«الموناليزا الأفغانية».. ومن القهر ما قتل والاسم نحيا

أماني ربيع

أماني ربيع

شابة فتية انتصبت في كبرياء بين ركام الأحزان والموت في أحد معسكرات اللاجئين الأفغان الذين شردتهم ويلات الحروب الأهلية ودفعت بهم خارج وطنهم، جذبت بمقلتيها الخضرواتين اللتين اختلط فيهما الأسى بالحيوية والكبرياء، وبرغم الخجل وبرغم حاجز اللغة تذهب إلى المصور ستيف ماكوري وتفاجئه باللغة البشتونية التي يعرف المصور بعض مفرداتها بحكم عمله :”هل يمكن أن تلتقط لي صورة”.

شربات جولا أو زهرة الماء العذب.. فتاة أفغانية اعتبر جمالها الوحشي بمثابة ولادة ثانية للموناليزا، سحرت العالم بعينيها بعد ظهورها على غلاف مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» سنة 1985 لأول مرة بعدسة المصور ستيف مكورى.

تلك الجرأة والوحشية التي تطل من عينيها اللتان تشبها عينيّ نمر، تشرع أبوابهما على الحياة.. على الأمل.

لم يكن ستيف ماكوري يعلم أن هذا الطلب البسيط سيصنع تحفة فنية خالدة في فن الفوتوغرافيا لتصبح تلك الموديل الفقيرة إحدى الفاتنات التي خلدتهن الصدفة بين دفتي برواز.. سجن عينيها بكاميرته لتأسر هي العالم وتصبح الصورة تجسيدا للمعاناة الأفغانية في الحرب.

يقول ماكوري: “عندما طلبت مني الفتاة تصويرها، لم اكن أعلم أنها ستختلف عن أي شئ أخر قمت بتصويره”.

عرفت صاحبة العينين الساحرتين في الأوساط الإعلامية بأنها «الفتاة الأفغانية» غير أن أحدا لم يعرف اسمها الذي ظل مجهولا طوال 17 عاما.

الجمال المعذب

 لكن هل يترك القهر هذه الفتاة لتكتمل مسيرة حياتها في راحة وطمأنينة ، كعادة كل شئ جميل في شرقنا المعذب بأمراء الحرب الذين يعتبرون الفقراء وقودا لثرائهم ونفوذهم.. تختفي الفتاة الأفغانية عن الوجود كأنها طيف شهي ذاب مع الغروب.

وفي يناير 2002 يقرر تلفزيون «ناشيونال جرافيك» إرسال المصور مرة أخرى للبحث عن الفتاة ذات العينين الخضراوين لمعرفة تأثير ما جرى في أفغانستان عليها.

عاد مكوري لباكستان بحثاً عن «ذات العيون الخضراء» وهب لمخيمات اللاجئين الأفغان كما فعل في التحقيق الأول، وفي المخيم بدأ بحثه عن «الفتاة الأفغانية»  رغم صعوبة العثور عليها بعد كل هذه السنوات.

قابل مكوري عدداً من الفتيات ذوات العيون الخضراء شبيهة بتلك التي تملكها “الفاتنة الأفغانية” ولكن مكوري يقول: “لم تكن ولا واحدة منهن”.

يفقد مكوري الأمل، حتى صادف في أحد الأيام لاجئا شاهد الصورة الشهيرة  في يد المصور ويقول إنه يعرفها فقد كانا يلعبان في نفس المخيم في الماضي عندما كانوا أطفالاً،  ويفاجئ مكوري بأنه يعلم أين تعيش الآن.

استغرقت رحلة جلب شربات من أحد الجبال القريبة من منطقة «تورا بورا» الشهيرة حوالي 3 أيام وعندما حضرت الفتاة التس صارت الآن امرأة في الثلاثين للمخيم ورآها مكوري عرف أنها هي على الفور.

بهت مكوري لما رآه رغم أنه متأكد أنها هي التي يبحث عنها، فلعيونها قوة يعرفها جيداً وها هي نفس النظرة التي رآها قبل 17 عاماً أمامه الآن حقيقة وليس حلما أو صورة على غلاف.

يصمت مكوري قليلا أمام تمثاله الذي صنع شهرته، وقد كساه الأسى وعرت قوته الأيام، تحولت الفتاة التي عرفنا الآن أن اسمها «شربات جولا» لامرأة ذبل جمالها وانكسرت عينيها حزنا.

الزهرة العطشانة

شربات جولا، ككثيرات من نساء الأفغان لاتدري هي نفسها عمرها الحقيقي فهي تبلغ اهل هو 28 أو 29 أو 30 عاما، فهي في واحدة من بقاع الأرض التي لا تعترف بسجلات المواليد، بقعة لا تعرف سوى الموت والدم التي تجرها حرب لا نهاية لها.

في منتصف التسعينات وخلال الحرب المستعرة بين الأطراف الأفغانية عادت شربات لموطنها الأصلي ولقريتها في رحلة على الأرجل اجتازت فيها جبال أفغانستان المغطاه بالثلوج.

تحكي شربات: “تبدأ الحياة  بروتين يومي فهي تستيقظ من النوم قبل طلوع الشمس لتصلي الفجر وبعدها تذهب للجدول لإحضار الماء ومن ثم تبدأ دورة الحياة اليومية من طبخ وتنظيف وخلافه”.

لكن أهم محطات حياتها هو يوم زواجها كما يقول أخوها وقد يكون أول يوم تفرح فيه في حياتها، تقول شربات: ” لم أعش يوما سعيدا طوال حياتي سوى يوم زفافي”.

تزوجت شربات عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها ولكن زوجها يرفض ويقول إنها كانت في السادسة عشرة. وهو يعمل في بيشاور خبازا في أحد محلات بيع وتصنيع الخبز.

ويتمركز اهتمام شربات على العناية بأطفالها وهم «روبينا» 13 سنة،  و«زهيدة» 3 سنوات، و«علياء» سنة واحدة، أما البنت الرابعة فقد ماتت في المهد.

ترتدي شربات البوركا الملونة التي تخفيها عن أنظار أي رجل آخر ما عدا زوجها فنظراً للتعاليم الدينية المحافظة لدى الأفغان فانه لا يجب للمرأة ان تنظر أو حتى تبتسم لرجل غريب غير زوجها.

 وتقول شربات “البوركا شيء جميل واستمتع بارتدائها”.

لا تعرف شربات قوة عيونها لم يرها أحد مبتسمة أبدا ودائما ما تبدو نظراتها المهزومة مصوبة نحو الأرض، تذكرت شربات لحظة التقاط الصورة التي لم تكن تدري عنها شيئاً ولا عن شهرتها العالمية عندما رأتها للمرة الأولى في حياتها في يناير 2002.

قام مكوري بتصوير شربات مجددا لكن شتان ما بين الصورة الأولى والثانية، تدقق في الصورتين غير مصدق.. لا هذا ليس فخ الزمن الذي ينصب شباكه عادة على وجوه الجميلات ، كانت في الثلاثين أي لازالت شابة بعد، لكن هذا وجه جدة .. وجه امرأة كسرته الأيام حدثني عن القهر حدثني عن الفقر حدثني عن الجهل – تستطيع شربات كتابة اسمها ولكنها لا تستطيع القراءة وتتمنى أن يتمكن أطفالها من الحصول على تعليم جيد-  لا تحدثني عن الأمل أرجوك بعد أن ذبلت أحلام زهرة الماء العذب من العطش..

ربما يعجبك أيضا