رغم الاحتلال ..لماذا لم يتقن المصريون الإنجليزية بينما أتقن المغاربة الفرنسية؟

أحمد الباز

أحمد الباز

عند الإجابة على سؤال: لماذا أتقن أهل المغرب لغة المُحتل الفرنسى، بينما لم يتقن المصريين لغة المُحتل الإنجليزى؟ فإنه يجب استدعاء تاريخ الدولة بمؤسساتها وأفرادها في كل من مصر والمغرب للوقوف على بعض التفاصيل.

تميزت مصر طوال تاريخها بأنها دولة مؤسسات وبيروقراطية ضاربة في العمق، يقوم على تشغيلها موظفون مصريون، حتى في ظل حكم الأجنبي، بالإضافة إلى أن مصر ليست إحدى الدول التي تم توليدها من رحم دول أوسع، حيث كانت ولا تزال بلداً بُعمر الأرض ومن عليها، ولم يتم تعبئتها بسكان أجانب جاءوا إليها محمولين على مراكب، فالمصري ترعرع مع أرضه كغصن محمول على عودٍ لا انفكاك بينهما أبداً، وبناءً عليه فقد تشكل وجه المصريين من طين هذه الأرض، ولم تتشكل ملامحهم ولا ألسنتهم، عبر تزاوج بين الأبيض والأسود أو بين العربي والأوروبي، الأمر الذي نتج عنه شخصية مصر التي صمدت ملمحاً ولساناً. في وجه المتغيرات الناتجه عن نظم الحكم الأجنبية المتعاقبة.

بالعودة إلى المقارنة بين المتغيرات التي طالت اللسان المصري والمغربي أثناء وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر والفرنسى للمغرب، فإن العديد من الأسباب قد ساهمت في الحيلولة بين طغيان اللغة الإنجليزية على اللسان المصري، على عكس ما حدث في المغرب عندما أصبحت الفرنسية لغة الشارع والمؤسسات والبسطاء والمتعلمين.

عندما قام الإنجليز باحتلال مصر عام 1882، فإنهم احتلوا دولة متكاملة البناء، بها مؤسسات ووزارات ومصالح قائمة منذ سنين طويلة، بالإضافة إلى وجود مؤسسات تعليمية عصية على التغيير والتدبيل كالأزهر الشريف الذي كان المؤسسة التعليمية التي يتخرج منها غالبية المصريين، ولم يكن الأزهر ليقبل بتغيير لغة مناهجه الدراسية إلى الإنجليزية، أو حتى أن يسمح بتوظيف أجانب داخل أقسامه الإدارية أو التعليمية المختلفة، الأمر الذي يعني انعدام شيوع اللغة الإنجليزية داخل أروقة واحدة من أهم وأوسع مؤسسات التعليم في مصر، وبالتالي انعدام معرفة خريجيها باللغة الإنجليزية.

كانت حركة الابتعاث إلى أوروبا على أشدها في ذلك الوقت، إلا أن هذه البعثات كان يترأسها مصريون كانوا قد تم ابتعاثهم من قبل وقد تعلموا الفرنسية والإنجليزية، إلا أن طرق إدارة حركة الابتعاث كانت تحمل معها الصبغة المصرية للخارج، فلكل بعثة شيخ أزهري يقوم بإمامة المبتعثين للصلاة، ومديراً مصرياً كذلك للبعثة.

تميز الهيكل الحكومي المصري بشكل عام بأنه كان مصرياً إدارة وأفراداً، وكان التدخل الإنجليزي فى شؤون الوزارات والمصالح المصرية يتم عبر “مستشاريين إنجليز”، وليس عبر إحلال موظفين إنجليز محل الموظفين المصريين، وكانت أعداد هؤلاء المستشاريين قليلة غير كافية لتمكين شيوع اللغة الإنجليزية بين موظفى هذة المصالح المختلفة من المصريين.

تميز الشارع المصري بوجود حالة رفض شعبي للإنجليز والتعامل معهم، وهو ما تجلى في بعض الهبّات التي واجهها الإنجليز سواء أثناء ما عرف بثورة عرابي أو ثورة 1919، بخلاف بعض التنظيمات الصغيرة التي وجهت بنادقها إلى صدر المحتل في عدة أنحاء من مصر. أي أن المصريين لم يتملكهم الشوق بشأن الذوبان في الشخصية الإنجليزية، كما أن التكوين التاريخي والإداري للدولة المصرية كان حائط صد أمام تغول اللسان الإنجليزي في مصر، باعتبار أن مصر ليست دولة حديثة التكوين تتطلع إلى تجربة أجنبية لتؤسس لها الدولة وتعمل على إدارتها.  

على عكس المغرب، فالعلاقة بين الدولة المغربية الحديثة وفرنسا هي علاقة أمومة، فبينما لم تخرج مصر من رحم أي دولة أخرى، فإن المغرب الحديث كان تم توليده من الدولة الفرنسية بثقافتها ولغتها ومظهرها وملامحها ومؤسساتها، لذا فإنها علاقة تضرب في عمق تكوين الدولة المغربية، وليست مجرد لغة واردة لظروف احتلال مؤقت

ساهمت صياغة اتفاقيات استقلال وجلاء كل من إنجلترا عن مصر وفرنسا عن المغرب في استمرارية أو انقطاع السيطرة الإدارية والثقافية على كلا البليدين، حيث تضمنت اتفاقية جلاء الإنجليز عن مصر على أن ” تعلن حكومة المملكة المتحدة انقضاء معاهدة التحالف الموقع عليها في لندن في السادس والعشرين من شهر أغسطس سنة 1936، وكذلك المحضر المتفق عليه، والمذكرات المتبادلة، والاتفاق الخاص بالإعفاءات والميزات التي تتمتع بها القوات البريطانية في مصر وجميع ما تفرع عنها من اتفاقات أخرى”.  وكان رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت “تشرشل” قد أصدر قراراً يتضمن وضع خطة لإجلاء الرعايا البريطانيين والإنجليز من القاهرة والإسكندرية والدلتا والاستعداد لترحيلهم إلى قبرص، وذلك لتفادي أن تطالهم أي مخاطر محتملة.. وقد ترتب على هذه الأوضاع إن تراجعت السيطرة الإنجليزية على المؤسسات المصرية تدريجياً، وبالتبعية على الشخصية المصرية نفسها.

ذلك على عكس اتفاقية الاستقلال المغربية المعروفة باسم “إكس – ليبان” التي تضمنت ملاحقها ضرورة تنظيم العلاقات بين فرنسا والمغرب في مجالات المصلحة المشتركة أساسا: الدفاع، العلاقات الخارجية، والاقتصادية، والثقافية، والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا، كما استمرت العلاقات قائمة بين قيادات حزب الاستقلال وبين فرنسا على الرغم من استقلال المغرب، وكان أحد هذة المظاهر تلقي أفراد الحزب تعليمهم بفرنسا على أن يعودوا إلى المغرب لتطبيق التجربة الفرنسية في الداخل المغربي بكل ما تحمله من تفاصيل إدارية وثقافية وسياسية.

(إن صواب الأسلاف هو سر مجدهم، ولن تزول ذكراهم من أفواه الناس بما كان عليه جمال حكمتهم وعلى الإنسان أن يتداول أقوالهم كلها… ولن تزول من هذه الدنيا إطلاقًا)

من تعاليم الوزير المصرى القديم ” بتاح حتب” الذى عاش خلال فترة الأسرة الخامسة.

ربما يعجبك أيضا