هل تغيرت بالفعل السياسة الخارجية لألمانيا نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية؟

آية سيد
مرصد مراكز الأبحاث

كان خطاب "نقطة التحول" واحدًا من أهم عمليات إعادة تقويم السياسة الخارجية الألمانية منذ التوحيد في 1990.. فماذا تحقق عنه؟


في فبراير 2022، ألقى المستشار الألماني، أولاف شولتز، خطابًا مفاجئًا أمام البرلمان، أعلن فيه تغييرًا جذريًّا بالسياسة الخارجية للبلاد.

وفي حوار نشره موقع “تشاتام هاوس“، يوم الجمعة 18 نوفمبر 2022، يناقش محاضر العلاقات الدولية بجامعة سانت أندروز الاسكتلندية، برنارد بلوميناو، تأثير الخطاب والأحداث الأخيرة في علاقات ألمانيا مع روسيا والناتو والصين، والتداعيات بعيدة المدى له.

خطاب «نقطة التحول»                        

في خطابه، يوم 27 فبراير 2022، وصف شولتز الحرب الروسية الأوكرانية بأنها “نقطة تحول” في التاريخ الأوروبي، وقدم أهداف السياسة الخارجية الجديدة، والانفصال الجذري عن سياسة ألمانيا التقليدية تجاه روسيا، منذ الحرب الباردة، عبر الكشف عن زيادة ضخمة في الإنفاق الدفاعي.

وجدد المستشار الألماني الالتزام القوي بتقاليد السياسة الخارجية الأخرى، مثل دعم الاندماج الأوروبي، والناتو، والتعاون الدولي، والنظام الدولي القائم على القواعد، وليس سياسة القوة. ووفق بلوميناو، كان خطاب “نقطة التحول” واحدًا من أهم عمليات إعادة تقويم السياسة الخارجية الألمانية، منذ التوحيد عام 1990. ومثّل استفاقة برلين على الحقائق الجيوسياسية.

أهمية الخطاب

ذكر الأكاديمي الألماني أن أحد النقاط المهمة في الخطاب هي الالتزام بتأسيس صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو، والاستثمار بكثافة في الجيش، وكذلك الاعتراف بأن القوة والقدرات العسكرية ضرورية لأمن ألمانيا ومستقبل أوروبا، معتبرًا إعلان هذه السياسة صعبًا على شولتز، الذي ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ولديه ميول سلمية قوية.

وأوضح أن حزب الخضر، الشريك في الائتلاف الألماني الحاكم، كان الأكثر تأثرًا بهذا الانفصال، لأنه نشأ من حركة السلام في الثمانينات. وأشار إلى أن ألمانيا لطالما أملت في تعهيد أمنها إلى الآخرين، غالبًا الولايات المتحدة، وخفضت الإنفاق على جيشها. لكن الحرب الروسية الأوكرانية كشف عيوب هذا النهج، ما اعترف به شولتز في خطابه.

العلاقات الألمانية الروسية قبل الحرب

كانت العلاقات الوثيقة مع روسيا ركنًا أساسيًّا في السياسة الخارجية الألمانية، منذ أن شرع مستشار ألمانيا الغربية، ويلي براندت، في “السياسة الشرقية الجديدة”، بداية السبعينات. واعتبرت الحكومات المتعاقبة العلاقات التعاونية الجيدة مع روسيا ضرورة للسلام في أوروبا، على اعتبار أن التواصل الوثيق يجعل موسكو ديمقراطية أكثر.

وشرعت ألمانيا أيضًا في تكثيف الروابط الاقتصادية مع روسيا، في ما عُرف بـ”التغيير عبر التجارة”. ووفق بلوميناو، كانت هذه الفكرة قائمة على افتراض أن عندما يصبح اقتصاد روسيا أكثر تشابكًا مع ألمانيا وأوروبا، لن يخاطر الكرملين بهذة العلاقات عبر سياسات عدائية. لكن عبى العكس، أصبحت برلين أكثر اعتمادًا على موسكو، وغازها خاصة.

وأشار لوميناو إلى أن السياسات الألمانية هذه مرت بأزمة أولى بعد الضم الروسي للقرم عام 2014، لكنها ظلت كما هي، حتى جاءت الحرب لتضعف مصداقيتها. وحتى يومنا هذا لم تستحدث برلين سياسة جديدة لروسيا، وتكافح مع كيفية تكييف سياسة “التغيير عبر التجارة” مع شريك اقتصادي آخر، ألا وهو الصين.

كيف تأثرت العلاقات الألمانية داخل الناتو وأوروبا؟

بالنسبة إلى “الناتو”، كان وعد شولتز بزيادة كبير في الإنفاق الدفاعي لألمانيا خبرًا سارًا، وكذلك وعده بتأمين حرية أوروبا. وعلاوة على هذا، وافقت حكومة برلين على إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، وهو تحول آخر كبير في السياسة التقليدية، حسب بلوميناو.

وبالنسبة إلى أوروبا، شدد شولتز على الدعم المتواصل للاتحاد الأوروبي، وأعلن أن “أوروبا هي إطار العمل له”. ولفت بلوميناو إلى أن هذه الرسالة كانت موجهة إلى الأوروبيين بقدر ما كانت موجهة إلى فلاديمير بوتين، بأنه لن ينجح في إحداث وقيعة بين أعضاء التكتل.

لكن الكاتب أشار إلى أن شولتز لم يقدم أي مقترحات ملموسة لتعزيز الاتحاد ودفع الاندماج. وحتى الآن، تُحجم ألمانيا عن تولي دور قيادي قوي والكشف عن خطط مفصّلة.

ما التداعيات بعيدة المدى لهذا التحول؟

أشار بلوميناو، في حواره، إلى وجود صراع داخل الحكومة الألمانية، والائتلاف الحاكم عمومًا، يعكس أن حكومة شولتز لم تتوصل إلى إجابة لسؤال كيف ستتأثر سياسة ألمانيا تجاه الصين، ويُعاد النظر فيها في ضوء الانهيار الكارثي لـ”السياسة الشرقية الجديدة” و”التغيير عبر التجارة”، خاصةً مع وجود مؤشرات أن بكين قد تتبع سياسة عدائية تجاه تايوان.

وقال الأكاديمي الألماني إن زيارة شولتز إلى الصين، بداية نوفمبر الحالي، والجدل الذي سببته في ألمانيا، تبرز هذه المشكلة، ومع قطع روسيا إمدادات الغاز عن ألمانيا، كان على الحكومة إيجاد موردين آخرين سريعًا، بعضهم في دول شرق أوسطية ذات سجل مشكوك فيه بحقوق الإنسان والديمقراطية.

وحتى فترة قريبة، خدمت سياسة “التغيير عبر التجارة” كمبرر للأعمال مع هذه الدول، لكن هذه السياسة تضررت بشدة الآن، ولن تخدم في هذا الدور مرة أخرى. ووفق بلوميناو، هذه مشكلة هائلة لدولة تجارية موجهة نحو التصدير، مثل ألمانيا.

كيف تستخدم ألمانيا نقطة التحول هذه لصالحها؟

في حين أن خطاب “نقطة التحول” كان موضع ترحيب في ألمانيا وشركائها، فإن التردد اللاحق ووتيرة التغيير البطيئة أحبطت الكثيرين. وقال بلوميناو إن التطبيق الحازم للخطاب يمكنه إصلاح صورة ألمانيا، وأن التأثير بعيد المدى سيعتمد في النهاية على السياسات المستمدة منه، وتغلب برلين على سمة أخرى في سياستها الخارجية، وهي التردد في تولي القيادة داخل أوروبا أو عالميًّا.

وأضاف أنه إذا كانت ألمانيا مستعدة للقيادة، وتقديم رؤى جديدة مبنية على الركائز التقليدية والناجحة للسياسة الخارجية، مثل تعددية الأطراف والاندماج الأوروبي والنظام الدولي القائم على القواعد، والمساعدة في تحقيقها، قد تنمو مكانة ألمانيا ونفوذها نتيجة لـ”نقطة التحول”. لكن أولًا، يجب أن يقرر الألمان أنفسهم الانفصال عن هذا التقليد.

ربما يعجبك أيضا