النص الخفي.. ماذا حدث أثناء استجواب الاستخبارات الأمريكية لصدام حسين؟

أحمد الباز

    

“سأبحث أولاً عن وشوم تُظهر انتماءه إلى قبيلة البونصر، كان واحداً منها على ظهر يده اليمنى، بين السبابة والإبهام، والآخر على أسفل رسغه الأيمن، كان الوشم سلسلة من النقاط، بعضها في خط مستقيم وبعضها على شكل مثلث بالإضافة إلى ما يشبه هلالاً، بالإضافة إلى وجود إصابة في ساقه تحمل أثر جرح أصيب به أثناء محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم 1959، كما كانت شفته السفلى متدلية قليلاً ربما بسبب كثرة استخدامه للسيجار”.
 
كانت هذه إجابة “جون نيكسون” المحلل لدى الاستخبارات الأمريكية التي أوردها في كتابه” استجواب الرئيس”، وهو المحلل الذي تولي مهمة التحقيق مع صدام حسين عندما تم سؤاله كيف ستتعرف على الرئيس العراقي إذا تم القبض عليه؟

خلية الصَهر المسؤولة عن تحليل البيانات بخصوص تتبع صدام حسين

في أحد قصور صدام حسين التي استولى عليها الجيش الأمريكي كانت قد استقرت مجموعة من الخبراء والمحللين التابعين لوكالة الاستخبارات الأمريكية ضمن خلية عمل عُرفت بخلية” الصَّهر”، وهي المجموعة التي كانت مسؤولة عن تتبع وتحليل كل المعلومات التي ترد بشأن مكان صدام حسين.  

وقد تركزت مهمة خلية الصَهر في مراقبة حراس صدام حسين الشخصيين، إلا أن صداماً كان أذكى من جهاز الاستخبارات الأمريكية حيث قام بتغيير حراسه دائماً منذ سقوط بغداد في يد الاحتلال الأمريكي.

اشتمل المجمع الذي كانت تعيش به مجموعة “خلية الصهر” على كل المستلزمات المطلوبة سواء تلفزيونات ومصابيح أعياد الميلاد وصناديق البيرة الباردة، وفي تعقيب لجون نيكسون على كفاءة هذا المجمع وحسن إدارة الحانه الخاصة به، فإنه كان يقول “لو أننا أدرنا العراق كما ندير هذه الحانة لأصبح العراق سويسرا الشرق الأوسط”.

كانت خلية الصهر قد انتقلت للتركيز على مرافقين آخرين لصدام حسين، وحسب الرواية الأمريكية فإن أحد مرافقي صدام وهو “محمد إبراهيم عمر المسلط” كان قد أرشد القوات الأمريكية إلى مكان اختباء صدام حسين، حيث تم القبض عليه في 13 ديسمبر 2003 من مخبئه بمنطقة “الدورة” بتكريت فيما عُرف بعملية “الفجر الأحمر”.

أين تم استجواب صدام حسين

تم نقل الرئيس صدام حسين إلى منشأة في محيط مطار بغداد كان يستخدمها سابقاً الحرس الجمهوري العراقي، وقد تم عرضه في تلك الليلة على كل من سكرتير الرئاسة “عبد حامد محمود التكريتي” ووزير الخارجية “طارق عزيز” اللذين كانا في حوزة القوات الأمريكية لكي يقوموا بتأكيد أنه هو صدام حسين، وبمجرد أن رآه عبد حامد التكريتي فإنه تبسم له، وأكد طارق عزيز أنه هو صدام حسين، كما تأكد المحققون من الوشم والجرح الموجود في ساقه، حيث كان الشك لا يزال يساور الأمريكيين باحتمالية أن يكون من قبضوا عليه مجرد بديل لصدام حسين.

في ليلته الأولى، تم حلق لحية صدام حسين في غرفة استحمام، حيث أخذ بعض الجنود الأمريكيون جزءًا من شعر لحيته تذكاراً، ثم ارتدى صدام دشداشة بيضاء وعليها سترة زرقاء مبطنة، حيث كانت ليلة شتوية باردة. ولاحقاً تم منح صدام حسين كتباً عربية منها كتاب يضم خطاباته، بالإضافة إلى نسخة مترجمة من اتفاقيات جنيف ونسخة من القرآن الكريم.

في هذه الليلة كان كل ما يهم الاستخبارات الأمريكية الوصول إلى يقين بأن من تم القبض عليه هو صدام حسين، إلا أن توصية وردت من قيادة الاستخبارات الأمريكية  بألا يتم وضع صدام على أجهزة كشف الكذب لأن صدامًا سيرى في ذلك إهانة له، ويقضي بالتالي على احتمال كسب تعاونه، لذا كان لا بد من الانتقال إلى التحقق منه يدوياً، وبالفعل بدأ “جون نيكسون” في استجواب الرئيس.

كيف بدت اللحظات الأولى أثناء استجواب الرئيس صدام حسين

مُصغياً، مُبتسماً أحياناً، عدوانياً أحياناً، غير مكترث، سريع التأقلم مع الوضع، صلباً، مناوراً.. كانت هذه الأوصاف التي سردها “جون نكسون” لحالة صدام حسين عند بدء استجوابه.

كان السؤال الأول الذي طرحه “نكسون” على صدام هو “متى كانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها ولديك على قيد الحياة؟”، إلا أن صدام نظر إليه مبتسماً وقال: من أنتم؟ هل أنتم من الاستخبارات العسكرية أم من المخابرات، عرفني بهوياتكم!

لم يقل صدام أي شيء عن كيفية خروجه من بغداد ولا عمن ساعده في ذلك، وبادر هو بسؤال “نكسون” قائلاً له “لماذا لا تسألني عن السياسة؟ يمكنك أن تتعلم الكثير منى”.

كانت أول شكوى سجلها صدام حسين هي أنه يتم معاملته معاملة خشنة على يد القوات الخاصة، وأن هذا ليس أسلوب يُعامل به رئيس دولة، بالإضافة إلى أن أحد أفراد القوات الخاصة الأمريكية كان قد وجه لكمه لصدام قائلاً “هذه مقابل الحادي عشر من سبتمبر”، وقد أكد “نكسون” أنه نقل هذه الشكوى للقيادة للتعامل معها والتحقيق فيها.

أثناء التحقيق معه، كان صدام يبحث دائماً عن نقاط ضعف تصب في صالحه، مهووساً بالسيطرة، ما جعل فريق التحقيق يراعي كبرياءه لضمان عدم استفزازه.

لماذا لم يتم التحقيق مع صدام حسين في تهمة “الإرهاب”؟

كان قد تم اتخاذ قرار في واشنطن بعدم إدراج تهمة “الإرهاب” ضمن جلسات التحقيق مع صدام حسين، حيث تم تخصيص هذا الملف لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الذي كان يسعى إلى تكوين قضية جنائية بحق صدام حسين تستند إلى ارتباطه المزعوم بالإرهاب الدولي وإلى الجرائم المرتكبة ضد الولايات المتحدة، وكانت الحكومة الأمريكية تسعى إلى التأكد من أن أشخاصاً ملمين بالعملية القانونية – أي مكتب التحقيقات الفيدرالي – سيجمعون الأدلة الكفيلة بإقناع المحكمة بالتهم الجنائية الموجهة لصدام حسين.

محضر التحقيق مع صدام حسين

أورد “جون نكسون” في كتابه عن استجواب الرئيس صدام حسين الكثير من الأسئلة التي طرحها على صدام والتي تناولت معظم الاتهامات الموجهة له وكذلك الملفات الهامة كملف الأكراد وأسلحة الدمار الشامل وحرب الكويت، وسوف أقوم في السطور التالية بصياغة محضر تحقيق افتراضي بالموضوعات التي طرحها المحقق “نكسون” على صدام حسين” ليكون من السهل تناول أكبر عدد من هذه الموضوعات في شكل سلس.  

المحقق نكسون: ماذا عن أسلحة الدمار الشامل؟
صدام حسين: لقد عثرتم عليّ، لماذا لا تذهبون للبحث عن أسلحة الدمار الشامل.. الأمريكيون مجموعة من المخربين الجهلة لا يفهمون شيئاَ عن العراق، وهم مصرون على تدميره لكونهم يعتقدون بوجود أسلحة حيث لا وجود لها.

المحقق نكسون: من الذين ساعدوك على الفرار من بغداد؟
صدام حسين مندهشاً: أنا لم أفر من بغداد، فقط قمت بالانتقال من موقع إلى آخر لأتمكن من الاستمرار في قيادة معارضة احتلال العراق، ولن أخبر أحدًا بأصدقائي الذين قدموا المساعدة حتى لا أعرض سلامتهم للخطر، كما أننى قد أحتاج مساعدتهم مره ثانية في يوم من الأيام.

المحقق نكسون: من هم زعماء العالم المفضلون لديك؟
صدام حسين: أنا معجب بالدرجة الأولى بديغول ولينين وماو وجورج واشنطن، وأحب الفرنسيين بشكل خاص، حيث سافرت إلى هناك مرتين وتعرفت إلى عمدة باريس جاك شيراك، كنت أنوي العودة إلى هناك ولكن الحروب اندلعت، فمن لديه الوقت للسفر وبلده يخوض الحرب، إلا أن “شيراك” لم يقدم للعراق المساعدة في التخلص من العقوبات الدولية.

المحقق نكسون: ماذا عن الأموال التي تم العثور عليها معك أثناء القبض عليك؟
صدام حسين ساخراً: أتقصد مبلغ المليون وربع المليون من الدولارات الذي قام بعض أفراد قوتكم بسرقته، لذا فإنني أطالب باسترداد الأموال التي سرقها الأمريكيون.

المحقق نكسون: ما قولك في قيام العراق بتوجيه صواريخ نحو المدمرة الأمريكية ستارك مايو 1987 التي كانت تجوب مياه الخليج في هذه الأوقات؟
صدام حسين صامتاً دون الاعتراف بالاتهام الموجه له: الولايات المتحدة رتبت قضية “إيران- كونترا” مع إيران لغرض الإطاحة بالنظام في العراق وتخريب البلد..

المحقق نكسون: ما رايك في إيران والقيادة الإيرانية؟
صدام حسين: انظروا كم من الوقت تحتاجون لتعلموا كم ستستمر صداقتكم.. الإيرانيون ليسوا صادقين، فهم يعتبرون كل الناس كاذبين، سيعلنون شيئاَ ثم يفعلون عكسه، إيران لا تزال تطمح في التوسع بالوطن العربي باسم الإسلام، ويعتقدون أنهم في الوقت المناسب سيتولون دوراً قيادياً في تحرير القدس ليقوموا بعد ذلك بتأسيس المملكة الإسلامية… العراق تصرف ببسالة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وهي الحرب التي كانت ايران مسؤولة عن اندلاعها… إيران كانت الأولى في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد العراق في معركة خرمشهر سبتمبر 1981، والقوات العراقية استخدمت هذه الأسلحة في موقع دفاعي.. وفي هذه الأثناء فإن ليبيا زودت الإيرانيين بصواريخ لضرب العراق.

المحقق نكسون: عقد حزب البعث مؤتمراً مشهوراً في 1979 نتج عنه إعدام الكثير من الأعضاء في وقت لاحق، لماذا؟
صدام حسين غاضباً: المؤتمر كان للكشف عن مؤامرة ضد حزب البعث العراقي من تدبير البعثيين السوريين، كانت تلك أفعال خيانة فتحرك الحزب بدافع الحفاظ على نفسه.

المحقق نكسون محاولاً تلطيف الجلسة: ما هو كتابك المفضل؟
صدام حسين: العجوز والبحر، لأرنست همنغواى… فكر في ذلك، رجل وزورق وخيط لاصطياد السمك، فتلك هي مكونات الكتاب الوحيدة ولكنها تروي لنا الكثير عن وضع الإنسان.. إنها قصة رائعة

المحقق نكسون: لماذا استضاف العراق الخميني بين عامي 1964 و 1979 ؟
صدام حسين: في هذه الأثناء قام العراق وإيران بتوقيع اتفاقية شط العرب في 1975 لإنهاء الخلافات الحدودية، وقد أطلعنا الخميني الذي كان ضيفاً لدى العراق – يجب أن نحافظ على أمنه حتى لو كانت بيننا وبين بلده خلافات – وأخبرنا الخميني أنه إن احترم تلك الاتفاقية فسوف تستمر الاستضافه في العراق، إلا أنه إن رفضها فسينتهي بقاؤه في العراق، إلا أن الخميني قال إنه يتحتم عليه الاستمرار في العمل ضد الشاه، ثم سمحنا له بالانتقال إلى باريس رغم طلب الشاه بإبقائه في العراق.

المحقق نكسون: ما رأيك في العلاقة بين الدين والسياسة؟
صدام حسين: لقد أقنعتنى كل تلك السنوات منذ 1977 بأن أي محاولة لإدخال الدين في الحكم والسياسة سيسفر عن إساءة للدين وسيلحق الضرر بالسياسة، فمضى حزب البعث إلى الأمام على ذلك الأساس.. فالعراق محاط بالأردن والكويت وتركيا والسعودية وإيران ما يجعله قاعدة خصبة للأصولية.. الشعب العراقي كان يعيش حياة متوازنة، لكن لو حقنته بأي تيار أجنبي سيتزعزع توازنه، لذا في حال دخول السلفية، سيقوض ذلك توازن العراق.

المحقق نكسون: ما هو دورك في اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر؟
صدام حسين: ما الذي يجعلكم تعتقدون بأني فعلت ذلك؟ من أي بلد أتى هؤلاء؟ وذلك المدعو محمد عطا؟ هل كان عراقيًا؟ كلا، بل كان مصرياً. لم لا تذهبون لتسألوا حسني مبارك عمن هم المسؤولون عن تلك الهجمات؟ لماذا تعتبروني متورطاً في الهجمات؟

المحقق نكسون: في 1990 أرسل التحالف المكون من 34 دولة 700 ألف عنصر من بينها 540 ألفاً إلى السعودية، هل كنت تفكر في استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد القوات الأمريكية في هذه الأثناء؟
صدام حسين: لو كانت قواتكم قد احتشدت في أي بلد آخر غير السعودية لكنا هاجمناها، نحن نعتبر أراضي السعودية أراضي مقدسة، وكان وجودكم فيها بمثابة خطيئة.. لم نفكر أبداً في استخدام أسلحة دمار شامل، لم نتباحث في ذلك.. أن نستخدم أسلحة كيماوية ضد العالم؟ هل سيفعل ذلك أحد بكامل قواه العقلية. أن نستخدم هذه الأسلحة وهي لم تستخدم ضدنا؟

المحقق نكسون: ما رأيك في القادة العرب؟
صدام حسين: الملك حسين ملك الأردن كان متعاوناً مع الولايات المتحدة وإسرائيل، جمال عبدالناصر كان رجلاً جيداً ولكنه توفي قبل أن يتمكن من تنفيذ خطته بشكل كامل، كما كان سريع الدخول في صفقات مع أعداء ما كانوا سيلتزمون بكلمتهم.

المحقق نكسون: هل يمكن أن تصف لنا العراق وشعبه؟
صدام حسين: سوف تفشلون في العراق، وستجدون أن حكم العراق ليس بهذه الدرجة من السهولة، إنك لن تفهم العراق بدون فهم جغرافيته ومناخه، الفرق هو بين النهار والليل ، بين الصيف والشتاء، وهذا ما يجعلهم يقولون إن العراقيين رأسهم حار بسبب حرارة الصيف، وحين تزداد الحرارة في الصيف القادم ربما يثورون عليكم، ربما عليكم أن تبلغوا بوش بذلك على هامش تقريركم.

المحقق نكسون: لماذا وجه العراق ضربات صواريخ ضد إسرائيل 1991 ؟
صدام حسين: نعتقد – نحن العراقيين والعرب – أن منبع الأذى القادم إلينا يأتي من الضغوط الإسرائيلية واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وتأثيرهم على انتخابات الرئاسة ودعمهم برامج معينة في أمريكا، وهذا يغذي عدوانية أمريكا نحونا، ولذا أرتأينا أننا لو هاجمنا إسرائيل قد يؤدي ذلك إلى فرض ضغوط على أمريكا تجعلها تكف عن مهاجمتنا.. لقد اتخذت قرار ضرب إسرائيل بصواريخ سكود دون أن استشير القيادة.. إلا أننا لم نكن نعرف المواقع في إسرائيل فتم الإطلاق بطريقة عمياء.

المحقق نكسون: ما هي خطة العراق لصد الهجوم الأمريكي عام 2003 ؟
صدام حسين: لم يكن هناك خيارات متاحة لدينا، إما أن يتعرض الجيش الأمريكي لمقاومة أو لا.. الرجال سوف يقاتلون للنهاية، وقد قاتلنا بالفعل ولم نستسلم.. كنتم تعتقدون أنني سأختص تكريت بالجزء الأكبر من المؤن والدفاعات لأنها مسقط رأسي إلا أن هذا لم يحدث.. واعتقدتم أنني سأقوم بتدمير السدود على نهري دجلة والفرات إلا أن الناس لن يدمروا ممتلكاتهم، ولو قمنا بتمدير الجسور فنكون بذلك قد جزأنا البلاد.

المحقق نكسون: ما رأيك في الهجوم العراقي على حلبجة بالكيماوي مارس 1988 ؟
صدام حسين غاضباً: اذهبوا واسألوا نزار الخزرجي” الخزرجي كان القائد الميداني في منطقة حلبجة آنذاك”، ولدى سماعي عن حلبجة ظننا أنها جزء من الدعاية الإيرانية ضدنا، ولكني لم أتخذ هذا القرار.

 
“حين أضع الطُعم لصيد الغزلان لا أطلق السهام على أول ظبي يأتي ليتشممه، بل أنتظر ليأتي القطيع بكامله”

أوتو فون بسمارك 1815-1898
 
 

ربما يعجبك أيضا