ماياكوفسكي.. على كل قطرة من غمامة الدموع صلبتُ نفسي!

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي
سوف أجتاز المجلدات الغنائية ، متحدثاً إليكم ، كما الحي يتحدث إلى الأحياء ، إن شعري سيصلكم على ظهور القرون ، وعبر رؤوس الشعراء و الحكومات ، إن شعري سيخترق السنين بضراوة ، وسيصلكم قوياً ، ناضجاً ، فجاً …

يعتبر فلاديمير ماياكوفسكي أحد أهم وأبرز شعراء النصف الأول من القرن العشرين في العالم، حيث دوّى صوته في روسيا القيصرية، منددا بالعبودية والاستبداد، وأوقف حياته وكل مواهبه وطاقاته، من أجل الثورة الاشتراكية، وقضايا الشعب الكادح.

ولد فلاديمير ماياكوفسكي عام 1893 في بلدة بغدادي في جورجيا، البلدة التي حملت اسمه فيما بعد، وكان والده ووالدته من سلالة أسر قوزاقية، فوالده روسي من أصول تترية، وأمه من أصول أوكرانية . وكانت الأسرة غير الميسورة ماليا محبة للأدب والفولكلور والثقافة مما أتاح لماياكوفسكي تلقي التعليم الأولي في المنزل، ثم تابع الدراسة الإعدادية في مدينة كوتاييسي حيث بدأ يتشرب الحس الديمقراطي – الثوري.

لعبت ثورة عام 1905 دورا كبيرا في مشاعر الطفل فلاديمير، فانخرط رغم صغر سنه في نشاطات الحركات الثورية، فاعتبرته السلطة مشاغبا، لكن الوضع الخاص بالنسبة لجورجيا آنذاك – حيث كانت أشبه ما تكون بمنفى للثوريين- ساعده في تتبع المنشورات السرية .

غادر مع والدته وشقيقتيه إلى موسكو عام 1906 بعد وفاة والده، وبدأت والدته في صناعة بعض التشكيلات الفولكلورية وبيعها، وتأجير غرف في شقتها المستأجرة، أما فلاديمير فانخرط في العمل السياسي وانتمى إلى حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي وهو في الرابعة عشر من عمره ، وشارك ببعض الأعمال الثورية بما في ذلك حفر نفق تحت السجن هربت خلاله سجينات كانت السلطات تستعد لإرسالهن إلى المنفى، فدخل ماياكوفسكي السجن المنفرد وهو لايزال بعد في الصف الخامس الابتدائي..!

صدرت أولى أشعاره عام 1912 وتكون أولى خطواته الشعرية المتميزة عبر المستقبلية التي كان لها أكبر التأثير على أسلوبه الفني.

أحب ماياكوفسكي بكل جوارحه، ورغم أنه أحب الكثيرات، إلا أن ليلي بريك كانت التجربة الأقوى والأقسى والأغنى إبداعا في حياته. كانت “ليلي” شخصية جذابة ومؤثرة، لكنها زوجة الأديب والناقد أوسيب بريك حيث كان ماياكوفسكي يزورهما.

ليلى الحبيبة!
بدلا من رسالة
أتذكرين –
وأنا أربت، محترقا، على ذراعيك
بحب مجنون،
للمرة الأولى،
عند النافذة؟
تجلسين الآن هناك
والقلب في الدروع،
وربما،
ذات يوم،
سوف أطرد إلى الخارج،
إلى القاعة الغائمة:
فلنرتد ثيابنا: كن أكثر هدوءا
أيها القلب المجنون، لا تدق عاليا هكذا!
ولسوف أندفع، عاصفا،
أطلق جسدي إلى الشارع
وقد أدماني اليأس من القدم حتي الجبين
لا تفعلي
لا تفعلي ذلك
حبيبتي
فاتنتي!
فالأفضل أن تقولي وداعا الآن، فورا.
وعلى أية حال،
فحبي عبء مشلول
عن أن يتعلق بك
حيثما تهربين
دعيني أبكي
مرارة تعاستي،
في زفرة أخيرة.

ظلت الثورة وبناء العالم الجديد هاجس ماياكوفسكي الأول ، حيث ينغمس بأجواء الثورة والسلطة الجديدة حتى يغدو داعية ومحرضا إلى درجة أنه كان يكتب الأشعار الساذجة أحيانا للتوعية والإرشاد والتوجيه. وقد شكل نسف الماضي العتيق وعادات المجتمع التي يرى أنها لا تستحق سوى التحطيم، ولعا خاصا لدى ماياكوفسكي والشعراء المستقبليين عموما.

أراد ماياكوفسكي معرفة بلاد الخصم الرأسمالي بنفسه، فسافر أواسط العشرينات إلى أمريكا فاستقبل في البداية كمندوب مروج للأحذية المطاطية، إلا أنه استطاع ان يقيم العديد من الندوات والأمسيات والمناظرات، ورأى أن لطف وتهذيب الأخلاق البورجوازية مجرد غطاء للجريمة..!

كلُّ البارونات.. والكونتات ..
يعيشونَ في مدنٍ فاخرةٍ مختلفة
يسرقونَ
ويقولون: ( ميرسي ميسيو )
ويغتصبونَ
ثم يقولون: ( باردون مدام )

حاول ماياكوفسكي فضح الروتين الظالم والبيروقراطية فكتب قصيدته الرائعة “فظائع الأوراق”، كما استهل قصيدته عن الهوية السوفيتية:‏ «لو كنت ذئباً‏ لقضمت‏ البيروقراطية»‏ لكن البيروقراطيين، كانوا له بالمرصاد، فشددوا الحصار عليه، وشن النقاد المتزمتون الحرب عليه علناً، شاركهم بذلك أساتذة الجامعات والمعاهد الذين طالبوا بعدم خروج الشعر الروسي عن المألوف، ولم يكتفوا بالنقد اللاذع والتهكم المرير، وإلصاق التهم الخرقاء بالشاعر، بل سحبوا مؤلفاته من المكتبات، ورفضوا طباعة أعماله الجديدة، لكن مع كل هجوم جديد كانت شعبية ماياكوفسكي تزداد.

هكذا تمت محاصرة الشاعر من كل الجهات، فحاول الرحيل إلى باريس، حيث تقيم حبيبته تانيا ياكلوفلوفا، فمنعوه من الخروج بكل الطرق، وعندما عرفت (تانيا) بذلك، تزوجت من الفيسكونت دوبليه، مما زاد من عذابه وآلامه، وبعد تشديد الرقابة أكثر لم يعد يجد مخرجا.

هناكَ أنا في كلِّ مكانٍ حيثُ الألم
وعلى كلِّ قطرةٍ من غمامةِ الدموع
صلبتُ نفسي

في يوم 14 أبريل من عام 1930 وجدت جثة ماياكوفسكي حيث أطلق النار على نفسه، وبجواره رسالته الأخيرة التي يقول فيها:
” إلى الجميع، لا تتهموا أحداً في موتي، وأرجو أن لا تنمّوا. فالراحل لم يكن يطيق ذلك.. ماما، أخواتي ورفاقي، سامحوني – هذه ليست الطريقة الصحيحة (و لا أنصح غيري بها)، ولكن لم يبق باليد حيلة.
ليلا – أحبيني.
أيها الرفيق– الحكومة: عائلتي هي ليلا بريك، ماما، اخواتي وفيرونيكا فيلتودوفنا بولونسكايا.
إذا دبّرت لهم حياة مقبولة – فشكراً.
اعطوا هذه القصيدة التي ابتدأتُها إلى آل بريك، وهم سيفهمون.
كما يقال – ” trop poivre` “،
وقارب الحب تحطم على صخرة الحياة.
لقد تحاسبت مع الدنيا
ولا فائدة من تعداد
الالام المتبادلة
المصائب
والإهانات.
أتمنى لكم السعادة في البقاء”.

من أشعاره نقرأ قصيدة “غمامة في سروال” وفيها يقول:
أفكاركم
الحالمة على دماغكم الليّن
كخادم في مقهى
سأغار بقلبي الدموي حتى الشبع،
ففي قلبي
لا يوجد ولا شعرة بيضاء
نعومة الشيخوخة
هربت منها
والعالم الى انزلاق
وأنا الأنيق
أرصّع الحب على الكمنجة
أن تضع الحب على الغار
شيء منفّر
كالشفاه الغليظة
أو كالكتب المطبوخة،
هل تريدون؟
سأكون كلحم الضحية
أو كالسماء الكالحة،
هل تريدون؟
سأكون ناعمًا بإفراط
لا رجلاً بل غمامة في سروال.
لا أعتقد أن العصافير ستختنق
فأنا صوتها المموسق
لا كالرجال الجالسين
مثل مستشفى
أو كالنساء المستهلكات
مثل زغرودة.
فصل أول
هل تعتقدون
أن هذه حمّى،
حدث ذلك في أوديسا،
إذ قالت ماريا
سأجيء في الرابعة.
وها هو الليل في الاختناق الأسود
ابتعد الضوء عن النوافذ
متجهمًا،
وفي القفا
تضحك وتصهل
قناديل الشعاع،
وأنتم لم تسمعوا
أنيني،
ولم تعرفوا
أن القلب في الصقيع
مختبئ في الأنوثة،
وهاك ماياكوفسكي الضخم
يحدودب في النوافذ
مبحرًا برأسه
في زجاج النوافذ
متسائلاً:
هل يكون حب أم لا؟
ومن جديد
ومن جديد
أسير مطرًا
وجهي يأكل وجهي
ومع انتصاف الليل
أخرج بالخنجر
وإذ أنا أنهار
كرأس المحكوم بالإعدام.
اسمع!
هذا هو الهدوء كمريض قفز شريانه
من السرير.
والأعصاب كبيرة
صغيرة تقفز مسعورة
والليل في الغرفة
يمتد ويتطاول
والأبواب تئن من كثرة الفراغ
وهل تنظرين
هدوئي مثل جثة
مثل نبض الميت.
هل تذكرين؟
المال
الحب
الشهوة،
وهل رأيت ما أرى؟
أنا أرى الجوكوندا
التي ينبغي سرقتها.
هاي، أيها الأسياد
الذين تعشقون المقدسات
أيها المجرمون
هل رأيتم هدوء وجهي
هل رأيتم نوعية مرضي
أماه! عند ابنك حريق في القلب
ينام واقفًا كعاهرة عارية،
وعلى تشققات الشفاه
تبرز الأغاني المريضة،
أماه! لا أستطيع الغناء
ولا أستشعر اللحن
كالموسيقى الهاربة
من بناء يحترق
أو كالأفكار الطريّة
المنبثقة من جمجمة صدئة
مجِّدوني
أنا العظيم
لا أحبّ
قراءة الكتب،
اذ قديمًا فكرت:
الكتب؟
الكتب يكتبونها هكذا،
يأتي الشاعر فاتحًا فمه
يسير على يديه
يصغي إلى قلبه
وينهار على السأم

ربما يعجبك أيضا