“شاعر الأطلال” إبراهيم ناجي.. كم من زهرة عوقبت لم تدر يوماً ذنبها؟

أماني ربيع

أماني ربيع

الساعة الحادية عشر مساء على إذاعة الأغاني موعدنا اليومي مع “الست”

“أعطني حريتي واطلق يديّ  إنني أعطيت ما استبقيت شيئا”

“آه آآآآه عظمة على عظمة يا ست”

أم كلثوم تصرخ من فؤاد موجوع تستنكر حبيبا قاسيا التفت حبائل أسره حول الروح فخنقتها فلا هو معها فتسعد ولا هي تنساه وترتاح.
تواصل ثومة “ آه من قيدك أدمى معصمي لم أبقه، وما أبقى عليّ؟!”.

أجواء من الخشوع تهيمن على الصالة وصوتها – ثومة – القوي المعجون بالشجن، يواصل التحليق في فضاءات من نور.

تغزل أم كلثوم أبيات الشاعر الرقيق إبراهيم ناجي في ثوب فخم مرصع بذبذبات حنجرة ذهبية، ولحن رصين وموسيقى سماوية من إبداع الموسيقار رياض السنباطي، لتخرج لنا رائعة الأطلال” قصة حب عاثر،  التقيا وتحابا ثم انتهت القصة بأن صارت بكاء على أطلال روح.

“يا فؤادي، رحم الله الهوى  كان صرحا من خيال فهوى”

لم يكن إبراهيم ناجي ليجد أفضل من «الست» لتروي حكاية حبه العاثر الذي طالما عنه الدمع روى.. قصة بسيطة هي تحدث في أي مكان في أي زمن، عندما يختبئ الحب ليلا عن أعين الكائنات يشتعل سُكرا في لقاء يحرسه القمر، لكن يموت الليل على أعتاب الفراق فيبزغ الفجر ويفيق المحبون من سكرتهم ليكون النور إيذانا بالوداع.

“كلُّ شيء صار مرًّا في فمي بعدما أصبحتُ بالدنيا عليما

آه من يأخذُ عمري كلَّه ويعيدْ الطفلَ والجهلَ القديما!”

يبدو أن عظمة ناجي الطبيب الشاعر قد اختصرت في قصيدة  «الأطلال»، التي يعرفها جيدا مستمعوا الست والتي صنفت ضمن أعظم مائة أغنية على مستوى العالم في الرن العشرين، كما يعرفه جيدا طلبة الثانوي في مصر بقصيدة «صخرة الملتقى» المقررة عليهم في مادة اللغة العربية.

تفتحت موهبة ناجي، الشعرية باكراً، حيث نظم الشعر وهو في الثانية عشرة من العمر ومن شعره في الصبا قصيدة قالها وهو في الثالثة عشرة من عمره، عنوانها “على البحر”، وفيها يقول:

“هل أنت سامعة أنيني

يا غاية القلب الحزين

يا قبلة الحب الخفي

وكعبة الأمل الدفين

إني ذكرتك باكياً

والأفق مغبرُّ الجبين”.

بدأ حياته الأدبية عام 1926 بالترجمة خاصة وأنه كان مجيدا اللغة للإنجليزية والفرنسية والإيطالية، والألمانية، فترجم أشعار ألفريد دي موسييه، وسير توماس مور، وبودلير وهايني، والتي نشرت في مجلة «السياسة» الأسبوعية، كما  ترجم عن الإنجليزية رواية «الجريمة والعقاب» لديستوفسكي، وعن الإيطالية رواية «الموت في إجازة»، وكانت ترجماته أكبر حافز له على التجديد في شعره ، كما حرضت شعراء جيله على التجديد أيضا .

كانت الانطلاقة الشعرية الحقيقية له هي انضمامه لجماعة «أبوللو» الشعرية عام 1932 والتي صار من أعلامها تلك الجماعة التي حرر مؤسسوها القصيدة العربية من أغلال الكلاسيكية والخيالات المتوارثة ، وكان من أبرز روادها، أحمد زكي أبو شادي  –  المؤسس – علي محمود طه، وعلي العناني، وكامل كيلاني وجميلة العلايلي.

مثلت «أبوللو» أخر مراحل الحركة الرومانسية وقمة نضوجها، بعد مدرسة خليل مطران ومدرسة «الديوان» للعقاد والمازني، وبرغم تأثر شعراؤها بالشعر الرومانسي الأوروبي ، وبخاصة الإنجليزي نتيجة لسعة ثقافتهم وإجادتهم للغات الأجنبية الذي مكنهم من الاطلاع على الآداب الأوروبية و الروسية، إلا أن ناجي نهل من تراث الثقافة العربية القديمة، ودرس العروض والقوافي وقرأ دواوين المتنبي وابن الرومي وأبي نواس وغيرهم من فحول الشعر العربي.

تأثر ناجي، في شعره بالاتجاه الرومانسي للشعراء الإنجليز، شيلي وبايرون، كما اشتهر بشعره الوجداني الميال إلى أجواء الحزن والفقد.
“أيها الشاعر كم من زهرة, عوقبت لم تدر يوماً ذنبها !”.

وشعر ناجي ذاتي، يكاد يكون خالصاً للحب والوجدان، بل للقهر والحرمان، فهو يعبر عن حب محروم، ويصدر عن رؤية متشائمة، ونظرة حزينة، وروح مكتئبة، فالأمل غائب، واليأس حاضر، والدموع تنهل غزيرة، والحرمان هو السائد، والشقاء هو المسيطر، ولا سيما شقاء المرأة، وهو يراها دائماً طهوراً نقية، على الرغم مما قد يحيط بها من شقاء، أو على الرغم مما تعيش فيه من انحدار وسقوط، ذلك أنها نقية الروح، وإن كانت ملوثة الجسد، وهو بذلك يعبر عن مقولة “البغي الطهور” التي نادى بها الشعراء والكتاب الرومنتيكيون.

وعبر عن هذه النظرة الرومنتيكية في قصيدته المطولة «قلب راقصة» ، وفيها يصور دخوله ذات ليلة إحدى الملاهي، ورؤيته راقصة، وعيون الرواد شواخص إليها تقتحم مفاتنها، ولا تبغي منها إلا الجسد تشتريه بالمال، وقد دعاها إلى غرفته فلبت الدعوة، وجالسها، وحاورها، فرأى فيها مرآة ذاته، إذ وجدها تحمل بين جنبيها روحاً نقية معذبة، قد طهرها من الإثم الصبر والألم، ومن القصيدة قوله:

“من أنت يا من روحها اقتربت

مني وخاطب دمعها روحي

صبته في كأسي وما سكبت

فيه سوى أنات مذبوح

لا تكتمي في الصدر أسراراً

وتحدثي كيف الأسى شاء

أنا لا أرى إثماً ولا عاراً

لكن أرى امرأة وبأساء”.

تصفه الدكتورة نعمات أحمد فؤاد قائلة : ” كان شعره صورة من نفسه، ونفسه طالما عصرها الألم، أما النكتة فهي تنفيس عن ذلك الألم من نوع آخر، تنفيس ضاحك، حين كان الشعر تنفيساً باكياً”.

ونجده دائماً يعبر عن ن شعور بالوحدة، وإحساس بالخيبة والهزيمة، وتدل على ذلك عناوين قصائده، ومنها: «رسائل محترقة»، و«الأطلال»، و«السراب»، و«الشك»، و«ظلام»، و«وفي ظلال الصمت»، و«الناي المحترق»، يغلب عليه التعبير عن الألم، كأنه رثاء للذات من خلال رثاء الحب، ولم يبق سوى الذكريات المرة، و«بقايا حلم» زائل، وله قصيدة بعنوان «الطائر الجريح»  يعبر فيها عن شعوره بالوحدة يقول فيها:

“الطائر الجريح”، فيقول:

إني امرؤ عشت زما

ني حائراً معذباً

أمشي بمصباحي وحيـداً

في الرياح متعبا

أمشي به وزيته

كاد به أن ينضبا

عشت زماني لا أرى

لخافقي منقلبا

مسافراً لا قوم لي

مبتعداً مغتربا

فراشة حائمة

على الجمال والصبا

تعرضت فاحترقت

أغنية على الربا

تناثرت وبعثرت

رمادها ريح الصبا”.

اتبع ناجي البحور الخفيفة، رغبة منه في التجديد والتنويع ، وأكثر من النظم على البحور المجزوءة، وتنويع القوافي التي لم  يلتزم فيها الوحدة، كما اعتنى باختيار الألفاظ الرقيقة ، وتكثر في شعره ألفاظ حسية من مثل «الدموع والدم والرماد والشموع والظلام والعنكبوت» كما تكثر ألفاظ مجردة أخرى مثل «الماضي والبلى والزمان والشك والحزن والوحدة»، بالإضافة لإكثاره من الصفات التشخيصية الدالة على المعاناة والألم مثل «الماضي الجريح والظلمة الخرساء ومشرد الأمل».

واجه ناجي، نقداً عنيفاً عند صدور ديوانه الأول من العقاد وطه حسين معاً ، ووصف طه حسين ، الذي كان يشرف على تحـرير مجلة «السياسة» التي كتب فيها ناجي أول قصائده «صخرة الملتقى» في 6 أغسطس عام 1927، شعره بـ ” شعر الصالونات الذي لا يحتمل الخروج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه”.

وتأثر شاعرنا الرقيق بهذا النقد فسافر إلى لندن وهناك دهمته سيارة عابرة فنقل إلى مستشفى سان جورج، ولفترة طويلة عاشت هذه التجربة المؤلمة في أعماقه.

توفي  ناجي في الرابع والعشرين من شهر مارس في عام 1953، تاركا وراءه عددا من الدواوين منها «وراء الغمام 1934» ، «ليالي القاهرة 1944»، في معبد الليل «1948» ، الطائر الجريح «1953» ، وغيرها.

ربما يعجبك أيضا