إنجي أفلاطون.. الفنانة التي رفضت المجتمع المغلف بالسلوفان

شيرين صبحي

رؤية- شيرين صبحي

لم تعرف الأوساط الثقافية المصرية من هي أرفع طبقة من الفنانة إنجي أفلاطون بين كل اليساريات والشيوعيات في الحركة الوطنية المصرية، حيث تخلت عن كل ما يربطها بالارستقراطية وارتبطت بكفاح الجماهير .

هي الفنانة السياسية على حين ندر استمرار السياسيين بين الفنانين التشكيليين من طبقتها في الفن، كما يروي د. محمد الجوادي في كتابه “مذكرات المرأة المصرية”، فكانت نموذجا للصلابة المحترمة بين السيدات المصريات، حيث ظلت معتقلة لمدة أربع سنوات لم تر فيها أهلها غير مرة واحدة، ورغم هذا بقيت أشد صلابة حتى وفاتها.

لكل هذا تعتبر إنجي أفلاطون المولدة في مثل هذا اليوم 16 أبريل 1926 في أحد قصور القاهرة؛ نموذج بارز للحرص الشديد على تعميق الانتماء الوطني لغة وفكرا وعادات وتقاليد.. تقول في مذكراتها “حاولت والدتي إقناعي بالسفر إلى فرنسا لاستكمال دراستي الفنية. وكذلك حاول كل أفراد العائلة لكني رفضت، بإصرار وعزم رفضت، كان قراري بالرفض منسجما مع ما استعد له من حياة جديدة، يقتسمها النشاط السياسي والاجتماعي إن لم يشغلها لأبعد مدى، لم يكن مقبولا ولا معقولا أن أترك مصر وأذهب لعدة سنوات إلى بلاد الخواجات، وأنا أفكر بكل وجداني في عملية تمصير طويلة وقاسية للنفس، لي شخصيا أنا التي أتكلم الفرنسية ضاعت من عمري ثمان عشرة سنة في هذا المجتمع المغلف بالسلوفان، حتى لغتي القومية لا أملكها، أي بؤس يحسه الإنسان المعقود اللسان! حتى السابعة عشر كانت لغتي هي الفرنسية. وحين بدأت احتك بالناس لم استطع أن أحل العقدة من لساني، مقطوعة أنا من شجرة إذن؟”.

تتحدث إنجي في مذكراتها عن عائلتها بدءا من الجد الأكبر وزير الجهادية والبحرية في عهد الخديوي إسماعيل، والذي سماه الطلبة بأفلاطون لكثرة أسئلته ومناقشاته فأقرهم على ذلك محمد علي باشا حين كان يراجع أسماء طلبة المدرسة العسكرية.

كما تتحدث عن والدها علام الحشرات وعميد كلية العلوم في جامعة القاهرة، ووالدتها التي تزوجت في سن الرابعة عشرة، والبيوت التي تربت فيها في شبرا ثم الزمالك عندما وقع الطلاق بين والديها.. لكن هذه السيدة الشابة – والدتها – التي طلقت في التاسعة عشر من عمرها استطاعت أن تنجح في إثبات ذاتها عن طريق العمل.

قررت والدة إنجي أن تدخل ميدان العمل في مجال الأزياء، وشجعها طلعت حرب وبمساعدة بنك مصر افتتحت محل الأزياء الرفيعة والتفصيل الراقي يحمل اسم “صالحة” في شارع الشواربي، فكانت أول مصرية تعمل في هذا المجال الذي كان يحتكره الأجانب واليهود.

تحدثنا إنجي عن حفلات الطبقة الراقية التي يمكن للفتاة أن تجتذب منها عريسا، لكنها تنفر منهم فتقول “أولئك الشباب لم يكونوا يتميزون بغير السطحية في الفكر مع الاستهتار وعدم المبالاة، شباب يتميز بجهل عنيد ومعظم أفراده لم يكملوا تعليمهم اعتمادا على المال والسلطة، ولكن المال والسلطة والأبهة لا تغني أبدا عن التعليم والثقافة. جمال الحياة وبهجتها لا تكتمل إلا بالمعرفة، وكنت أنا لا أرى إلا التفاهة في هذا الشباب المظهري البراق، وكان ينتابني شعور بالخوف من أن يكون مصيري أن أعيش حياتي بين هؤلاء الضائعين، وكنت أحلم بالإنسانية العادلة لسعادة البشر”.

طبقة الأعداء!

تعرفت إنجي بأستاذها الأول كامل التلمساني الفنان التشكيلي الطليعي، الذي شجعها وأشركها في المعارض الطليعية لجماعة الفن والحرية رغم صغر سنها وهي لا تزال طالبة في “الليسييه”.. ثم بدأت تفكر في الاستقلال بشخصيتها عن طريق العمل، فالتحقت بمعمل تحاليل وكانت تقضي سبع ساعات يوميا في كتابة نتائج التحاليل على الآلة الكاتبة.

بدأت إنجي في ممارسة العمل السياسي، لكن الفنانة الارستقراطية قابلتها مشكلة وهي تمارس العمل اليساري ” المشكلة التي أقلقتني بحق كانت الفارق الطبقي الواضح بيني وبين غالبية الرفاق من الجنسين، هذا الفارق لم يكن واضحا فقط في المستوى الاقتصادي بل في العادات والتقاليد، وكان عليّ أن أبذل جهدا جبارا لكي أتكيف مع هذا العالم الجديد وأجعله يثق بي ويتقبلني.. كان هذا أصعب جزء في عملية التمصير والتأقلم التي شغلتني سنوات طويلة، كم كان خجلي من الملابس الغالية التي تملأ دولاب والدتي صاحبة أكبر وأشيك محل أزياء في القاهرة، وكنت أترك جميع الفساتين الجميلة وأرتدي أبسط وأقدم ما أجده عندي حتى لا تشعر زميلاتي بالفارق أو على الأقل حتى ينسين مؤقتا أنني قادمة من طبقة الأعداء”.

تتحدث بعد ذلك عن نشاطها في الأحياء الشعبية واستخدامها للمواصلات العامة، فتقول “كان اقتحامي لهذا العالم الجديد يملؤني سعادة واعتزاز، وكنت أشعر بأنني سأصل أخيرا إلى جذوري وأن الدم الذي يجري في عروقي هو دم مصري حقيقي، صار عليّ أن أعوض بسرعة السنوات الضائعة من عمري وأتشبع بأقصى ما أستطيع بالشخصية المصرية التي بها يكون اكتمالي . هكذا كنت أفكر إنني أنظر إلى تلك الأيام بامتنان. امتنان للناس الذين ساعدوني، امتنان لهذا الاختيار الذي أعطاني فرصة الاندماج التام مع الوطن والشعب فأصبحت من أكبر عشاقه”.

استطاعت إنجي أن تؤسس مع مجموعة من الفتيات منهن لطيفة الزيات وفاطمة زكي وآسيا النمر وعنايات النيرلي لرابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية منتصف 1945 م.. وتحدثنا عن تجربته الدولية في مجال النشاط النسائي العالمي، وتروي لنا استقبال البوليس المصري لها بعد عودتها من المؤتمر الدولي وكان الاستقبال الطبيعي هو القبض عليها، وهكذا أصبح اسمها على القائمة السوداء وأصبح لها ملف في القلم السياسي.

الحب من أول نظرة 

أما قصة زواجها فترويها بكل بساطة وحب ” فوجئت بالزميل علي الشلقاني يقدم لي شابا طويلا وسيما قمحي اللون وأخضر العينين. قدمه باعتباره صديقا وزميلا له في الدراسة، وفوجئت بهذا الشاب يحدثني في اهتمام بالغ وينظر إلي بإعجاب واضح، والحق أني شعرت أيضا نحوه بإعجاب من أول نظرة وبأن شيئا ما يجذبني نحوه، ولكن سرعان ما تبدد الأمل وطارت الأحلام لأن هذا الشاب وكيل نيابة، هل هذا معقول؟ أعجب بي وأنا على رأس القائمة السوداء ومن صميم عمله حبس أمثالي.

لاحظ الشلقاني شعوري نحو صديقه وكيل النيابة فأسرع يؤكد لي بأنه من العناصر الوطنية الممتازة، بل هو أكثر من ذلك إنه من الماركسيين الملتزمين والضرورة تقتضي إخفاء ذلك. استطاع الشلقاني إزالة مخاوفي ووجدت نفسي أبحث بسرعة في ذهني عن حجة أو فرصة اغتنمها لأقابله مرة أخرى، وجاءت الحجة من ناحيته كأنه كان يفكر بنفس طريقتي، فاقترح أن يعطيني بعض الدروس في اللغة العربية”.

” تمت أول مقابلة بيننا في محل شاي “لوك” بشارع سليمان، تكلمنا في كل شيء إلا دروس اللغة العربية، فتح كل منا قلبه للآخر بسرعة شديدة ونما بيننا تفاهم كبير فكنا شان أي محبين نمضي ساعات وساعات دون أن نشعر بزمان أو مكان، أعتقد وهذا حقيقي أنني أحببت حمدي منذ أول لحظة تعرفت عليه فيها، وبعد تعرفي عليه تعمقت العلاقة بيننا إنسانيا وفكريا وسياسيا، وتأكد إعجابي به وحبي له، وأدركت أنه الإنسان الذي أحب أن يشاركني وأشاركه الطريق الصعب الذي اخترته، وأنه الرجل الذي يمكن أن تكون رحلته معي مصدر سعادتي، ولكن لم يكن ممكنا أن نتزوج بسهولة”.

في مايو 1948 تم الزواج ونشرت أخبار اليوم الخبر بعنوان بارز “إنجي أفلاطون ترفع الراية البيضاء”.. وعن هذا الزواج تقول “أكسبني الزواج من حمدي أشياء كثيرة ثمينة وأساسية في حياتي، فلأول مرة بدأت أشعر بالاستقرار والطمأنينة وانزاح عني القلق والشعور بعدم الرضا عن نفسي، هذا الشعور الذي كان يلاحقني طوال فترة شبابي المتمرد وكنت أعيش مع أمي في وسط برجوازي من النوع الكبير، وأزاول نشاطا متناقضا معه هو النشاط الشيوعي، بعد الزواج عرفت العيشة السعيدة والحب الكبير، كان حمدي إنسانا تقدميا حقا في مواقفه وأخلاقه وسلوكه مع شريكة حياته، لم تكن لديه أية رغبة في السيطرة بل كانت رغبته حقا مساعدتي ومشاركتي همومي، كذلك لم تكن لديه عقدة طبقية بل على العكس ساعدني كثيرا في التخلص من العقد التي سببه إلي التناقض الذي نشأت فيه بين البيئة وبين العقيدة، نجح حمدي في تنمية إحساسي بأن انضمامي إلى قضية الطبقات المقهورة مكسب كبير للثورة، ونجح في أن يخلصني من عقد وقعت فيها مثل حرصي على عدم الظهور بفساتين جميلة مفضلة ارتداء الملابس القديمة والمبهدلة، اقنعني أن هذه ليست القضية، وأن حرصي على مظهري اللائق مسألة طبيعية وعادية، وأن التكلف في العمل والمظهر الثوري ليس من علامات النجاح”.
 

كيف يموت؟

لم تدم حياة الزوجين طويلا، فتحكي لنا عن الأيام الأخيرة في حياة زوجها حين أصر إصرارا غريبا على السفر إلى الإسكندرية والنزول في نفس الفندق الذي قضيا فيه شهر العسل وكأنه كان يحس بدنو الأجل ” أربعة وثلاثون سنة عاشها حمدي، حقا حياته كانت قصيرة، لكنها كانت مليئة بالحب والعطاء والتضحية لمبادئه، حياته كانت ثرية إلى أقصى حد لكنه كان يعيشها كل يوم وكأنه اليوم الأخير له في الدنيا، كان دائما على عجلة من أمره وليس أمامه الوقت الكافي. كأن قلبه يشعر بما ينتظره من المجهول. ودعنا حمدي وبقي عندي سؤال معلق وملح.. كيف يموت حمدي وهو في عنفوان شبابه؟ لم أغب عنه سوى يومين أو ثلاثة، فكيف مات وما سبب وفاته؟ هل السبب يتصل بضرب رجال المباحث له في ليلة السرادق الذي أقامه الدكتور عبد العظيم أنيس للدعاية الانتخابية، فقد حدثت الوفاة بعد 15 يوما فقط من تلك الليلة”.

” حاولت أن أتخطى صدمة موت حمدي العنيفة بمزيد من الانغماس في العمل. ففي رأيي أن العمل هو القادر وحده على مساعدة الإنسان على النسيان، وتعويضه إلى حد ما عن الشيء الغالي والنادر الذي فقده في غمضة عين”.

مع قيام حملة الاعتقالات 1959 قررت إنجي الهروب والاختفاء ” قلت لنفسي ستشملنا الحملة ولن نفلت نحن النساء من الاعتقال، وبعد تفكير طويل اتخذت قرارا خطيرا وهو قرار الهروب والاختفاء والاستمرار في مزاولة العمل السري السياسي، قررت عدم الاستسلام للاعتقال وبطش السلطة وكل ما يصاحبه من تعذيب وإرهاب في السجون والمعتقلات”.

لكن إنجي تقع في قبضة البوليس السياسي وتدخل السجن مثل باقي الرفاق، فتحدثنا عن سجن النساء بالقناطر الخيرية، وكيف استطاعت أن تحصل على حق الرسم داخل السجن سواء بالمساومات المادية أو السياسية.

ثم تروي لنا عن الزيارة التي تمكنت والدتها من الحصول على إذن بها “تمكنت من معرفة أشياء وأخبار تهمني، وفتحت لفة الطعام، تفاح وفرخة محمرة، سال لعابي لكني قلت سآخذه معي للسجن لمشاركة زملائي، قال الضابط لازم تأكليه أمامي هنا.. أخذت التهم الطعام التهاما، نظرت أمي بعينيها الواسعتين نظرتها القوية الحادة وقالت: كيف تأكلين بيديك الاثنتين! لما ترجعي البيت سترين ماذا سأفعل.. وكان جوابي جملة قاسية جدا قلتها بتلقائية: لسه بدري.. وظهر على وجه أمي الأسى.. لكنها الحقيقة”..!

ربما يعجبك أيضا