بورخيس: كتبي جزء مني مثل وجه بعيون رمادية

شيرين صبحي

رؤية

“كتبي (وهي لاتعرف أني موجود)/ هي جزء مني مثل الوجه/ بصدغيه الأشيبين وزوج من عيون رمادية/ أبحث عنهما عبثاً، في عمق المرآة/ وألمسهما بتقعّر راحة اليد/ وليس بدون منطق مرّ/ أظن أن الكلمات الجوهر التي تعبّر عني/ تختبئ بين الصفحات التي لا تعرف من أنا، وليس الأخرى من صفحات كتبي/ وهذا أفضل الأمور/ أما أصوات الموتى فتقول عني هذا كله على الدوام”.

في بيت كبير يضم مكتبة ضخمة، ولد خورخي بورخيس مثل هذا اليوم 24 أغسطس من عام 1899 في العاصمة الأرجنتيتية بيونس آيرس، لأب يعمل محاميا وأستاذا لعلم النفس، أما والدته فتعلمت الإنجليزية من زوجها وعملت كمترجمة. وكانت عائلته تتحدث في المنزل الإسبانية والإنجليزية.

اضطر والده إلى التقاعد في سن مبكرة، نتيجة تدهور بصره -وهي نفس الحالة التي أصابت خورخي لاحقا- فانتقلت العائلة إلى جنيف لتلقي العلاج، بينما كان خورخي وأخته نورا يدرسان بالمدرسة. وفي جنيف تعلم خورخي اللغة الفرنسية، كما تعلم بنفسه اللغة الألمانية وتخرج من كلية جنيف عام 1918.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أمضت عائلته ثلاث سنوات في إسبانيا، وهناك أصبح عضوا في حركة حراسة المقدمة الأدبية المتطرفة.

في عام 1921م عاد مع عائلته إلى بيونس آيرس، وبدأ مشواره الأدبي ككاتب، فنشر القصائد والمقالات في المجلات الأدبية. وكتب أول مجموعاته الشعرية بعنوان “حماس في بيونس آيرس”.

ساهم بورخيس في إنشاء العديد من المجلات، وعمل محررا في الملاحق الثقافية. كما عمل كمساعد أول في فرع ميغول كان من مكتبة بيونس آيرس البلدية، لكن موظفي المكتبة قاموا بمنعه من تصنيف أكثر من 100 كتاب يوميا، الأمر الذي كان يستغرق منه ساعة واحدة فقط، بينما يقضي بقية الأيام في قبو المكتبة يكتب المقالات والقصص القصيرة.

وعندما أخذ خوان بيرون السلطة في عام 1946 م طرد بورخيس من عمله هذا، وعين في منصب مفتش دواجن في سوق بلدية بيونس آيرس، ولكنه استقال فورا.

في ذلك الوقت كانت تهجمات بورخيس على الحكم تقتصر على إضافة توقيعه إلى عرائض تدعوا للديمقراطية. ولكن بعد وقت قصير من استقالته خاطب جمعية الرسائل الأرجنتينية قائلا: “الدكتاتوريين يجلبون الظلم، وإن الدكتاتوريين يجلبون العبودية، وإن الدكتاتوريين يجلبون القسوة، والأبغض من ذلك أنهم يجلبون الحماقة”.

توفي والد بورخيس عام 1938 فكانت صدمة جديدة له. وفي ليلة عيد الميلاد أصيب بجرح بالغ في رأسه جراء حادث، وكاد أن يموت خلال علاجه بسبب تقيح الدم. وأثناء تعافيه من الإصابة بدأ يكتب بأسلوبه الذي اشتهر به، وظهرت أول مجموعة قصصية له “حدائق الممرات المتشعبة”، ضمت قصة “إل سور” التي تحتوي على جزء من سيرته الذاتية، بما في ذلك الحادث الذي تعرض له، وهي القطعة المفضلة لدى الكاتب.

بفقده عمله وبداية فقده لبصره تدريجيا، أصبح غير قادر على إعالة نفسه ككاتب، فبدأ العمل كمحاضر عام. وأخذت شهرته تزداد، حتى عين في منصب رئيس جمعية الكتاب الأرجنتينيين، وكأستاذ للإنجليزية والأدب الأمريكي في الجمعية الأرجنتينية للثقافة الإنجليزية.

في عام 1955م، بعد قيام مبادرة أوكامبو، عين بورخيس من قبل الحكومة العسكرية المناهضة للبارونية كرئيس للمكتبة العامة. وفي العام التالي حصل على الجائزة الوطنية للأدب وعلى أول دكتوراة فخرية له من جامعة كويو. من عام 1956 وحتى 1970م تقلد منصب أستاذ للأدب في جامعة بيونس آيرس، والعديد من المناصب المؤقتة في جامعات أخرى.

نساء تحكمن في حياته

في عام 1967م أرادت والدته أن تجد له امرأة ترعاه بعد وفاتها، فزوجته من أرملة تدعى إليسا أستيتي ميلان. غير أن الزواج لم يكن كاملا، فكان يعيشان تحت سقف واحد ولكن في غرف منفصلة، ولم يدم هذا الزواج لأكثر من ثلاث سنوات. وبعد الطلاق رحل بورخيس ليعيش مع والدته حتى وفاتها.

خلال سنواته الأخيرة عاش بورخيس وحيدا في شقة صغيرة كان قد عاش فيها مع والدته، وكانت تعتني به مساعدتهم “فاني”. ثم غادر بيونس آيرس في زيارة قصيرة إلى مدن أوروبية نهاية عام 1985م، وكان وقتها مصابا بالسرطان، لكنه لم يعد من رحلته، حيث رحل في جنيف يوم 14 يونيو 1986.

قبل بضعة أسابيع من وفاته دهش الجميع عندما أعلنت مساعدته الآنسة كوداما، أنها قد تزوجت منه في الباراجوي -التي كان يعمها الفساد في ذلك الوقت- وأنها قد حصلت على الحقوق الحصرية لاستخدام أعماله تجاريا. وحاليا يقضي القنصل البارجواني في جنيف في ذلك الوقت عقوبته في السجن بتهمة الفساد، لبيعه وثيقة زواج غير قانونية للآنسة كوداما..!

عن شخصية بورخس تقول خادمته “فاني”: “كان يحتاج إلى نساء يتحكّمن فيه. وأول من سيطرت عليه هي أمه، ليونور إثيفيدو سواريث، التي توفيت عن 99 عاما، ثم زوجته الأولى إيلسا استيتي، فزوجته الثانية ماريا كوداما”.

عملت “فاني” في منزل بورخيس طيلة 36 عاما، وكانت ترى أن “علاقته مع أمه تبدو وكأنها علاقة زواج، فقد سيطرت عليه تماماً. امرأة مثقفة جداً، وكان هو يحترمها للغاية”. وتروي أنه عندما كان يصل متأخراً إلى البيت ليلاً، كان يذهب إلى غرفتها ويقف أمام سريرها قريباً من الباب، ويحدثها بكل شيء ثم يذهب إلى غرفته. وكان أحيانا يدخل غرفتها بعد وفاتها ليحدثها ويقول: “أمّاه، لقد عدت إلى البيت، ذهبت للعشاء مع فلانة وفلان، وأكلت كذا، أنا بصحة جيدة”.

ربما يعجبك أيضا