إن الشرق يبدأ من القاهرة.. كيف أعادت “فاتنة المعز” الروح إلى أوروبا

أماني ربيع

أماني ربيع

“إن الشرق يبدأ من القاهرة” – جوستاف فلوبير

تقترب قوافل التجار والمتعبين من قاهرة المعز فتعانق أعينهم أعمدة مزخرفة زُين أعلاها بالأهلة المفتوحة على براح السماء وكأنها أكف مبتهلة إلى رب الكون.

كانت سماء القاهرة دومًا موشاة بالمآذن كما تُرسم الحناء على معصم الحسناء ليلة العرس، وعندما يحين الأذان تنطلق أصوات المؤذنين عذبة في زفاف يعرج إلى سموات العلا خمس مرات في اليوم.

القاهرة في الأساس هبة الإسلام ورائحتها كـزهرة حضارة شرقية لم تتجل إلا مع أول غرسة لمسجد على أرض المحروسة إثر فتح عمرو بن العاص لمصر.

لكن الحلواني جوهر الصقلي هو من وهبها روحها ولقبها «القاهرة»، وكانت مساحة قاهرة جوهر 340 فدانًا تقريبًا، 30 فدانًا منها كانت للبساتين والمروج، ومثلها للميادين، وقسمت المساحة الباقية إلى عشرين حارة، تحولت هذه الحارات فيما بعد إلى شوارع وأحياء.

انغلقت أبواب القاهرة الثمانية على ملحمة تاريخية بطلها المعمارعلى النسق الإسلامي لتثرينا بروائع أولها كان الجامع الأزهر لتزدهر فيما بعد وبخاصة في عهدي الأيوبيين والمماليك، وتبنى المساجد الجامعة إما إرضاء لوجه الله أو رغبة في تخليد أسمائهم لتبقى ببقاء عمارتهم البديعة فأتحفتنا القاهرة بجوامع مثل الحاكم بأمرالله وجامع الأقمر ومسجد السلطان الظاهر برقوق، وجامع المؤيد وغيرها من آيات الجمال المعماري.

وهبت مآذن تلك الجوامع القاهرةَ لقبها كمدينة الألف مئذنة، نسبة إلى حلقة المآذن التي تعددت عصور بنائها فتظهر لنا من بعيد نحيلة رشيقة ولحظة الآذان تبدو وكأن الحياة قد دبت في حجارتها لتقدم لنا أرشيفًا حيًا من التاريخ والذكريات.

ومع قدوم الحملة الفرنسية أصبح الشرق هو عالم الأحلام والقاهرة بوابته، فكانت بداية انفتاح الغرب على هذا العالم المجهول، الثري والبكر، وكانت الحملة الفرنسية بوجهها الحضاري والإنساني بداية نهضة شرقية وإنسانية جديدة شكلت الحلم في إيجاد بديلا جديدا عن الميراث اليوناني التقليدي.

كانت روح الشرق بمثابة إعادة صياغة لكثير من المفاهيم الثقافية والفلسفية الأوروبية، فعكف العلماء والمفكرين على دراسة وقراءة الكتب القديمة، وفك طلاسمها ليصبح الشرق فكرة تجسد مفهوم الاستقرار مقابل الأوروبي المتغير.

وخلال القرن التاسع عشر أصبحت القاهرة قبلة الإلهام، لدرجة أن الفنان تيوفيل جوتييه كان يحث على الرحيل إلى الشرق الذي أصبح ضروريا مثل الحج إلى إيطاليا، يحثهم على الذهاب لرؤية الشمس والحياة الفطرية، والألوان الحية الفتية.

وكان الأسلوب التجريدي الذي انتهجته العمارة الإسلامية جديدا على نفوس الأوروبيين التي تعتمد أيقونات كنائسهم على التصوير التشخيصي الأمر الذي أدى إلى صبغ ماهو ديني بصبغة انسانية ودنيوية، لكن الزخرفة الإسلامية -وكما يقول مارسيل بريون في كتابه «تاريخ الفن التجريدي»- تخلصت رغبة منها في اتحادها بما هو مقدس من عقبة التصوير والتشخيص لتعبر عن القيم الروحية التي تمثلها وذلك عبر الطابع التجريدي.

وكان العامل المسلم الذي يمتلك أنامل فنان يعمل وهو يستشعر في نفسه الحضرة الإلهية بعد أن رسخت في نفسه عقيدة الإله الواحد العلوي الأزلي ذي الكمال المطلق الذي ليس كمثله شئ  فلا يمكن إدراك هيئته ومن ثم لا يمكن تصويره أو تشخيصه، ولا يملك فنه أسلوبا يتفق مع الدلالات الروحية للإسلام سوى الأسلوب التجريدي، لذا وكما يؤكد المؤرخ الفرنسي بريون فإن “الفن الإسلامي يعتبر من أنبل محاولات الروح الإنسانية في سبيل التغلب على النهائي والعرضي والمشكوك فيه والعابر.” 

كل هذا كان غريبا وغير مسبوق على عقلية رجل الغرب العملية الباردة، التي جاءت إلى القاهرة وسحرت بفتنتها، ونقل الفنانون السحر الكائن فى عمارتها وأزيائها إلى لوحات خلدت فيها الريشة والألوان تاريخا من الإبداع والفن.

وأصبح الفن الإستشراقي موضة العصر، جذب الكثيرين مثل الرسام الأسكتلندي ديفيد روبرتس، والنمساوي لودفيج دويتش، والفنان البريطانى والتر تيندال، والأسترالى ألفونس ليوبولد، ماريلا، إلى جانب النحات الفرنسي الشهير جان ليون جيروم.

كانت الفرشاة والألوان أشبه بكاميرا تسجل أدق التفاصيل، كانت عينا على ذلك الجمال البكر الذي لم تلوثه الحضارة بعد بدخانها وزحامها الخانق، كانت تلك العين العاشقة للجمال تجوب شوارع القاهرة وحواريها لتبحث عن الإبداع في كل بناء شيد بفن ومحبة.

وكتب الفنان الألماني كارل هاج إلى أصدقائه، متحدثا عن القاهرة قائلا، “هي قاهرة واحدة في العالم كله تتألق في وقار وجلال على ضفاف النيل العظيم”.

كل هذا مع أصداء ترجمة أنطوان جالان لـ «ألف ليلة وليلة» التي كانت لا تزال تتردد في أوروبا، بعد أن ألهبت عقول الغرب وكأنها تفاحة الغواية سقطت في حجورهم في دعوة إلى اختراقها وسبر أغوارها، جعل القاهرة تجتذب الرحالة والأدباء والفنانين الأوروبيين، الذين فروا من برود أوروبا ودخانها، وماديتها بحثا عن دفء الحياة ورائحة التوابل الشهية، والثياب المزركشة، وأصبحت المدينة الشرقية بمرور الوقت منارًا يلقي بضيائه على الفن التشكيلي العالمي.

كانت لوحات هؤلاء الفنانين الذين مستهم روح الشرق، بمثابة تأريخ لتلك الحقبة الزمنية، لم يلتفتوا للقصور والوجهاء، بل نزلوا الى الشوارع والسواق ليصوروا الحياة العادية في حواري القاهرة وعطفاتها وأزقتها، صورا حبست بين طياتها لحظات زمنية من تراث المحروسة، شوارع وأسواق ومقاهي وحريم، بيوت ومآذن وآسبلة وتكايا تشهد بروعة فنون العمارة الإسلامية فكانت أشبه بباقة ثرية تحمل لنا لمحات من الماضي الجميل

ربما يعجبك أيضا