عبدالرزاق جرنة.. روايات عابقة بالأساطير تتعايش مع آلام المنفى

شيرين صبحي

في زنجبار التي أصبحت الآن جزءًا من تنزانيا، ولد الأديب عبد الرزاق جرنة عام 1948 ، وعاش مرحلة الصبا وسط عالم جديد يتشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث استقلت زنجبار عن بريطانيا عام 1963، ثم اندلعت في البلاد ثورة عارمة، لحق بها انقلاب عام 1964.

بعد الانقلاب، تعرض سكان زنجبار من أصل عربي لاضطهاد واسع، فاضطر “جرنة” إلى الهروب كلاجئ إلى بريطانيا وهو في الثامنة عشرة من عمره. ولم يتمكن من العودة إلى زنجبار إلا عام 1984، مما سمح له برؤية والده قبل وقت قصير من وفاته.

تمكن “جرنة” عام 1968 من الحصول على تأشيرة سياحية لمدة شهر واحد فقط تسمح له بالسفر إلى بريطانيا حيث التحق بدراسات المستوى الأول في كلية تقنية في كانتربري، جنوب شرق إنجلترا.

عمل محاضراً ما بين عامي 1980-1982 في جامعة بايرو كانو في نيجيريا، ثم انتقل إلى جامعة “كنت”، حيث حصل هناك على درجة الدكتوراه عام 1982. ثم عمل أستاذا ورئيس الدراسات العليا في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة، وهو الآن متقاعد منذ فترة قصيرة، ويعيش في برايتون جنوب شرق إنجلترا. يعد اهتمامه الأكاديمي الرئيسي هو تناول قضايا ما بعد الاستعمار، والخطاب المرتبط بالاستعمار، خاصة ما يتعلق بأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي والهند.

وفي مقابلة مع مؤسسة نوبل التي منحته جائزتها مؤخرا؛ دعا أوروبا إلى اعتبار اللاجئين الوافدين إليها من أفريقيا بمثابة ثروة، مشددا على أن هؤلاء “لا يأتون فارغي الأيدي”.

الفردوس المفقود

173 203012 abdul razzaq jarna nobel prize

وقع عبدالرزاق جرنة في “شباك الكتابة”، من دون أن يكون قد خطط لذلك، حيث بدأ مشواره الأدبي وهو في عمر 21 عامًا، يقول: “بدأت أكتب بلامبالاة وبشيء من الخوف من دون أي تصور مدفوعا برغبة في الإفصاح عن المزيد”.

ونشر منذ 1987 عشر روايات، إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان “عاشت أمي في مزرعة في إفريقيا”، صدرت عام 2006. وهو يكتب بالإنجليزية لكن السواحلية هي لغته الأم.

تتطرق رواياته الثلاث الأولى “ذاكرة المغادرة” (1987)، “طريق الحج” (1988)، و”دوتي” (1990) إلى تجارب المهاجرين في المجتمع البريطاني المعاصر، وتأثير الاستعمار الغربي على القارة السمراء.

بدأ أول تقدير بارز لأعمال جرنة، وهو في عمر 46 عامًا عندما أُدرجت روايته “الفردوس” في القائمة القصيرة لجائزة بوكر عام 1994، تقع القصة في بلدة كاوا في تنزانيا مطلع القرن العشرين، تستكشف رحلة الصبي يوسف من بيت والديه الفقراء إلى قصر العم عزيز التاجر الثرى الذي منح الأب يوسف له رهنًا مقابل سداد ديونه. يتنقل معه بين أدغال أفريقيا ويتعرف إلى ثقافات وقبائل مختلفة، ثم تتخلل الرواية قصة حب بين يوسف وأصغر زوجات التاجر، ومع بداية الحرب العالمية الأولى، يتورط التاجر في تجنيد الشباب الأفارقة لصالح الألمان على جبهات القتال.

“الفردوس”، جذبت الأضواء إلى “جرنة” بشكل غير مسبوق، ووصفت الأمريكية لورا وينترز، في صحيفة “نيويورك تايمز”، الرواية بأنها “حكاية متلألئة عن بلوغ سن الرشد”.

تروي روايته “الإعجاب بالصمت” (1996)، قصة شاب يغادر زنجبار ويهاجر إلى بريطانيا، وهناك يتزوج ويزاول مهنة التدريس، ويصنع من وحى خياله قصصًا رومانسية عن وطنه ليحكيها لزوجته ووالديها. تلك القصص التي تحطمت لدى عودته إلى أفريقيا بعد عشرين عاما من مغادرته، وتلقي هذه الرحلة بظلالها على زواجه. في الرواية يصور جرنة بمهارة معاناة رجل محاصر بين ثقافتين.

في رواية “دوتي” (1990) يرسم صورة لامرأة سوداء من خلفية مهاجرة تنمو في ظروف قاسية في إنجلترا المشحونة بالعنصرية. في نفس الوقت، تشعر بأنها بلا جذور في انجلترا، البلد الذي ولدت وترعرعت فيه. تحاول البطلة إنشاء مساحة خاصة بها وهويتها من خلال الكتب والقصص، حيث تمنحها القراءة فرصة لإعادة بناء نفسها.

أما في روايته “على شاطئ البحر” (2001)، الحائزة على جائزة أدبية فرنسية، فيروي قصة صالح عمر، طالب لجوء عجوز غير تقليدي، وصل لتوه إلى بريطانيا، يلتقى بالسيد لطيف محمود، محاضر جامعي يعيش في إنجلترا لعدة عقود، ليكشفا للقارئ قصصًا من ماضيهما لتظهر روابط بينهما غير متوقعة.

وصدرت روايته الأخيرة “الحياة بعد الموت” عام 2020، وفيها يتطرق إلى الاستعمار الألماني لأفريقيا.

كتب الأديب الفرنسي الذي ينحدر من جيبوتي عبد الرحمن وابري، في صحيفة “لوموند ديبلوماتيك” أن “روايات جرنة المتجذرة في التاريخ الاستعماري للشرق الأفريقي والعابقة بالأساطير السواحلية المطعّمة بلغة ساحرة تبحر بين القصص الإرشادية والتعايش مع آلام المنفى والاستكشاف الذاتي والتأمل في حالة البشر”.

الكتابة كقطعة موسيقية

ومؤخرا قال جرنة، إنه يرى الكتابة مثل قطعة موسيقية، نسمعها ولا نعرف سر جمالها، وأنه عمل في سنوات حياته الأدبية على إبراز معاناة المهاجرين الذين أفضت بهم الحياة إلى ركوب المخاطر والسفر خلف حياة أفضل.

وأضاف  خلال جلسة حوارية ضمن فعاليات الدورة الأربعين من معرض الشارقة الدولي للكتاب: “الجميل في حصولي على جائزة نوبل أني رأيت السعادة على وجوه أشخاص بعثت الجائزة في أنفسهم رسائل إيجابية، وحملت لهم مشاعر صادقة عن إنسان عمل قدر الإمكان ليجعل حياتهم أفضل مما هي عليه من خلال كتبه ورواياته”، مشيراً إلى أنه لا يستطيع تغيير حياة الآخرين بالكتابة، وإن كان يتمنى ذلك.

وتابع: “أكتب للوصول إلى حياة أكثر تعبيراً عن أعماق الناس الذين أتحدث عنهم بكل صدق، بحيث أنقل الصورة الحقيقية عن معاناة المهاجرين، ولا أكذب، وأنا أعبر عن تجاربهم لصالح الحبكة، وبالتالي، يجب أن ننظر بأعين ثاقبة إلى ما نحاول أن نكتب عنه، دون مغالاة أو مزايدة على الواقع”.

في عالم جرنة الأدبي كل شيء يتغير، الذكريات والأسماء والهويات. ربما يكون هذا بسبب أن مشروعه لا يمكن أن يكتمل بأي معنى نهائي. يوجد استكشاف لا ينتهي مدفوعًا بشغف فكري في جميع كتبه، وبارزًا بنفس القدر الآن، في روايته الأخيرة “الحياة بعد الموت” (2020)، كما حدث عندما بدأ الكتابة كلاجئ يبلغ من العمر 21 عامًا.

يقول أندرس أولسون، رئيس اللجنة التي تمنح جائزة نوبل، أن الشخصيات في روايات “جرنة”، “تجد نفسها في الفجوة بين الثقافات والقارات، بين الحياة التي تُركت وراءها والحياة الآتية، في مواجهة العنصرية والتحيز، ولكن أيضًا يجبرون أنفسهم على الصمت، أو إعادة تشكيل هوياتهم لتجنب الصراع مع الواقع”.

ورأى الأكاديمي لوك برونو أن أعمال جرنة “تطغى عليها مسائل الهوية والهجرة وهي مقولبة بموروثات الاستعمار والاستعباد”. وكتب على موقع المعهد الثقافي البريطاني أن “روايات جرنة تقوم كلها على الآثار المدمّرة للهجرة إلى بيئة جغرافية واجتماعية جديدة على هوية شخصياتها”.

ربما يعجبك أيضا