الشوكولا.. دماء على أستار اللذة

أماني ربيع

أماني ربيع

” الشوكولا فكرة يتمازج فيها الأبيض والأسود، ويختلط السرور والخطيئة بالخطوط والمُنحنَيات، وعواطفنا التي نتبعها هي من يحول الشوكولا إلى أسطورة ثمينة للغاية، يحملها الشخص مع ذكريات الطفولة ولحظات إرضاء الحواس”.

– من كتاب “الشوكولا.. التاريخ الكوني”، سارة موس وأليكساندر بادنوتش.

تفتح غلافها الذهبي في لهفة وكأنها تزيح ستارا حريري عن عالم من اللذة سيكون ملكها وحدها، تسيل غدتها اللعابية بينما تتفتح خلايا مخها كالأزهار، كان مذاقها رفيقا للفرح دوما، فلا تأتيها إلا عندما تكون على موعد مع السعادة، تقترب القُبلة السوداء من فمها فتبتسم كما كانت تفعل منذ أول مرة تعرفت فيها على الشوكولا.

لا يوجد شخص منا لم تلعب ألواح الشوكولا في حياته دورا هاما، فهي لاعب أساسي تارة، وثانوي تارة أخرى في تاريخنا الفردي، رفيقة المناسبات المفرحة، تقدمها بمحبة، وتستقبلها بمحبة أكبر، وإن كنت لا تحب طعمها أو تتحسس منها فستكون أول خيار لك عندما تفكر في هدية لشخص عزيز.

والسؤال هو كيف وصلتنا ألواح اللذة تلك، وماذا لو لم يصل المستعمر الإسباني إلى أمريكا الوسطى ليقع في غرام حبة بنية صغيرة تصنع المعجزات.

العصير المُر

هذه المعجزة اللذيذة تاريخا طويل يعود إلى ألفي عام قبل الميلاد، وموطنها الأصلي في أمريكا الوسطى، لم تكن تؤكل بالشكل المتعارف عليه هذه الأيام، بل كانوا يجلبون حبوب الكاكاو الخام ويهرسونها ثم يتناولونها كشراب مُر، لهذا أطلق على حبوب الكاكاو هذا الاسم المشتق من كلمتين في لغة المايا بمعنى “العصير المُر”، ومن نفس اللغة اشتقت كلمة شوكولا والتي تعني “الماء الحامض”، نظرا لمرارة طعم الكاكاو الخام.

وورد في وصف رحلات كولومبوس، ذكره للسلع التي كانت رائجة في منطقة أمريكا الوسطى، كحبوب الكاكاو واللوز التي كانت تستخدم كنقود في عمليات المقايضة، وأشار تقرير “دي ساهاجون” إلى أن الأزتيك استخدَموا الكاكاو لعلاج الحمى واضطرابات الهضم، وكعلاج للأرق.

في عام 1519، لفت نظر المكتشف الإسباني فرناندو كورتيز، كيف يتعامل شعب الإزتك مع حبات الكاكاو وكأنها جواهر ثمينة أو شئ مقدس، وقال:” “كانوا يحملونها، وكأنها تساوي مبلغا كبيرا، أنا راقبتهم، عندما كانت تسقط أي حبة كانوا ينحنون لالتقاطها، كما لو ان عينا من أعينهم سقطت”.

كان فرناندو يراقبهم وهم يقطفون ثمار الكاكاو، ثم تخمر وتجفف قرب الحقول، وتقوم النساء بتحميص الثمار وطحنها بمدقة، وجرن مسطح، ثم تضاف إليها عجينة من دقيق الذرة والبهارات مثل الفانيليا والفلفل، ثم تخفف بالماء لتصبح مثل الحساء الكثيف، تذوق كورتيز هذا المشورب فوجده مُرا، فأضاف إليه السكر.

دخلت حبوب الكاكاو أوروبا من بوابة إسبانيا، وتحديدا مع الرحلة الرابعة للرحالة البرتغالي الأشهر كريستوفر كولومبوس، عام 1542، عندما عاد محملا بغنائم العالم الجديد الذي اكتشفه، فأحضر ضمن ما أحضر حبات داكنة اللون وجدها في المكسيك، لكن نظرا لكثرة ما حملته سفنه، لم يلتفت أحدا إلى حبوب الكاكاو، لتهمل ويعاد اكتشافها عام 1599.

اعتبرت الشوكولا سرا، منذ عرف الإسبان سر صنع مشروبها الساحر، فأخفوا طريقة صنعه، ليتمتع النبلاء وحدهم بالمذاق الآسر، وظل السر حبيسا لأكثر من مائة عام، حتى تسرب وانتشر في العالم.

اكتسب مشروب الشوكولا شعبية واسعة في فرنسا، وتحول من مشروب للنبلاء إلى مشروب شعبي أقيمت له المقاهي، وكان يشرب في أكواب من القرع الملبس تسمى جيكارا، أما الرغوة فكانت تصنع باستخدام مخفقة “مولينيلو”، وبدلا من السكر استخدم العسل للتحلية، وأخذت القرفة مكان الفلفل الحار، واستخدم اللوز والبيض لتكثيفه.

وصلت مقاهي الشوكولا إلى لندن عام 1650، وتوسعت شعبيتها بسبب أجواءها الاجتماعية البعيدة عن أجواء الحانات، وذكر السياسي الإنجليزي صموئيل بيبس مشروب الشوكولا في يومياته باعتبارهامشروب أصحاب المراكز الرفيعة في البلاط ورجال الحكومة أثناء تبادل الأراء.

ومع بدايات القرن 18، أدرجت الشوكولا في وصفات كتب الطهي الإنجليزية، وأصبح مشروب الشوكولا أساسيا في وجبة الإفطار في إنجلترا وفرنسا، وارتبطت بالمتعة والترف، وذكرت في خطابات الماركيز دي ساد، وجين أوستن.

ميكانيكا الشوكولا

حتى هذا الوقت، كان الكاكاو يطحن يدويا، رغم ظهور المطاحن عام 1729، إلا أنها كانت مكلفة، وفي عام 1770، بدأت ورش الشوكولا باستخدام طواحين بطاقة المياه، انتشرت من فرنسا إلى المانيا والنمسا، ودخلت أمريكا الشمالية عام 1765 في ماساشوستس، ثم استعيض عنها بمطاحن البخار.

بدأت صناعة الشوكولا في أخذ طابع مؤسسي أكبر، وفي الوقت الذي تدفقت فيه حبوب الكاكاو من المستعمرات الإسبانية والبرتغالية، بأمريكا الجنوبية في القرن 18، بدأ التفكير في إنتاج هذه الثمار بمواقع جديدة، لتساير الاستهلاك المتزايد، ولا تزال الشركات التي ابتكرت طرق تصنيع الشوكولاة  في البدايات هي الشركات التي تحتكر إنتاجها إلى الآن، بدأت في شكل مصانع بسيطة، تحولت إلى تحالفات بأسماء تجارية لامعة.

تعرضت صناعة وإنتاج الشوكولاة إلى أزمة، بسبب حروب نابوليون، وتعذر الوصول إلى المستعمرات الإسبانية، تعافت صناعة الشوكولا سريعا، وبدأ التحول من المشروب السائل إلى الشوكولاة الصلبة الصالحة للأكل، في البداية صنع الكيميائي الهولندي كونارد فان هوتن، مكبسا هيدروليكيا لاستخراج زبدة الكاكاو، واشترى الإخوة كادبوري من برمنجهام ومصانع جي إس فراي تلك المكابس بين عامي (1860- 1866)، وأدخلوها مصانعهم لإجراء التجارب من أجل صناعة حلوى الشوكولا الصلبة.

بدأ فرانسوا لويس كيلر، رائد شركة “نسله” المعروفة، وفيليب سوشارد في إتقان طرق طحن الشوكولا ميكانيكيا، وقام دانيال بيتر من شركة كلير بمزج الحليب المجفف مع سائل الشوكولا ووضعه في قوالب، وتوصل رودولف ليندت لإلى تثنية “كونشينج” لمعالجة الشوكولاة عبر غسطوانات من الجرانيت، حيث تكون مادة صلبة، يضاف إليها زبدة الكاكاو أثناء الكبس، وهو ما يزال قائما إلى الآن، وبعد ذلك تحولت خطوات عملية تصنيع الشوكولا الي الطريقة الآلية بشكل كامل.

مع الوقت أصبح بإمكان العامة استهلاك الشوكولا، وتحولت من مشروب مترف إلى وجبة مغذية، أضيفت إلى جرايات طعام جنود البحارة الملكية في بريطانيا، وانتشر الأمر مع معظم الجيوش الأوروبية.

ومع تزايد استهلاك الشوكولا عالميا، لجأت بعض المصانع لتعزيز الحجم والنكهة ببعض الإضافات، مثل نشاء البطاطس، وطحين البازلاء، وقشور حبوب الكاكاو، وغضاافت ضارة أخرى، دفعت بريطانيا لإصدار قانون الأغذية والمخدرات وقانون تلوث الأغذية، لوضع معايير ثابتة لهذه الإضافات للحفاظ على صحة المستهلكين.

“إن أمر الشوكولا مُعقَّد” – سارة موس

محزن لكن حقيقي

في نهاية القرن التاسع عشر، نقل المستعمر الوروبي زراعة الكاكاو إلى مستعمرات الغرب الأفريقي وغانا، وهي الدول التي أصبحت الآن أكبر مصدر للكاكاو، الذي تتصدر ساحل العاج أكبر منتجيه عالميا.

وهكذا بدأت صفحة دامية في تاريخ الشوكولا، التي تحولت إلى منتج مترف للأغنياء يأتي على طبق من دماء الفقراء، ليس هذا فحسب بل وكانت مسرحا للعنصرية ضد السود، وحتى وقت قريب كانت حلوى الكريمة بالشوكولا تسمى بـ ” NegerKusse”، وتعني قبلات زنجي، أو ” MohrenKopfe”، بمعنى رؤوس مور، في إشارة إلى المغاربة السمر.

ليست التسمية فقط، بل وحتى أغلفة الشوكولا التي تعد صناعة داخل صناعة، فكانت ترسم على الغلفة مناظر لأشخاصة داكني البشرة في صورة مهرجينيطحنون حبوب الكاكاو، وكانت الإعلانات التلفزيونية، تربط السود دوما بإنتاج الشوكولا.

ورغم انتهاء عهد الرق والعبودية، لا تزال الدول الأفريقية المستعمرة تعاني من ميراث الدم في مزارع الكاكاو.

قد لا تلاحظ كم أنت محظوظ لوجود عائلة تحبك، وسقف للعيش في وجود تعليم وصحة وصرف صحي، تخيل أنك طفل في سن من 9 إلى 16 سنة، تعيش في دولة ساحل العاج غرب افريقيا، وتضطر كل يوم للعمل في مزارع الكاكاو، دون ان تذهب إلى المدرسة، ودون أن يدفع لك حتى، كل ما تخرج به هو وجبة طعام تثير الاشمئزاز، وتخيل رغم كونها فكرة محزنة لكنها حقيقية، أن هذه هي ظروف قطاع عريض من الطفال في غرب أفريقيا.

يأتي نحو 70% من إنتاج الشوكولا العالمي من غرب أفريقيا، نصف هذه النسبة من ساحل العاج وحدها، ويعمل أكثر من 1.8 مليون طفل في منطقة غرب أفريقيا في زراعة الكاكاو، من أجل قطع فروعه ، وفصل قرون الثمار بالمناجل في عمل لا يناسب طفولتهم، يعملون مع مبيدات خطرة، ويحملون نحو 30 كيلو جرام من الكاكاو لأكثر من 10 كليومترات، دون أن تكون لديهم حتى أجرة العودة إلى الديار، حيث يكسب مزارعو الكاكاو أقل من دولار واحد في اليوم، ما يضعهم تحت خط الفقر.

وأنت تمسك بغلاف الشوكولا لا تعرف من أين جاءت حبوب الكاكاو المستخدمة في إنتاج النوع الذي لا تحبه، بل وتجد عبارة مثل”تجارة عادلة ومعتمدة”، ولا يتضمن ذلك أية إشارة إلى استخدام عمالة الأطفال.

سرقة الطفولة

وعلى الرغم من الجهود الكبيرة، والمحاولات الحكومية وغير الحكومية لوضع برامج تمنع استرقاق الأطفال، إلا ان هناك صعوب في ذلك ما لم تتخذ شركات الشوكولا قرارا بدعم هذه المشكلة، فهم عندما يشترون حبوب الكاكاو من مزارعين استرقوا الأطفال، وأنت حين تتناولها، فأنت مشارك في هذه الجريمة.

وفي عام 2010، اضطر مؤسسو عملية التصديق على التجارة العادلة إلى تعليق المعاملات مع بعض الموردين من غرب أفريقيا، بعد وجود أدلة على استخدامهم للأطفال.

و”ينعكس “استعباد الكاكاو للأطفال، على تحقيق الأهدا الإنمائية للألفية ، حيث يتعرض الأطفال للجوع، نظرا لتدني الأجور، كام يضطرهم العمل في حقول الكاكاو إلى التغيب عن الصف،  وفي عام 2012، كانت نسبة الأطفال في سن المدرسة الابتدائية خارج المدرسة وصلت إلى 58 مليون طفل، وهو رقم مرتفع جدا.

تعتقد شركات الشوكولا الكبرى أنه من خلال شراء حبوب الكاكاو من المزارع التي تستخدم الأطفال، سيزيد من دخل هؤلاء الأطفال، فيتمكنوا من الذهاب إلى المدرسة وبالتالي هم يقدمون إليهم تعليما، وهو أمر غير حقيقي.

وحققت شركة “مارس”، أرباحا يقرب من 16.8 مليار دولار، بينما حققت “نسله” 12.808 مليار دولار، أما شركة “هيرشي” أكبر مصنع للشوكولا في أمريكا الشمالية فحققت 6.660 بليون دولار، ووصل أرباح شركة “فيريرو سبا” الإيطالية إلى 5.637 مليار دولار،  وهو غير عادل مقارنة بما يحصله الأطفال.

هل تجد أن دوامك في المدرسة لمدة 8 ساعات أمرا أكثر من اللازم؟، تذكر أن الأطفال في مزارع الكاكاو يضطر ون إلى العمل 12 ساعة في اليوم الواحد وينامون متكدسين في كابينة صغيرة، ويتسلقون الأشجار دون مساعدة، يتناولون القليل من الطعام، أو لا يتناولون على الإطلاق، ويستخدمون المناجل الضخمة لشق الثمار مما يتسبب في الندوب على أيديهم وأذرعهم، والأسوأ هو الندوب النفسية التي يصعب علاجها، خاصة وأن عليهم تحمل كل هذا الألم مهما أضر بهم.

ويتحول الأمر بمرور الأيام إلى مشكلة مثيرة للجدل معالجتها أمر مستحيل، فلا توجد إمكانية لتغيير حياة هؤلاء الأطفال الذي يتنامى عددهم بالآلالف كل يوم، يتم إغراؤهم بحياة رغدة وثراء كبير، ليختطفوا ويعيشوا جحيما لا ينتهي.

و لاتكفي المبادرات المحلية وحدها لحل الأزمة، فكثير من أصحاب مزارع الكاكاو لا يفكرون إلا في كسب المال، دون النظر لأحوال من يعملون في مزارعهم، ، كما أن الشركات الكبرى لا تعير انتباها لما يحدث للأطفال لكونهم عمالة رخيصة، وجودها سيحافظ على انخفاض الأسعار، لذا يلجا الكثير من الناشطين لإطلاق دعوات للتوقف عن شراء الشوكولا، ومقاطعة المزارعين الذين يسترقون الأطفال.

ربما يعجبك أيضا