الوثائقية مثل فيلم “الإسلام جسر المستقبل” عام 1982، الذي أخرجه عبد الله المحيسن وصوره في أفغانستان خلال فترة الحرب مع الاتحاد السوفييتي.

وآخر أفلام المحيسن هو فيلم “الصدمة” عام 1991، وهو وثائقي يقدم فيه رؤيته عن أحداث غزو الكويت، وكان من الملاحظ أيضًا أن المشهد السينمائي قد خلا تمامًا من وجود أي ممثلة سعودية.

صورة 7 عبد الله المحيسن

اقتحام الحرم المكي وإغلاق السينمات

على مدار  3 عقود جاهد فيها بعض السعوديين من أجل وجود السينما السعودية، باءت مُحاولاتهم بالفشل، وانتهت السينما تمامًا في ثمانينات القرن الماضي، وتحديدًا بعد أحداث اقتحام الحرم المكي عام 1979.

وظهر أن رياح التجديد لم تجد هوى ورغبةً داخل النفوس في ذلك الوقت، وتدريجيًا أغلقت دور السينما بدعوى أنها “تروج لمخالفات شرعية وثقافة منحلة” لا تتناسب مع قيم المجتمع أو نظام الدولة.

 

 

ربما يعجبك أيضا