مالي.. ثورة على الهيمنة الفرنسية بدعم روسي 

محمود سعيد

الذاكرة المالية عن الاحتلال الفرنسي لمالي زمن استعمار إفريقيا أو زمن الهيمنة الاقتصادية الحالي، كان لها أكبر الأثر في دعم توجهات الرئيس المالي


لسنوات طويلة حاولت البلدان الفرانكوفونية (الناطقة بالفرنسية) في إفريقيا الخروج مما تراه هيمنة فرنسية على مقدراتها وثرواتها المحلية وقرارها السياسي، وهذا ما يجري في مالي اليوم.

وفي كل مرة كان الرد الفرنسي يأتي بصورة ضغوط اقتصادية وأحيانًا دعم تحركات وانقلابات عسكرية مناوئة للسلطة الحاكمة تعمل على إعادة الوضع إلى ما كان عليه، ما اضطر بعض القيادات الإفريقية الجديدة للاستعانة بروسيا في مواجهة النفوذ الفرنسي، حدث ذلك في إفريقيا الوسطى، ويظهر جليا الآن في مالي مع سياسات الرئيس الجديد هاشمي غويتا.

ماذا يجري في مالي؟

في مالي يدور صراع معلن بين روسيا وفرنسا سبق حتى الحرب الروسية الأوكرانية، وتغلغلت موسكو رسميًا تارة ومرتزقتها الفاغنر تارة أخرى بشكل سري.

التيار العام لدى الأفارقة، خصوصا في الدول الفرانكوفونية، أصبح يدرك أن فرنسا القوية أي فرنسا الرؤساء السابقين شارل ديجول وجاك شيراك وحتى فرنسوا ميتران انتهت وأنهم أمام نسخة جديدة بوسعهم اليوم أن يحققوا حلمهم في استقلال قرارهم السياسي والانتفاع بثرواتهم التي نُهبت لعقود من “الرجل الأبيض الفرنسي”.

غضب شعبي ضد فرنسا

كراهية الماليين لسياسات فرنسا، التي يعتبرونها “عنصرية” و”استغلالية” جعلتهم يخرجون في مظاهرات بشكل مستمر تأييدًا لقرارات الرئيس الكولونيل/العقيد هاشمي غويتا ضد الهيمنة الفرنسية، حتى الماليين الذين يطالبونه بتسليم السلطة للمدنيين يؤيدونه بشكل كامل في سياسته ضد باريس وآخرها طرد السفير الفرنسي.

كذلك فإن مظاهرات الماليين ومشاهد إحراقهم الأعلام الفرنسية وصور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤشر على حجم الغضب الشعبي المالي، بل إن بعض المتظاهرين يحمل الأعلام الروسية وصور الرئيس الروسي فلادمير بوتين نكاية في باريس.

المشهد السياسي المعقد

كان الانقلاب العسكري لأول مرة خارج إطار الهيمنة الفرنسية، فقائده العقيد هاشمي غويتا أو رئيس البلاد الحالي تحالف مع روسيا لإقصاء فرنسا من مفاصل دولته، وكان قائدًا للقوات الخاصة وحظى بثقة الرئيس الراحل.

رئيس الوزراء شوغل مايغا، اتهم فرنسا بأنها عملت على تقسيم بلاده، حين تدخلت عسكريًا عام 2013 تحت ذريعة محاربة تنظيم القاعدة، كما اتهمها بالوقوف وراء تدريب من وصفهم “بالجماعات الإرهابية” الناشطة في البلاد،

وقال إن فرنسا تمنع طيران الجيش المالي من التحليق فوق بعض الأراضي المالية، ما رفضه هاشمي غويتا لأنه “انتهاك سافر للأراضي المالية”، لأن باماكو لم تطلب إلا الدعم الجوي في 2013 من فرنسا وليس التدخل بهذا الشكل الحالي. طالب وزير الخارجية، عبدالله ديوب، أيضاً بمراجعة اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع فرنسا، واصفاً تصريحات باريس بـ”غير المقبولة”.

سياسات الرئيس المالي

الرئيس والمجلس العسكري المالي وجدوا أنفسهم في حصار من جميع الجهات، فمن ناحية الضغوط والحصار الدولي والإقليمي، ومن جهة المجموعات الانفصالية في الشمال، والصراعات القبلية، وانتشار كورونا في ظل منظومة صحية متهالكة، وازدياد رغبة الشباب في خوض مجازفة الهجرة بطرق غير نظامية نحو أوروبا.

يضاف إلى ذلك أزمة اقتصادية خانقة خصوصًا بعد ضغط فرنسا على “إيكواس” لفرض عقوبات على مالي، هذه الأزمات جعلت هاشمي يتحالف مع روسيا، حتى أن وزارة الدفاع المالية قالت إن “الرأي العام في مالي يؤيد المزيد من التعاون مع روسيا”، وكما تعهد مرات بتسليم السلطة للمدنيين في أقرب وقت، تعهد كذلك بإنهاء الهيمنة الفرنسية على بلاده.

مؤشرات الغضب الفرنسي

لاشك أن الذاكرة المالية عن الاحتلال الفرنسي زمن استعمار إفريقيا أو زمن الهيمنة الاقتصادية الحالي، كان لها أكبر الأثر في دعم توجهات الرئيس المالي الحالي، خصوصًا مع التأييد الشعبي الكبير ـ، لكن اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قد يعطل هذا التوجه.

وفي 17 فبراير 2021، أعلنت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون وكندا، انسحابهم العسكري من مالي وإنهاء العمليتين العسكريتين “برخان” و”تاكوبا”. ورددت باريس مرارا وتكرارا أن: “حكومة مالي أخلت بتعهداتها لنا بتعاونها مع مرتزقة الفاغنر” الروسية، وذكرت تسريبات نشرتها وسائل إعلام فرنسية عن مصادر مالية أن مجموعة فاغنر ستحصل على حوالي 6 مليارات فرنك أفريقي (10.8 مليون دولار) شهريا مقابل خدماتها، بتدريب جيش مالي وتوفير الحماية لمسؤولين كبار.

ولطالما اعتبرت فرنسا إفريقيا ملعبها الخلفي، لكن الزمن في مالي تغير، وباريس تصارع الوقت لمنع ذلك، والنخبة الحاكمة تدرك أن نجاح القيادة المالية الحالية في الخروج من فلك فرنسا، سيمتد لا محالة لبلدان غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية في وقت قياسي.

ربما يعجبك أيضا