تأجير الأرحام في إسرائيل و«إشكالية التهود».. صراع بين النسوية والأرثوذكسية

محمد عبد الدايم

كتب – د. محمد عبدالدايم

خلافا لتوصيات الحكومة الإسرائيلية، التي حددت محاذير على السفر خارج البلاد وكذلك دخولها، بسبب تفشي الموجة الرابعة لفيروس كورونا، فقد أعلنت وزيرة النقل، رئيس حزب هاعفودا، ميراف ميخائلي، عن سفرها مع زوجها للولايات المتحدة الأمريكية في رحلة خاصة.

توجهت ميخائلي للولايات المتحدة، لاستقبال مولدها أوري، ابنها المشترك مع زوجها ليئور شلاين، والذي وُلد بمساعدة أم بديلة، وكشفت ميخائيلي أنها حاولت إنجاب طفل بمساعدة علاجات الخصوبة، لكنها اختارت في النهاية أن تلد طفلًا في عملية تأجير الأرحام.

تسببت الرحلة في ضجة عامة بإسرائيل، وانتُقدت ميخائيلي (54 عامًا) لثلاثة أسباب، أولها أنها شخصية عامة ووزيرة بالحكومة التي تضع معايير صارمة على السفر خارج إسرائيل في وقت تفشي كورونا، وثانيها لأنها أظهرت عدم إيمانها بقيم النسوية التي طالما دعت إليها، باعتبارها واحدة من الداعيات لها في إسرائيل، وثالثها، وربما أكثرها تسببا للضجة، يتعلق بتبعات ديانة وليدها، الذي جاء بعد عملية تأجير لرحم امرأة أخرى، مما فتح فوهات الغضب اليهودية “المتدينة”، باعتبار أن هذا الوليد ليس يهوديا، وفقا للشريعة.

خرق قواعد الحكومة

في الوقت الذي استعر فيه الخلاف بين الحكومة الإسرائيلية برئاسة نفتالي بينط، وبين المعارضة بزعامة بنيامين نتنياهو، حول الإجراءات الاحترازية التي تتخذها الحكومة للحد من تفشي كورونا، والسيطرة على الموجة الرابعة، دون اللجوء لإغلاق كلي جديد، يسبب أزمة اقتصادية كبرى، وتعطيلا للدراسة، جاء قرار سفر ميراف ميخائلي للولايات المتحدة مفاجئا، خصوصا، مما تسبب في الهجوم عليها من المعارضة وبعض الأبواق في وسائل الإعلام، لأنها عضو بالحكومة التي وضعت محاذير على السفر من وإلى إسرائيل.

ربما ما خفف الضغط قليلا على ميخائلي أن سفرها للولايات المتحدة جاء في وقت شبه متزامن مع سفر رئيس الحكومة السابق، زعيم المعارضة، بنيامين نتنياهو، هو الآخر للولايات المتحدة رفقة أسرته، لقضاء أجازة سنوية خاصة.

النسوية.. بين الشخصي والسياسي

أن تقرر امرأة في الرابعة والخمسين من عمرها أن تصبح أمًا، يمكن اعتباره قرارا شخصيا، لكن في حالة ميراف ميخائلي، فإن الشخصي هو السياسي، وهذا شعار من بين شعاراتها هي نفسها، فوزيرة المواصلات، رئيسة حزب هاعفودا، تعتبر إحدى “أيقونات” الحركة النسوية في إسرائيل، وفي عام 2013 صرحت لموقع “ماكو” العبري أنها ضد تأجير الأرحام، لأن هذه العملية تنطوي على استغلال امرأة ضعيفة أو فقيرة، يُدفع لها لتؤجر رحمها لاستيعاب بويضات امرأة أخرى لم تتمكن من الإنجاب، حيث اعتبرت بعيد دخولها الكنيست أن تأجير الأرحام “أمر إشكالي للغاية، نوع من الاتجار في أجساد النساء يتم تنفيذه بفرح وهو أمر غير مقبول بالنسبة لها”. وأضافت: “أولئك اللاتي يفعلن ذلك هن النساء اللائي يحتجن بشدة إلى المال، أعني أن عنصر الاختيار هنا مشكوك فيه بعض الشيء “.

في عام 2017، أحدثت ميخائيلي ضجة بعدما أدلت بتصريحات تلفزيونية، عبرت فيها عن معارضتها لهيكل الأسرة اليهودية التقليدية، حيث اعتبرت أن هذه الأسرة في أحيان كثيرة هي “أخطر مكان” بالنسبة للأطفال، وأضافت أنه: “ليس بالضرورة أن تتم تربية الأطفال من قِبل والديهم البيولوجيين، ولكن من قبل البالغين الذين تحدد الدولة أنهم مؤهلون ويستحقون الأبوة والأمومة”.

تأجير الأرحام ومن هو اليهودي

ميخائلي ضربت، بأفكارها النسوية، جدارا صلبا في دعائم التشريع اليهودي، كما أثارت واحدة من أكبر إشكاليات اليهودية الإسرائيلية، المتمثلة في السؤال الأساسي “من هو اليهودي؟”، فالهوية عموما يمكن أن تتشكل من خصائص عرقية أو دينية أو اعتناقية، وتحمل أبعادا ثقافية وسياسية وحتى شخصية، وحتى الآن لم يصل النقاش الإسرائيلي إلى قول فصل للإجابة عن هذا السؤال، الذي يمثل أحد أهم مكونات الدولة اليهودية القائمة على أرض فلسطين، وتعد عدم الإجابة عن هذا السؤال أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت إسرائيل بدون دستور قائم حتى الآن، منذ قيامها في 1948، واعتمادها على مجموعة قوانين الأساس، ومنها قانون العودة الإسرائيلي.

ينص قانون العودة الإسرائيلي، الذي صدر في 5 يوليو 1950،  أن اليهودي هو فرد مولود لأم يهودية، أو اعتنق الديانة اليهودية،  ويسري هذا القانون على من ولدوا يهودًا (أبناء لامرأة يهودية أو أحفاد يهودية من طرف الأم)، ومن هم من أصول يهودية (أبناء وأحفاد يهودي) ومعتنقي الديانة اليهودية (من الأرثوذكس المتشددين والمحافظين والإصلاحيين)، لكن ظل التحول إلى اليهودية بشقيها المحافظ والإصلاحي غير معترف به، تماما مثل الزواج المدني الذي يطالب به العلمانيون في إسرائيل، ولا يمكن أن يتم إلا في خارج إسرائيل، وعند التقدم للزواج مثلا، تشترط الحاخامية الكبرى في إسرائيل وجود وثائق تثبت يهودية الأم والجدة وأم الجدة وأم أم الجدة عند التقدم للزواج، تثبيتا للشرط الأساسي بأن تكون والدة الطفل يهودية.

من هنا ظل سؤال “من هو اليهودي؟” محط نقاش كبير، وخلاف بين الطوائف الدينية اليهودية وبعضها، وبينها وبين العلمانيين في إسرائيل، حتى أن تعريف اليهودي في قانون الأساس ليس هو تعريفه لدى الحاخامية الأرثوذكسية، والطوائف اليهودية غير الأرثوذكسية تختلف فيما بينها حول التفسيرات المتعلقة بتحديد من هو اليهودي، وتتمثل أهم الاختلافات في مجموعة من الأسئلة:

•    هل يعتبر الفرد يهوديا إذا كان أحد والديه (وليس كليهما) يهوديًا؟

•    كيف تصح عملية اعتناق اليهودية؟

•    هل يمكن أن يظل الفرد على يهوديته إذا اعتنق ديانة أخرى؟

•    هل يؤثر عدم إدراك الفرد لكون أبويه يهوديين على حالته اليهودية؟

•    كيف يمكن منح “المواطنة الإسرائيلية” للفرد في سياق قوانين الأساس التي تؤكد على “يهودية الدولة؟

في هذا السياق، يجب الإشارة إلى مسألة تأجير الأرحام لم توافق إسرائيل عليها إلا في عام 1996، بعد نقاش طويل، وصدام مع الطوائف الأرثوذكسية المتشددة التي تعارض المسألة حتى اليوم، وترفض الاعتراف الكامل بيهودية الطفل المولد في رحم بديل.

يتناول قانون “الاتفاقيات لحمل الأجنة” (1996) الاتفاق بين الوالدين المقصودين لذلك، وبين الأم الحامل (البديلة)، التي توافق على زرع بويضة مخصبة للأم المقصودة بالحيوانات المنوية للأب المقصود، وهذا القانون مُعد للنساء في “جيل الإنجاب”، اللاتي لم يقدرن على الإنجاب، أو يمكن أن يعرض الحمل صحتهن للخطر، وينطوي القانون على إشكالية كبيرة في تحديد مسألة “من هو اليهودي؟”، وتتعلق باشتراط أن تكون الأم “حاملة البويضات” يهودية، ولكن ماذا عن الأم البديلة، وما هي ديانة الطفل الذي يخرج من رحم أم بديلة غير يهودية؟، بل وماذا لو كان الرحم البديل صناعيا وليس رحم طبيعي؟

هنا تبرز عدة أسئلة تستوجب إجابات وفقا لـ”الشريعة اليهودية”: هل يُنسب المولود للمرأة التي تحمل (الأم البديلة)؟ أم إلى الأم صاحبة البويضات؟ أم يُنسب لكليهما؟ أم لا يمكن أن يُنسب إلى أي منهما، فلا واحدة منهما أم بشكل كامل؟

التهود وانتقاء شعب الله المختار

ليس هذا فحسب، بل إن أوري، المولود لميراف ميخائلي في رحم بديل، يستوجب نقاشا كبيرا ليس فقط حول “يهوديته” من عدمها، بل على “تحوله إلى اليهودية” من عدمه، وهذا التحول إلى اليهودية أي التهود (المعروف في العبرية بـ جيور) له معايير، غير متفق عليها بشكل قاطع لدى حاخامات اليهود، باعتبار أن اليهودية أساسا ديانة “غير تبشيرية”، وتوجد عراقيل “فقهية” تواجه الفرد الذي يرغب في التحول إلى اليهودية، لأن اليهود يعتبرون أنفسهم “شعب الله المختار”، و”صفوة الخلق”، وما عداهم من “الجوييم” (الأغيار).

تداعيات هذه الأسئلة كبيرة على الحالة اليهودية الإسرائيلية القائمة، وتسير في حقل ألغام التشريعات الدينية اليهودية، فمن بين التداعيات: ما هي ديانة ابن ميخائلي؟ هل هو يهودي أم يجب عليه أن يتهود؟ وهل يُقبل تهوده؟ وما حقه في الميراث؟ وهل تُقبل شهادته؟

في سياق الوصول إلى تحديد قاطع يجادل بعد حاخامات اليهود، في النقاش حول تأجير الأرحام، ويشددون على ضرورة التأكيد على أن تكون المرأتان يهوديتان، صاحبة البويضات وصاحبة الرحم البديل، تحسبا لعدم المعرفة الدقيقة بصاحبة “البويضة”، أو على المولود أن يمر بمرحلة “التهود للتحوط” أو “التهود الخطر” (جيور لحومرا)، وهي مرحلة يمر عليها الراغب في التدين باليهودية مع وجود شك في ديانة والدته، وتمارس الحاخامية اليهودية الأرثوذكسية هذه العملية على يهود الفلاشا القادمين من إثيوبيا، حيث يخضعون لعملية التهود نظرا لوجود شك في تحديد ديانة أمهاتهم قبل الهجرة لإسرائيل، أي أنها، بشيء من التبسيط، عملية يُقبل فيها الفرد كيهودي، رغم وجود شك في يهودية أمه، لعدم التيقن، ويكون هذا التهود على نطاق ضيق للغاية، ووفقا لشروط معينة ومحاذير.

تبلغ ميخائلي 54 عاما، أي أنها ليست في فترة “جيل الإنجاب”، وبالتالي فهي قد خرقت أحد بنود القانون الإسرائيلي، الذي يشترط موافقة رجل دين يهودي على العملية،  لذلك توجهت إلى الولايات المتحدة لتقوم بتأجير رحم أم بديلة خارج إسرائيل، بعد أن كانت ترفض في السابق فكرة الإنجاب.

عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش، اليهودي المتشدد رئيس حزب هابيت هايهودي المُعارض، هاجم ميخائلي، واعتبر أنها تقوم “بهلوسة، وتشويهات لا يمكن أن يخترعها سوى شخص فقير لم يختبر الأمومة والأسرة”، فيم هاجمها الحاخام دوف هالبيرطال، المعروف بآرائه المتشددة، ومؤلف سلسلة “قيمة الحياة في الشريعة”، حيث طالب بأن “يؤخذ منها ابنها”، لأنها “تريد أن تستمتع بثمار الشجرة المسمومة، لقد ارتكبت عملية احتيال عامة، وهي واحدة من أكبر عمليات الاحتيال، إنها امرأة نسوية علمت الأجيال أن الطفل يعتبر ظلمًا أخلاقيًا للمرأة وإزعاجًا عامًا، الآلاف من النساء اقتنعت بعدم تربية الأطفال”.

ربما يعجبك أيضا